... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  أخبار و متابعات

   
«نسـاء الساكسوفـون» لجـواد الأسـدي : الأحمــر والأســود والداخــل والخــارج

هوشنك الوزيري

تاريخ النشر       19/05/2008 06:00 AM


يغوي المستوى الشكلاني لبنية عرض (نساء السكسو..فون) المسرحي، على خشبة مسرح بابل في بيروت، للعراقي د. جواد الأسدي ـ خمس نساء وهن جاهدة وهبة/ عايدة صبرا/ نادين جمعة/ إيفون الهاشم/ والممثل رفعت طربيه بدور الجدة، يعانين عبء الجسد ومكبوتاته ـ يغوي بتوجيه عملية القراءة التأويلية نحو الحديث عن البعد الوظيفي الغريزي للجسد في مقابل سطوة الأخلاق بقيمها ومبادئها البيورتانية المحضة. ففي المحصلة النهائية، يتعامل المتلقي مع خمس شخصيات نسائية في أعمار مختلفة تعيش الهاجس الغريزي للجسد وتتمحور حواراتها وجدالاتها وانفعالاتها العنيفة حول كيفية التخلص من عبء الجسد والانطلاق به الى «الذروة». لكن غواية من هذا القبيل قد تؤدي بعملية تلقي العرض وقراءته الى تسطيح، ان لم يكن الى قمع وإلغاء، لكل المحاور الدلالية والفكرية الاخرى التي ينتجها مفهوم «البيت ونقصد بيت السيدة برنارد ألبا العارية من اسبانية فرانكو والمشحونة بيئوياً» باعتباره ـ أي البيت ـ البيئة المركزية لتوليد المتن البصري والحكائي على حد السواء. فـ«البيت» في هذا العرض يمثل الفضاء الاجتما ـ السياسي الذي يحرك السياق الدرامي للأحداث وبوتقة المعادلات التضادية المتعددة التي يبني العرض عليها معماريته.
انطلاقاً من ثيمة «البيت» المتحولة مكانيا (أسطبل ـ كنيسة ـ مقبرة ـ شارع) وبالتالي صيرورته المتغيرة دلالياً يحاول العرض أن يبني هيكليته التدريجية مشهدياً من خلال اختراق معادلة الثنائيات المتضادة فكريا تارة (على سبيل المثال الأم بسوادها القامع/الأخلاق في مقابل ابنتها المشتعلة بالاحمر الهائج/ التمرد) أو المتوافقة تمثيلياً (تماثل الجنس والسياسة) تارة أخرى. وربما يمثل عنصر اللون الأداة الأكثر فعالية في إيحائها التعبيري في سياق هذه الحرب الانفعالية للمتضادات المتصادمة في فضاء العرض. ففي بدء العرض يحاول اللون الأسود أن يفرض دلالاته المتعددة والممتدة من هيبة الحداد والمأساة الى رهبة الموت وهيبته مرورا بقسوة رمزيته للقمع السلطوي ـ وهويحاول نفي فرحة كل الألوان الاخرى ـ على أجواء البيت وساكنيه عبر شخصية دونا برناردا ألبا. فيتم تدشين اللحظة الاولى للعرض بتنظيف الشخصيات جميعها وهي غارقة في السواد زوايا البيت كافة وكأن هناك دنسا يستوطن غرفه وممراته وتجب إزالته، فينظفون الارضية بلاطا بلاطا ويمسحون النوافذ المغلقة ويزيلون الغبار عن المقاعد المغطاة بأقمشة سوداء ويمسحون الستائر السوداء في عملية جماعية هستيرية لجعل الأسود أكثر سواداً وظلام البيت أكثر عتمةً. وهكذا يخضع المتلقي لـهيبة الأسود ورهبته، والتي تستمر خيبةُ وإحباط شخصية برناردا ألبا في بثه الى أن يتم كسر هذا الفضاء القاتم بعتمته لونياً وعلاماتياً بلطخة حمراء عبر دخول شخصية الابنة الكبرى أديلا في فستان أحمر صارخ يكشف عن أجزاء من جسدها الأبيض. وهنا ينشب صراع الألوان في مستواه الدلالي الحاد. الصراع بين الام، المغطاة بالأسود من أخمص قدميها الى قمة رأسها، برمزيتها لصرامة هيمنة النظام الأخلاقي وقسوة قمعه وبين أديلا، المتماوجة بين الأحمر والأبيض، التي تحاول تخريب هذا النظام وتهشيم سياقاته القيمية بالتمرد عليه، بين أن يظل «البيت» مغلقاً على سواده وأيديولوجيته وأخلاقياته القاتمة وبين محاولة خدشه بلون آخر، ويكشف جزءا من ذاته على العالم الخارجي ويفتح ثقوباً في الجدران ليتسرب الخارج اليه. ويأتي هذا المشهد البصري تحديداً بعد أوامر السيدة لخادمتها بإغلاق كل نوافذ وأبواب «وكل بخش» في البيت وتركيز الخادمة على انها ستغلق كل ثقب و«بخش» فيه. لكن الحرب اللونية بين خرابات الأسود وتمرد الاحمر تصل الى ذروة جمالها البصري والانفعالي حين تحرض الخادمة (لابونثيا)، وكأنها في تواطؤ سري مع أديلا، سيدة البيت، على ان تلتفت الى جسدها وحاجتها الى عمليات تجميل لإبراز مفاتنها. وهنا يبدأ المشهد ينزع عنه حداده وسواده بصرياً حين تقوم لابونثيا في حركة تمثيلية مفعمة بالدلالات بإزالة الأغطية السوداء عن الأرائك الحمراء واحدة بعد الأخرى، ليتحول البيت للحظة الى فضاء متحرر كلياً من سياقه الأخلاقي المتزمت العذري المتمثل في هيمنة الأسود. وفي سياق هذه الحرب اللونية ـ ونقصد هنا الدلالات الفكرية والسايكولوجية التي تنتجها رمزية كل من هذين اللونين ـ تبدأ أسوار البيت بالاهتزاز ونظامه بالاختلال، وهنا تتقدم ثنائية أخرى لتحتل عملية إنتاج الدلالات وهي ثنائية الداخل/ البيت والخارج/ المدينة.
يُمثل البيت صرامة القانون الذي يتمثل في النسق الأخلاقي الشديد الاستقامة التي تمثله السيدة برنارد ألبا المتظاهرة بالطهارة الرافضة لكل ما يمثله ما يكمن خلف باب البيت ـ الشارع والمدينة ـ من دنس وفوضى. فالخارج تعصف به الاضطرابات السياسية والحروب والانهيارات تصيب أركان المدينة، بحسب منطق وحوار السيدة (الكلاب تجر المدينة من ياقة قميصها والكلام عن المجازر والانفجارات). وهنا ينشب مستوى آخر من الصراع داخل بنية العرض. فيحاول البيت عبر إغلاق الأبواب والنوافذ والمؤامرات التي تحوكها الخادمة وتجسسها على الابنتين والجدة ونقلها تفاصيل كل ما يحدث داخل الغرف السرية الى سيدتها، أن يصد غزو الخارج ويُجتنب تسرب قيمه إليه. وبما اننا نعرف ونرى تماما ما يجري في الداخل من خراب وجحيم، فإن التساؤل حول ماهية الخارج يصبح ضرورة معرفية لاستكمال فعل القراءة.
عالمان
ما الذي يحدث حقا في الخارج؟ ومن الذي ينقل صورة الخارج الى ساكني البيت ومتلقي العرض معاً؟ يبدو ان السيدة هي التي تتولى وظيفة صياغة صورة المدينة/الخارج/ العالم باعتباره عالما مضطربا مشوها تنعدم فيه القيم. وهي تحاول تمرير خطابها المرعب هذا على المتلقي بعد أن استطاعت الى حد ما إقناع ساكني البيت بأقوالها حين أغلقوا جميع الأبواب والنوافذ. وهنا يصطدم متلقي العرض برؤية آيديولوجية ديكتاتورية للعالم الآخر الذي يقع خارج النظام الأخلاقي لدولة السيدة برناردا. إن قراءتي التأويلية لجدلية صراع البيت والخارج في هذا العرض قد تختلف عن قراءات نقدية للآخرين الذين وقعوا في خطيئة التماهي مع برناردا ألبا في رؤيتهم للخارج بأنه عالم مضطرب مليء بالانفجارت. فإذا كان الداخل يمثل جحيما لا يطاق يتشكل من سطوة الأم التي تجعل الآخرين يتلعثمون لمجرد رؤيتها وقمعها للجسد عبر فرضها قيما صارمة، والمراقبة التجسسية للخادمة على خصوصيات الجميع ـ من مراقبة عملية الاستمناء الى سرقة مذكراتهم ـ والشبكة المتوترة لعلاقات الكراهية والحقد والانتقام بين الاختين، فإن الخارج يصبح فردوسا مشتهى للتخلص من الحرمان والتحرر من القمع الأخلاقي، وبالتالي لاستكشاف لذة الحرية. فرؤية السيدة السلطوية المهيمنة تتماهى ايديولوجياً مع رؤية المناخ السياسي العربي السلطوي السائد حول ان العالم الخارجي الذي لا يتفق ومنظومته الأخلاقية والقيمية هو عالم مشوه تعصف به الفوضى الأخلاقية. لكن بالرغم من كل هذه المحاولات، وبالرغم من فوبيا السيدة من «زكرتية»، المدينة فإن الحدود تنتفي بين الداخل والخارج ليتخذ المكان أشكالاً أخرى من الأخلاقيات في ديناميكيته الدرامية. ربما تُعتبر البنت الكبرى أديلا الشخصية الفعالة في تهشيم الحواجز بين العالمين بفتحها الباب على مصراعيه لاكتساب قبلة أولاً وبعدها انتهاك المحظور المقدس ومن ثم ليتسرب الاسطبل برمزيته الغريزية الطبيعية الى البيت. وهكذا يتحول البيت الى اسطبل لممارسة الجنس الداعر في اشارة صارخة لتحدي سطوة القمع الأخلاقي وهتك النظام القيمي للسيدة برناردا ألبا، بعد أن كان مكاناً مقدساً للتراتيل التي كانت تتلوها. كما ان البيت يصبح خشبة لاستعادة تمثيل المقبرة عند البنت الصغرى مجدولينا حيث فعل الاغتصاب اللذيذ الأليم الذي يعقب فعل قتل الأب، بكل ما يمثله الأب من سلطة قامعة.
يُصاب الداخل ومعه ممثلة سلطته الأحادية بهزيمة مُرة في حربها الايديولوجية مع الخارج، حيث تهجره جميع الشخصيات في نهاية العرض متوجهة نحو الفردوس المرتجى/الخارج. فالجدة التي يتعدى عمرها الثمانين سنة، ترحل بحثا عن حرية تسعد جسدها المعطل. وأديلا تقرر الفرار بعد مشهد توجيه الإدانة الى الأم، حيث تصل الانفعالات الداخلية الى ذروتها العنيفة بالطرق على الابواب بشكل هستيري لا يوحي إلا بانهيار البيت، في حين تُصاب مجدولينا بالجنون وهي تظهر لتروي كيفية مقتل الأب ومن ثم تعيد تمثيل عملية اغتصابها في المقبرة. وحتى الخادمة التي تعتبر المُحركة المركزية لدرامية أحداث البيت بسبب احتلالها أوسع مساحات العرض تمثيليا وحوارياً، تقرر نزع أدواتها التهريجية ومغادرة سيدتها لينهار البيت كلياً ويصبح خاوياً إلا من السيدة جالسة وحيدة على كرسيها. وربما نستطيع القول ان «الرغبة» تمثل جوهر الصراع الدائر بين الداخل والخارج. الرغبة في إبقاء البيت موصدا على قوانينه تقابلها الرغبة العارمة في استكشاف الخارج. فالعرض يحاول مَسرحة مفهوم «الرغبة»، ليست الرغبة في مفهومها الجنسي السائد المتعلق بالبعد الجسدي، بل تلك التي تنطلق من مستوى فلسفي باعتبارها تمثل محاولة تحدي ضد الثابت الراكد الذي يقمع أي خروج عليه ويصد في الوقت ذاته أي اختراق له، وهذا ما يمثله بالتحديد مفهوم البيت في هذا العرض. وبناء على ذلك لا تمثل المرأة هنا مجرد علامة أيقونية موضوعتها الجنس، بل تتحول الى مساحة رمزية مفتوحة على القراءات والتأويلات. وربما اختيار ممثل ذكر (رفعت طربيه) من قبل المخرج لتمثيل دور الجــدة جاء للتأكيد على كسر هذه الأيقونية النـــسائية في هذا العرض.
تتلاطم المستويات الدلالية في العرض كما تتماوج المستويات البصرية بين العمق والمقدمة، وتتماهى الكوميديا بالمأساة وتتلاحم العامية المحكية بالفصحى الرصينة، لخلق فضاء غني بالإنتاج التأويلي والدلالي ينفي أحادية القراءة أو حصرها بثيمة فكرية واحدة. فترتطم الأخلاق/ الدين بالفوضى ويتداخل الجنس بالسياسة وتمتزج شهوة العري بالرغبة في الانعتاق من القمع السلطوي، ويتصادم الحقد والكراهية بفعل الانتقام... الخ مــن ثنائــيات وتمــاهيات، كل هذا بهدف بناء قراءة شــاملة لواقــع يعاني أمـراض القمـع السيـاسي والجنسي والديني معاً.
وأخيرا، في خضم الثنائيات المتضادة المخترقة لبنية العرض، علينا أن لا نهمل قيمة التساؤل حول مكنونات اللقاء بين التشكيلي جبر علوان الشبق بألوانه، والمسرحي د. جواد الأسدي الذي ما انفك يركز اشتغاله المسرحي والكتابي على فجيعة السواد، موجهاً أدواته النقدية التحليلية بإتقان نحو محاولة فهم فلسفة «الأسود» في معناه التقليدي المرادف للموت والعدم. بدءاً يستقبل جبر علوان متلقي العرض بنسائه الفاقعات بألوانهن كاشفات عن أجزاء من جسدهن البض وهن مرتميات في أوضاع داعرة تثير غريزة البهجة وتدعو الى تحرر الحواس من أغلالها الاجتماعية الموروثة. وما ان تشبع أعين المتلقي بالألوان الصارخة كالاحمر والاصفر والأبيض، حتى يرمي به الأسدي في عــوالم انفــعالية سوداء في غاية التوتر في دعوة لقــراءة الارتطــامات الفوضوية الداكنة في بيئته الاجـتما ـ سياسـية الآيلة للانهيار.

هوشنك الوزيري(كاتب عراقي)

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  هوشنك الوزيري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni