... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
على من تقع مسؤولية النهوض بالواقع الثقافي ؟

وائل المرعب

تاريخ النشر       23/12/2007 06:00 AM


يكاد يجمع المهتمّون بالشأن الثقافي العراقي أن الوعي الجمعي بلغ أعلى منسوب له ابّان فترة السبعينات من القرن الماضي ، ويعود ذلك لسببين رئيسيين

أولهما ان هذه الفترة شهدت ولادة جبهة وطنية سمحت لليسار العراقي الذي له

الفضل في تأسيس المشهد الثقافي العراقي منذ عشرينات ذلك القرن ، في أن يمارس نشاطه الثقافي المعلن عبر صحفه ومنشوراته ، وثانيهما ان فترة السبعينات أعقبت فترة المخاض الستيني الذي أعتبر نقله نوعية في طبيعة الخطاب المعرفي ، اذ هبّت رياح الحداثة فيه لتقتلع جذور المألوف والمتوقع والمباشر في القصة والشعر واللوحة والمسرح وحتى في الموسيقى ، اذ تراجع

أسلوب المحاكاة والتماثل والنقل الفج للواقع وأنزوى خجلا وراء الرؤى الجديدة التي تحاول تهديم بنى الواقع وأعادة تركيبها من جديد وفق التصورات الجانحة والأخيلة المشاكسة والنزقة للفنان أو الأديب ، فبرز مثلا في التشكيل رموزا مهمّة رسّخت المفاهيم والملامح الحداثوية والمعاصرة لهذا الفن ، وأضحت مرجعيات فنية خيمّت بتأثيراتها عموم الساحة التشكيلية حتى يومنا هذا .
وكذلك الذي حصل في الشعر ، اذ لا زالت طرية في أذهاننا نحن الذين وعينا تلك المرحلة محاولات فاضل العزاوي الجريئة في أقتحام المجهول من النص الشعري والتلصّص على ما يعتمر داخله ، والتعامل مع الغموض والتهويمات اللفظية وتجريد المفردات المتداولة من ثيابها القديمة لتظهر بمقاصد جديدة غريبة على مدركات العامة من الناس ، وكذلك ما فعله فوزي كريم وآخرون كمحاولة لأستلاب المفهومية الجاهزة من المتن الشعري وتحفيز ذهن القارىء
وشحن انتباهاته كي يصبح مهيئا لتحسس ما ينقله الجو العام للقصيدة من حس وعاطفة والأستمتاع بالجرس والايقاع الداخلي بعيدا عن النمط المتعارف في أيقاع التفعيلة ، وقبل الخوض في تفكيك وربط مفرداتها كي تكون ذات دلالات

واضحة وجاهزة للفهم العام . كما أنسحب ذلك على القصة والمسرح والموسيقى ولو بدرجات أقل لكون التشكيل والشعر هما السمتان الغالبتان على

المشهد الثقافي العراقي .

الاّ أن النكوص في الخط البياني للوعي والمعرفة والثقافة بدأ اعتبارا من عام

1980 وهو عام بدأ حرب الثمان سنوات المدمرة مع ايران ، والعام الذي شهدت فيه الجبهة الوطنية الهشة نهايتها ، اذ لم يبق في الساحة السياسية والفكرية غير حزب وفكر السلطة ، وتحّول خطاب المنجز الابداعي الى خطاب

تعبوي مسخر لخدمة المعركة ، فاكتسى المنتج الفني والأدبي أردية السطحية

والمباشرة والخطابية الساذجة ، رغم محاولات البعض من الفنانين والادباء

النأ ي بأعمالهم كي لا تسقط فريسة لهذا المنحى .

أمّا الأنحدار الخطير الذي سحب معه الخط البياني للوعي الجمعي الى أسفل

نقطة في الاحداثيات جاء بداية التسعينات بعد مغامرة احتلال الكويت وذلك لأسباب عدة أهمها :

أولا - خلو الساحة من أي فكر او تنظيم عدا فكر وحزب السلطة الذي

تقوده العقلية العشائرية والقبلية المتخلفة .

ثانيا - أنهيار التحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية برمتها بمطرقة

البيروسترويكا ، وما صاحب ذلك من أنطفاء وهج المثال الذي كان يضيء في

ذهن الكثيرين من الشباب الذين كانوا يؤمنون بأفضلية الفكر الماركسي وحتمية

انتصار الشيوعية والمولعين بأغراءات المادية وتفسيرها المقنع للوجود ، لذلك لم يجدوا وسط هذا الفراغ غير طريقين .. أمّا الانخراط في صفوف حزب السلطة الذي لم يرق للكثير منهم أو الاتجاه الى الحضن الديني والسلفي الدافىء

والجاهز والمهيأ لأستيعاب الكثيرين .

ثالثا - أن مرحلة الحصار الأقتصادي والثقافي والعلمي التي مرّ بها

الشعب العراقي حتى عام 2003 رمت بثقلها لصالح تدمير مقاومة الفرد العراقي وأنهاكه وتركيعه وكما يلي :

1- لمّا كانت فئة الموظفين هي الفئة التي تمثل عماد الطبقة الوسطى التي تقود

المجتمع والتي تشرف على ثقافته ، أصيبت بالضرر الأكبر نتيجة تدني راتب

الموظف الى دولارين في الشهر ، مما جعله يتفرّغ كليّا لأيجاد مخرجا لوضعه

المأساوي ، مما أضطر مجاميع كبيره منهم الى ترك العراق للبحث عن فرصة عمل يسدون بها رمق عائلاتهم ، ولجأ البعض الآخر الى أستخدام سيارته الخاصة كسيارة أجرة أو أضطر الكثير منهم الى أن يفرشوا ( بسطية ) على رصيف الشارع يبيعون فيها أدوات بيوتهم ، وتخلـّى الغالبية منهم بسبب ضغط الحاجة القاسي

عن تأريخه الأخلاقي وفرّط بذمته المقدسة ليتحول الى مرتشي رخيص .. وفي كل الاحوال خسر المجتمع العراقي هذه الفئة وانتهى فعلها الثقافي تماما .

2- ان منع النظام أستخدام كل وسائل الأتصالات الحديثة كالستلايت والانترنيت والهاتف النقال عن الفرد العراقي ، وغياب المنشورات والمجلات والكتب الثقافية والعلمية والفنية الجديدة ، ومنع عملية التلاقح المعرفي والثقافي

مع دول الجوار والعالم ، جعل ذهن الانسان العراقي يتحّرك في حيز محدود

ومغلق يجتر معارفه دون أن يطرأ جديد عليها بسبب حجب المعلومة الجديدة

ومنع تسرّب الهواء النقي الى ذلك الحيز المختنق بهواءه العطن الفاسد .

3- منع حرية التعبير كليّا عن المواطن العراقي ، عمّق لديه شعورا هو مزيج من الحنق والخوف .. هو رغبة في الانتقام وفي نفس الوقت هو فوبيا مرضية من النظام ، لذلك اصبح المواطن صريع هذا التناقض في المشاعر ، وتعطلت

لديه القدره على القراءة ومتابعة الانشطة الفنية والمعرفية معتبرا اياها بطرا ونوعا من الترف البرجوازي .

وبعد الأحداث الدراماتيكية التي عصفت بالعراق في نيسان 2003 وسقوط كل مؤسسات ذلك النظام وقيمه وأنهيار كل الاجهزة التي كانت تراقب أختراق الممنوعات ، هرع الناس بعد أن دعكوا عيونهم لتصديق ما حدث الى نصب

الصحون اللاقطة على أسطح منازلهم لكي يطلّوا لأول مرة على العالم ومعرفة ما يجري ، وأن يلوّنوا رؤاهم التي أصطبغت باللون الرمادي طيلة عقود من الزمن ، كما أتيح لهم ان يؤسسوا شبكات الأنترنيت التي فتحت ابواب تدفق

المعلومات امامهم ليغرفوا ما شاؤوا منها . وبفضل ذلك وبالرغم من حصول ما كان متوقعا من اعمال عنف دامية أعقبت التغيير الاّ أن مؤشر الوعي تحرّك قليلا نحو الصعود لكنّه ظل في مستوى متدني جدا بسبب حجم الردّه المعرفية والحضارية وسرابها المخادع والتي أغوت الكثير من الشباب وحتى من الجيل الذي وعى المجد الثقافي الذي وصل اليه العراق قبل ثلاث عقود .

ولكي يسارع هذا المؤشر نحو الارتفاع بتعجيل مضاعف للوصول الى مرحلة الوعي والثقافة ابّان فترة السبعينات أو تخطيها ان أمكن ذلك ، علينا أن

نرجع خطوة للوراء كي نتقدم خطوتين للأمام وهذا يحتم على الكتاب والفنانين

كي يساهموا بشكل فاعل ومؤثر ، أن يتخلوا عن بعضِ من كبريائهم الأبداعي وأن يحرصوا على انهاء القطيعة بينهم وبين القاريء أو المشاهد ، وأن ينسوا

ولو لفترة أن يوجهّوا خطابهم الأدبي أو الفني الى النخب الثقافية لأنهّا لم تعد موجودةبالأساس في العراق ، فالغالبية العظمى منها وجدت لها مرتعا باردا في

الخارج .. وأن يتذكّروا ان ازالة هذا الركام الثقيل من الجهل والخرافة والأمية

الذي خلفته الردة الثقافية والمعرفية هو مسؤولية أخلاقية ووطنية قبل كل شيء

والنهوض بهذه المسؤولية يستلزم أن يكون العمل الأدبي والفني ضمن شروط

( المفهومية ) كما يسميها الشاعر زهير القيسي ، وأن لا يكون بعيدا عن مدارك

طبقة المتعلمين على أقل تقدير .. أليس غريبا ومثيرا للدهشة أن يطلب مقدّم برنامج ( سيرة مبدع ) الذي قدّم في رمضان ، من أحد المبدعين الذي أكن له كل الأحترام أن يقرأ قصيدة من قصائده فيجيبه : الشعر لا يحفظ ولا يقرأ ، فيردّ

عليه المقدّم : أذن لمن تكتب ؟ فيجيب : الى أنسان لا مرئي .. الى أنسان لا وجود له !!!!

هل ممكن أن نقبل هذا الطرح في هذا الزمن العصيب الذي تحتضر فيه الثقافة أمام أعيننا دون أن نهرع لنقدّم لها الأسعافات الأولية وأنقاذها قبل أن تلفظ

أنفاسها الأخيرة ؟!!


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  وائل المرعب


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni