... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الجرنيكا العراقية.. صياغة جديدة لصرخات شهرزاد

د. وجدان الصائغ

تاريخ النشر       02/05/2008 06:00 AM



هل ما نقرأه من روايات انثوية عراقية هو نسق سردي أم صياغة جديدة لصرخات شهرزاد بوجه شهريار وليله المضاء بازيز الطائرات وحمم القذائف؟ لحكاياتها الملبدة بدخان المفخخات وصرخات الضحايا؟ لنواحها وهي تتأمل حركة أنامل علي بابا والأربعين حرامي وهم ينزعون عن مفرق بغداد تاج سيادتها، لنشيجها وهي ترقب اخفاقات الشاطر حسن في ان يخلص معشوقته بدر البدور من براثن العفريت الشرير، وخيبة علاء الدين بمصباحه السحري الذي علاه الغبار وغادره مارده، لنحيبها وهي ترنو لانكسارات سندباد وهو ينأى بعيدا عن الامكنة المفخخة بالفجيعة بحثا عن ضفاف مخضلة بالامان؟!
وكيف تحولت هذه المتون الروائية الي مرايا سحرية نبصر من خلالها بشاعة اللحظة الراعفة التي تشهد اجتياح طوفان الموت والدمار بلاد وادي الرافدين وسورياليته في تفتيت حضارة المكان؟
كل هذه الافكار قفزت إلي ذهني وأنا أتأمل باقة من المنجز الروائي الانثوي العراقي وحركته لتأسيس ميثاق جديد للقراءة يبلور من ذبذبات الفجيعة علي جسد الورقة جورنيكا جديدة تعكس عمق الدمار النفسي الذي خلفته الحرب وعلي مدار ثلاثة عقود ومازالت لنبصر من خلالها وجوهنا المثخنة بالانكسار والمرارة ونصغي لبوحنا الراعف ونلمح تنامي الأحداث وتفاصيل الزمكانات المحفوفة بالوأد والنفي و...


فهاهي الروائية لطيفة الدليمي في روايتها حديقة حياة الصادرة عام 2004 والتي ارخت فيها لاغتصاب بغداد 2003، ولحرمتها المستباحة وعبر استصراخ واع للذاكرة الحضارية المنهوبة تستدعي لوحة الجورنيكا من خلال وعي بطل الرواية غسان الفنان التشكيلي الرافض لثقافة الحرب وثمارها المرة التي ترمد كل شيء، تأمل صرخة غسان الراعفة بوجه بطلة الرواية سوزان الانوثة المحاصرة بالموت والدمار:
ومن أنبأك بأني لا أصدق.. أصدق.. رأيت بعيني كيف غطي الأمريكيون لوحة الجورنيكا لبيكاسو بشرشف أزرق وراء ظهر كولن باول وهو يلقي معلوماته لكي لا تظهر وراءه صور الأشلاء وضحايا الفاشية.. هكذا تخفي الحقائق.. ويشوه الفن.. ويحولون بينه وبين إبلاغ حقيقة الأمر.. الحرب.. حربهم محو للإنسان والفن والحقيقة..، ص100).
بالضرورة فان المدينة المدمرة الجورنيكا الاسبانية التي صاغتها ريشة بيكاسو باقلام الفحم والحبر واللون الأسود رفضا لبربرية القتل وبشاعة الموت قد شكلت معادلاً سرديا لبغداد المحاصرة بوقوع الحدث الكارثي التفاتا إلي احداث الرواية الذي سيعيد للذاكرة الكونية تفاصيل المجزرة الوحشية التي كان ثمنها الانسان الاعزل. زد علي ذلك فان حركة تغييب عتمة الجورنيكا بزرقة الشرشف تحيل إلي تزييف حقيقة الحرب وأهدافها.
وتنسج الروائية ميسلون هادي في روايتها نبوءة فرعون الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2004- من الحدث الكارثي سقوط بغداد 2003 مناخات تراجيدية تؤرخ للجرح العراقي، للمكان المدنس ببساطيل المارينز، وعبر انوات اثخنتها الحروب بالفجيعة، تأمل مثلا المشهد التالي منعكسا علي وعي بطلة الرواية بلقيس الأرملة الشابة التي التهمت حرب الخليج الثانية زوجها ليضيع ابنها يحيي بعد اندلاع حرب السقوط الأخيرة، ولاحظ كيف استدرج المتخيل الانثوي مرتكزات جورنيكا بيكاسو ليخطفها وعبر بحث بلقيس الدائب عن ابنها صوب اليومي المغموس بالخذلان والانكسار: مضت قدماً.. أكوام الأنقاض والنفايات والعربات العسكرية المحترقة وهياكلها المتروكة علي قارعة الطريق... تهافتت لافتات أسماء المحال التي مرت أمام عيني بلقيس،...، وحلت محلها لافتات سوداء... تمضي إلي قلبها كالنبال. رددت في سرها الأسماء التي قرأتها في تلك اللافتات لكي لا يمحوها اسم ابنها يحيي ويموت مأسوفا علي شبابه أو في حادث مؤسف كما مدون علي سواد تلك اللافتات التي ظلت بلقيس تردد ما ورد فيها من أسماء لمسافات طويلة، حتي وصلت السيارة إلي حاجز أمريكي آخر منصوب علي الطريق، فلمحت بلقيس حصاناً ميتاً مرمياً بين الرصيف ومنتصف الشارع قرب ماء راكد، فلم تطق النظر إليه وأزاحت نظرها بسرعة عنه إلي حيث يقف الجنود الذين حملقت في وجوههم ملياً،... أدارت بلقيس عينيها إلي الشارع مرة أخري، فرأت حصاناً آخر أكثر موتاً وانتفاخاً من الأول مسجي علي مسافة أمتار من الحصان الميت الآخر، فلم تطق بلقيس صبراً، ولم تعرف أين تنظر أو ماذا تقول وداخت وشعرت بالغثيان،،، ص113 .
أنت بالضرورة ازاء أكثر من مستوي ترميزي يستدعي مناخات الجورنيكا، فثمة الأم المنتحبة علي وليدها القتيل وهي متجلية في بطلة الرواية بلقيس المخلوعة عن عرش أمومتها بضياع ابنها يحيي في اتون القصف والقذائف وبحثها العبثي عنه، وثمة اللون الأسود الذي هيمن علي الجورنيكا وتجده في حركة المتخيل الانثوي إلي استدعاء الخرائب، هياكل العربات المحترقة ونزع الألوان الزاهية عن المكان ولافتاته المزركشة التي تحيل إلي فضاءات مترعة بالفرح لتضع مكانها يافطات الموت السود التي تطبق بشراسة علي المكان المستباح، وثمة الحصان المجروح المفتوح الخاصرة الرامز للشعب الاسباني بعد المجزرة، تجده في مناخات المشهد موؤوداً مسجي في قارعة الطريق ملطخاً بوحل الهزيمة بل وتجد الحاح المتخيل الانثوي علي استدعائه مرة أخري تكريسا لموت المكان وقيمه وتكثيفا للاحساس العارم بالانكسار والهزيمة حد اليأس.
 
 
 

وتجعلك الروائية بتول الخضيري في روايتها كم بدت السماء قريبة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1999 ازاء بلورة سيرية تعكس اتقادات انسان المكان ابان حرب الخليج الأولي وعلي مدار ثماني سنوات عجاف وعبر تشغيل واع للبعد التشكيلي الذي يستدعي مناخات الجورنيكا الا انه يهبها نكهة الوجع العراقي، تأمل المشهد التالي منعكسا على وعي البطلة التي وقفت مبهورة امام منحوتات بطل الرواية سليم النحات والتشكيلي المطحون بجحيم الحرب:
القطعة الأولي كانت لوليد.. يمتد من بطنه حبل سري يربطه بمشيمة منحوتة علي شكل خوذة حرب، والقطعة الثانية كانت لأم ترضع طفلها بدلا من تكورات نهديها الاملسين، توجد خوذتان خاكيتان بمثابة صدر المرضع، الهيكل الثالث لبروفيل مصل علي سجادته يسلم في يأس، علي طرف المنضدة البعيد مجموعة من منحوتات أصغر حجماً لحمار في بدلة سهرة، جرذ يضرب بالسوط، خنزيرة ترضع رجلا، قطة تضاجع كلباً، يتدلي من الجدار راس غزال بعينين ناقمتين، وقناع أفريقي من خشب غامق مزين بقش مصفر، كأنهما ينظران الي رف الحديد، حيث تزحف ايد مصنوعة من جبس أبيض، يد متمردة وأخري مسترخية، يد ترفع شارة النصر، أخرى تنزف، الثالثة تتسول، يد تتضرع، يد علي شكل قبضة غامضة، يد تفكر، أخري تلعب، يد تعبت من الانتظار، ويد تفيض حنانا،... إحدى القطع عبارة عن خوذة كبيرة علي شكل مهد طفل دون ملامح، تهزه يد مبقعة بسوادات خفيفة، حمامتان من نحاس مطروق مغروستان في الجدار من جناحيهما بدبوس صديء، ص27 .
أنت ازاء أربعة انساق تستدعي الجورنيكا، فثمة الايدي المتضرعة المستغيثة التي جعلتها بتول متناشزة الدلالات ايد مصنوعة من جبس ابيض، يد متمردة وأخري مسترخية، يد ترفع شارة النصر، أخري تنزف، الثالثة تتسول، يد تتضرع، يد علي شكل قبضة غامضة، يد تفكر، أخري تلعب، يد تعبت من الانتظار، ويد تفيض حنانا.. وثمة الأمومة الثكلي والطفولة المهشمة التي تموضعت في الجورنيكا خطفتها بتول لتتوقف تارة عند الطفولة الموؤودة مشيمة لطفل منحوتة علي شكل خوذة حرب + خوذة كبيرة علي شكل مهد طفل دون ملامح وتارة أخري عند الأمومة المبتلاة بالحرب عبرت عنها بالأم التي ترضع طفلها بدلا من تكورات نهديها الأملسين، توجد خوذتان خاكيتان بمثابة صدر المرضع ، وثمة رأس الثور الذي يضيء ذاكرة المكان الاسباني تستبدله بتول بالغزال وذاكرته العربية المكتنزة بالجمال لتجعله رأسا مجزوزا يتدلى بعينين ناقمتين اشارة الى قتل الجمال والقيم، وثمة اللون المهيمن المتحرك بين الكاكي المرمد والبياض وقد كثفه استجلاب حمامة بيكاسو الا انها حمامة مصلوبة بدبوس صدئ وربما تستدعي في مكبوتها الدلالي حمامة نوح الباحثة عن الامان الا ان طوفان الحرب سلبها حياتها. فضلا عن المتخيل الانثوي يهب اللوحة بعدا سورياليا يكشف عن لا منطقية الاحداث ولا عقلانيتها من خلال الحمار في بدلة سهرة.. خنزيرة ترضع رجلاً، قطة تضاجع كلباً .

تتوقف بتول الخضيري عند الجندي الذات المستلبة والمحشورة غلبة وقهراً في اتون الموت لترسم منها جورنيكا تستدعي وجه الجندي الذي تمدد علي أرضية جورنيكا بيكاسو وهو يصرخ متألما بعيون مفتوحة، بذراعين وشمتهما الحرب، تأمل المشهد منعكساً على وعي بطلة الرواية وبطلها الفنان التشكيلي سليم الذي اقتادته الحرب إلي محرقتها ليبصر عيانا تفاصيل الموت الجماعي:
صور من المعركة، ثم اسر جندي، وضعوه أمام عدسة الكاميرا، ملابسه مغبرة، ملامحه غير واضحة، ذراعاه وقدماه مشدودة بحبال مربوطة بسيارة عسكرية تشدها إلي الجهة اليمني وأخرى إلي الجهة اليسرى، انطلقت السيارتان في اتجاهين متعاكسين ابتلعتهما حافتا التليفزيون، وابتلعنا نحن اشلاء ما كان جنديا، سمعت تلك الليلة طرقا منتظماً، ظننت سليم ينحت في الاستوديو، لم أشأ ازعاجه في عزلته وهو يعمل،.. لكن بعد فترة ارق مضنية التحقت به في الاستوديو لاجد نصف تماثيله قد تحطم تحت مطرقته منذ ساعات الليل الأولي، جالس في الزاوية البعيدة يرقب الحطام، يدخن بشراهة ويبكي،( ص31).
بالضرورة فان المتخيل الأنثوي الذي ارتكز إلي حدث واقعي ومشهد دام نقلته التلفزة العراقية ابان الحرب يجعل من الجسد الممزق للجندي الأسير موازيا ترميزيا لاجساد النصب المهشمة لينقلك بوعي الانسان العاجز عن صناعة القرار الي تفاصيل اليومي الذي شربناه مرارة وموتا، ولتنتقل إلي احساسات بطل الرواية الذي وجد فيه الابداع زمن الحرب فعلا عبثيا لا يمنح الذات الا تأشيرة لاحتراقات شتي.
وتضيء الروائية هدية حسين في روايتها ما بعد الحب الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2003 التي عكست احداثها عذابات الانسان العراقي ما بعد حرب الخليج الثانية وجه الجندي الانسان/الرقم في أكثر من موضع لترسم من خلال احتشاده علي أرض الهزيمة جورنيكا للموت الجماعي وصورة للرهانات السياسية الخاسرة التي قامرت باعمارنا، وعبر استبطان دقيق لعذابات الرجول المنكسرة والمستلبة، تأمل الآتي ولاحظ براعة امتزاج الصوت الانثوي بصوت بطل الرواية أمير الذي لم يمنحه الاسم الا احساساً مضاعفاً بالنبذ والخذلان:
عائد من الموت، عائد من كرات النار، من الشظايا، من حرائق العجلات، من القنابل العنقودية، عائد من ارتال الموت المتنقل حين أصبحت ارتال العجلات المنسحبة هدفا شهيا للطائرات المغيرة، فاحترقت العجلات والاجساد، وقذف عصف الانفجارات بالجنود علي الطريق، قتلي ممزقين، جرحي.. ساهمين يتطلعون صوب الافق بانتظار موتهم، عائد من كل هذه الفوضي المرعبة، من كل هذه المصائر، وبالمصادفة وحدها خرجت من المجزرة،.. مجانية وعبث لا ترقى لهما أي سريالية خالصة حين أسرع أحد الكلاب لإحدي الجثث وراح ينهمك في نهشها،.. من عجلة حمل،.. متروكة على الجانب، تدلت جثة قتيل من جنودنا بللتها مياه الأمطار، لتنزل القطرات الحمر منها لتشكل علي الوحل خطاً وردياً. وجه القتيل يواجه الأرض، لذا لم اشاهد من ملامحه سوى جذع متدل واطراف متورمة، ص141 .
اذا كان متخيل بيكاسو قد انتقي مدينة الجورنيكا الاسبانية المدينة الوادعة والآمنة التي هطلت عليها حمم الموت، فان متخيل هدية حسين قد توقف عند الأرض المستعرة والمتخمة برائحة البارود والموت ليرصد وقع الفجيعة وعمق المحنة الجماعية لانسان بلاد وادي الرافدين المحشور غلبة وقهراً في خضم عارم من الحروب، وهو ما ينسحب علي وجه الجندي الذي جعلته أنامل بيكاسو متجهاً إلى الأعلي بملامح واضحة، وحركة أنامل هدية حسين لتجعل وجهه منكسا الي الاسفل باطراف متورمة، ومثل هذا يصدق علي الالوان، فاذا كان بيكاسو قد انتقي اقلام الفحم ليهيمن السواد وتدرجاته علي اللوحة فان هدية حسين قد انتقت الاحمر بتدرجاته وصولا الي الحمرة المغلفة بالدخان، لتبلور جورنيكا بسعة الجرح العراقي الراعف.
خلاصة القول: فاذا كان بيكاسو قد عكس في جورنيكته صرخة احتجاج بوجه الفاشية التي اباحت دم الانسان الاعزل نهارا جهارا فان المتخيل الانثوي العراقي قد نجح في ان يصوغ جورنيكا جديدة تضيء ليل بغداد الطويل المضاء بسعير القذائف والتكنولوجيا الحربية المتطورة وحركة هطولها لتحرق شقاوة الطفولة ورؤوس النخيل واحلامنا واعمارنا التي صارت حطبا لحرب الثلاثة عقود لنأكل ثمارها المرة شتاتا وتشظيا. ولنردد بشكل جماعي مرة أخري مع شاعر سومري مجهول بقيت صرخته رهينة الرقم الطينية: لقد نفتنا الآلهة/ غرباء حتى مع انفسنا/ نجوس أزمنة التاريخ/ والمستقبل/ بلا قيثارات .


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. وجدان الصائغ


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni