... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
فؤاد التكرلي ...شمس عراقية أخرى تغيب

مي مظفر

تاريخ النشر       22/02/2008 06:00 AM


قبل أيام ودَّعنا فؤاد التكرلي (1927-2008)، أو ودّعْناه، فتوارت عن أنظارنا شمس أخرى من شموس العراق التي ظلت مشرقة منذ خمسينيات القرن الماضي حتى الأمس القريب. وهو آخر من ودّعنا من هذا الجيل الذي تميز بعبقرية أبنائه. لعل الأسى الوحيد الذي خالج قلبه، وهو يواجه قدره زاحفا إليه وملتهما قواه من الداخل، أنه سيترك وراءه ابنا يافعا وزوجة محبة. فقد رحل فؤاد في وقت لا يشعر المرء فيه بالأسى على مفارقة الحياة، رحل في زمن الأفول الكبير وشهد بقلب كسير كيف انهار في ساعات بنيان عقود طويلة من الزمن، وأين منه ذلك الزمن الذي نهض بأبنائه ونهض به أبناؤه؟
لا عجب أن نرى أعمال فؤاد الأدبية تقف طويلا في زمانها عند منتصف القرن العشرين. فالخمسينيات من ذاك القرن شهدت نهضة تعليمية وثقافية وعمرانية باهرة، كان مشاركا فيها حاكما في قضاء نزيه، ومبدعا رائدا بلا منازع في فنون السرد الحديثة. كان العراق في مرحلته تلك يشهد غليانه الثقافي، كما يشهد ثورة فنية وشعرية وضعته، في زمن قياسي، في طليعة العالم العربي. يومها كانت بغداد تشهد ازدهار نشاط الطبقة الوسطي التي تعاضد أبناؤها لبناء حياة ثقافية متكاملة. تلك الحقبة التي قال عنها فؤاد في إحدى مقالاته الأخيرة في جريدة الزمان:"أحد الذين عاشوا تلك المرحلة المزدهرة من تاريخ العراق الثقافي، التي سعيت جاهدا إلي إبرازها للعيان علي حقيقتها، وأني من المتبقين القلائل الذين يشعرون بأن عليهم أن يرفعوا أدرعهم عاليا مشيرين بفخر إلي تلك الشمس التي غابت علي حين غرّة."
لعل عزاءه وهو يتطلع إلي الوراء أن يري سعيه المثمر في توثيق الزمن الذي "غربت شمسه علي حين غرّة"، يوم كانت الروابط الإنسانية فيه متينة، والاندفاع نحو المعرفة وإتقان العمل هاجس المبدعين علي كل صعيد. فلهذا الجيل فضل تعميق القيم الأخلاقية في العمل الثقافي وغير الثقافي بنكران ذات وتواضع قل أن تجد لهما مثيلا في العالم العربي. وهو واحد ممن نظروا بقلب واهن إلي تداعي البنيان الشامخ وزوال مؤسساته ومعالمه الجميلة.
التكرلي ابن بغداد أبا عن جد، ووريث خصائص الشخصية العراقية بنبل أخلاقه وتواضعه وعفة نفسه وكبريائه. نشأ في منطقة باب الشيخ في قلب العاصمة، وهي المنطقة المحيطة بمسجد الكيلاني ملاذ طالبي العلم والحجاج، كما هو ملاذ المساكين اللاجئين إلي مقامه الجليل. وهو، زمنيا، ينتمي إلي جيل الخمسين من القرن العشرين، الجيل الذي عايش من كثب أحداث العراق واضطراباتها وغليانها السياسي المتطلع إلي الخروج من الهيمنة الأجنبية. فكان من المفارق، بل المضحك المبكي، أن يرى ، حسب قوله:" الدخول اللامبارك لمن يدعون أفراد القوات المتعدّدة الجنسيات".
يوم تفتحت عيني علي الأدب، ويوم أدركت معني أن يكون المرء أديبا، وجدت نفسي أبحث عن كتّاب من بيئتي بالتوازي مع كتّاب العالم. كان جيل الخمسينيات نموذجا لثقافة موسوعية شاملة، ومن هذا الجيل تعلمتُ وأدركت، وأنا أخطو نحو بناء عالمي الشعري، أن الثقافة الشعرية لا تتكامل من دون معرفة مدركة للفنون الموازية. وحين قرأت لفؤاد، أسرتني قصصه القصيرة، ورأيت فيها ما لم أجده في أدب قصصي حولي، رأيت فيها بغداد والبغداديون الذين أعرف ويعرف. لا غرابة فهو ابن المدينة بامتياز، وهو من تغلغل في صميم الشخصية العراقية من خلال عمله المهني في القضاء العراقي، مطلعا علي تفاصيل خاصة وعامة تفوق بغرابتها أحيانا كل تصوّر. فكأن القدر الذي وهبه ملكته الإبداعية وفّر له مهنته، فكان خير من وظّف هذا لذاك.
ثم جاءت رواية الرجع البعيد، لتعزز قدراته العالية، ولتخرس أصوات من شكّك في قدرات فؤاد، ومن رأي أن صمته الطويل لن ينفجر. وتوالت أعماله بعد حين، تراكم إبداعي ينقل القارئ من حلقة إلي أخري بلغته الرشيقة، وبنائه المحكم وصنعته المتقنة. أعمال فؤاد بحر زاخر يجر أقدام القارئ بسلاسة وبساطة ليزجه في خضم موجه المتلاطم حينا، والمسترسل بهدوء وشاعرية في بعض الأحيان، يرتفع بنا إلي الذري ويهبط بنا إلي الأعماق، مربكا حواسنا ومستفزا عقولنا.

ثقافة عميقة
من خلال معرفة شخصية بفؤاد، والارتباط بصداقة عائلية متينة وجميلة علي امتداد سنوات العمر، استطعت أن أدرك إلي أي مدي تشربت هذه الشخصية بثقافة عميقة وأصيلة تخلو من كل ادعاء. لقد عرف كيف يوظّف بلطف وبراعة هذا المخزون الغني عن طريق إدراكه العميق لطبيعة التجارب التي كان يطّلع عليها، أو يمرّ بها شخصيا. فكانت محرّكا ودافعا لإيجاد نماذج أدبية تنبع من صلب مجتمعه لا من مكان آخر. لم تربكه الحركات الجديدة، ولا الصرعات الأدبية الصارخة. فقد ظل بمنأي عنها، متحفظا عليها وواعيا لمزالقها. كان منشغلا بإقامة عالمه الخاص، مرتفعا به إلي آفاق التجربة الإنسانية عامة. فقدم أدبا عربيا ذا طابع محض عراقي.غادرنا التكرلي في وقت نحن أحوج ما نكون إلي الحضور الجليل لهذا البغدادي العريق. فطالما عرّفنا بذاتنا المركبة والبسيطة معا. فبمن نلوذ بعد أن تقسّمت الذات إلي ذوات؟i


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  مي مظفر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni