... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  منتخبات

   
محمد الحمراني .. وكتابة النائم بجوار موته

علي حسن الفواز

تاريخ النشر       18/05/2008 06:00 AM


لم يبصر روايته الثالثة، ولم يدرك ان احلامه كانت قصيرة جدا، مثلما لم يستطع ان يكون الحكواتي الاخير. مات محمد الحمراني أحد سارقي النار دون ان يمارس احلامه وطقوس فرحه العلني لصدور روايته الجديدة(النائم بجوار الباب) عن دار الشؤون الثقافية في بغداد/نهاية2007 ..
تستعير هذه الرواية فضاءات الحرب والتصوف، وكأنه حاول عبر هذه الثنائية ان يكشف ويتلمس رعبه الشخصي، وبعض تفاصيل واقعه المرعب من خلال استغوار رؤياه العميقة، تلك التي تضعه دائما عند هاجس الكشف والابصار، فضلا عن محاولته ان يضفي عليها نوعا من الفنطازيا السحرية التي تكشف هول ماتصنعه الحرب، وما يمكن ان يجذبه اغتراب التصوف الى غوايات عميقة وطاعنة..

الحمراني يكتب عن هذه الفضاءات بنوع من الظاهراتية المقصودة، يسحبها من خارج لحظتها الزمنية الى زمنه الشخصي، يستعير لها زمنا سرديا يقترح عوالمه، ويعيد انتاجها في ضوء شروط وعيه المعاصر والقلق في آن معا، اذ يضع لها شهودا وشخوصا واصواتا متعددة تحاول ان تكشف عن غرائب الحرب وضياع الانسان والوجدان وتوهجات الروح فيها ..
عند حرب الثمانينيات بين العراق وايران يبدو كل شيء مصابا بالهوس، المدن، الشوارع، الناس، الاضرحة، الكلام، الهويات. لايملك ازاءها الراوي الاّ ان يقدم لنا عالما واقفا، مرعوبا عند حافة الخراب، تهرسه هذه الحرب الغريبة العبثية والباهظة. ابطاله لايعرفون معنى لعبثية هذه الحرب، انها حرب عمومية تصطاد الوجود والتاريخ مثلما تصطاد الناس الاحياء والموتى.
يستعير الحمراني ايهاما روائيا لسرد حكاية ابطاله والكشف عن تفجعهم، اذ يقدم بطله الصوفي يستعيده من زمن موته القديم، يجاهره بالحضور في زمن معاصر، يضعه عند ابصارات غائمة لرؤيا لايحدس من خلالها الاّ بالاغتراب والموت والاحتجاج، ينكشف امامه خواء الانسان الذي يموت دونما اية جهة، اذ يبدو صوت الحلاج هنا هو صوته السردي/قناعه الذي كان يرى،وعيناه التي تسمع هسيس الحرب وهي تجاوره، تنتزعه من شاهدة قبره لتلقي به عند اتون يومياتها الضاجة ..
يضع الروائي بطله في لعبة اغتراب زمني، اذ يمنحه لحظة للحضور متجاوزا عقدة صلبه القديم، يستعيره هنا قناعا للافصاح عن موت اخر قد يحتاج الى جرعات عالية من التصوف. فالحلاج يخرج من (موته) ليعيش لحظة حاضرة برعبها وموتها المكرر في مدينة بغداد، يتوه في شوارعها وهو يبصر الاف الحقائب تهرب شرقا الى حرب لاتشبه حروبه القديمة، تواجهه دورية حزبية تبحث عن الهاربين من الحرب، لم يكن يحمل هوية او وثيقة او حتى لغة للحوار مع هؤلاء العسس المدججين بالقسوة..تعتقله الدورية لانه هارب من الخدمة العسكرية وتلقي به الى سجون التسفيرات، حيث يتم ترحيله الى جبهات الحرب، ليعيش اهوالها ومرائرها ويوميات موتها الغريب.
لقد عمد الروائي الشاب الحمراني الى استخدام تقنية تداخل الاصوات وتداخل الازمنة، اذ حاول عبر هذه التقنية ان يصطنع منظورا يتجاوز به الطبيعة التقليدية لتقنية الصوت الواحد الحكواتي، او الراوي العليم المهيمن، حاول ان يضع المستويات الصوتية المتعددة بمثابة رواة متعددين، يضعون محنة التاريخ امام محنة الحاضر، وهذا ما اعطى للرواية بعدا هو اقرب الى نص الوثيقة التي يمكن من خلالها فضح وادانة قسوة الحرب وخوائها، وهشاشة الافكار العابثة التي يصنعها الطغاة دائما للحرب والموت، حيث يجد الحلاج ان موته مصلوبا يمكن ان يتكرر في ميتات اكثر بشاعة، وان الحروب القديمة، حروب المصالح وحروب الاوهام يمكن ان تتكرر ببشاعة مفرطة..
حاول الروائي من خلال وعيه القصدي في صياغة الزمن السردي، ان يمنح بطله الحلاج سمات معاصرة من خلال الايهام بان التاريخ هو سرد مفتوح، وان بطله قابل للاستعادة، يتعرف على افكاره الجديدة وهو يرى الموت يأخذ بتلابيب الناس، يثير ازاءه اسئلته المريبة، هل يمكن لتصوفه ان يمنحه اطمئنانا آخر يبادل به اطمئنانه القديم الذي جاهر به صانعو صلبه؟وهل يمكنه ان يدوّن يومياته السرية وهو يراقب المدينة والناس وهم يصعدون الى موتهم الغريب؟
ولاشك ان هذه الخصائص التي اعتمدها الروائي في تغريب الزمن الحلاجي الى زمن معاصر يحمل علامات(البنطال والمعطف والمخطوطة) وضعت النص الروائي امام سياق سردي له هوية مفارقة لم يستطع الروائي الاّ ان يفك اشتباكها حين يهرب الحلاج عبر السرداب الى موته مرة اخرى تاركا معطفه الاسود وبنطاله ومخطوطته الممزقة، محتجا وربما مطمئنا الى موته القديم بالمقارنة مع هذا الموت العلني للحيوات والامكنة..
ان هذه الرواية هي محاولة في تدوين وعي الازمة، ازمة العراقي في حروبه المتواصلة والعشوائية،وازمة الامكنة التي تركت الفتها القديمة باتجاه امكنة مفتوحة للضجيج،امكنة تستعير من المقبرة والجبهات شرطها الوجودي للتعبير عن ملاذات الكائن الذي يهرب باتجاه اطمئناناته دائما..
ان غياب الحلاج عبر السرداب يمكن ان يكون ايضا ايحاء بفكرة الغياب الذي يشترط وهم حضوره المثيولوجي،وهذا تعبير عن استحضار فكرة المنقذ الذي يتوهمه البطل الاخر (ابن خادم القبر)الذي يمثل الجيل الجديد الذي يجهل الصوفية/الماضي ويجهل تاريخهم وعوالمهم، يحرس المقبرة كناية عن ان الجيل الجديد يمارس دور الحارس لمهيمنة الموت وفكره وعلاماته..
وهذه الرواية تعكس تطورا فنيا واضحا عن روايتيه السابقتين(انفي يطلق الفراشات الصادرة عن دار الواح عام 1997 ) و(الهروب الى اليابسة عن دار الشؤون الثقافية عام 2002)،اذ حاول يها ان يزاوج بين تقنيات اسلوبية وصوتية تعكس قلقه الواعي ازاء اشتغالاته السردية ورغبته في الخروج عن نمطية الكتابة..
مات محمد الحمراني دون يرى هذه الرواية،ودون ان يتلمس صداه عند النقاد الذين كان اغلبهم يرى فيه صوتا سرديا واعدا،يرهص برؤى مغامرة واعية تؤسس لخطواتها مسارا واضحا وعميقا في حداثة الرواية العراقية...


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي حسن الفواز


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni