تاركاً صاحبه يتخبَّط في حيرته، فرّ الحمار بعربة الكيروسين وصنبورها مفتوح يدلق السائل الملتهب على وجه الشارع الطويل الذي لانهاية له. فرَّ ملتحقاً بالجموع التي فرَّت قبله مخلفة نُعلها وراءها فازعة تهرب امام رتل عسكري أجنبي عبرَ جسد المدينة بغته ، هكذا ، مع آذان المغرب، كان ذلك مشهد القدحة الذي احتاجها قبل الشروع بكتابة أي شيء من رواياتي ..مشهد سأغفو عليه عامين كاملين حتى صيغ في رأسي السؤال المريع الذي سألج به مشغل رواتي "مقامة الكيروسين": كيف نصب الفخ بتلك الدقة المتناهية لينتهي الامر الى احد خيارين: إما مقاومة القوات الغازية والإبقاء على الحاكم الجائر يعبث بالارض فساداً وبالنفوس خراباً وإما غضّ الطرف والإنكفاء والقبول بالبساطيل الاجنبية تهشّم أضلاع الوطن ثمناً للخلاص، لم يمنح الفخ القاسي اولئك الفازعين الهاربين امام الرتل الاجنبي مهلة للتفكير بهذا السؤال..
مهلة للبحث عن خيار ثالث ، المهلة الوحيدة التي حظوا بها هي الفترة التي استغرقتها هرولتهم وهم يهربون . ما كانوا اذن يخشون الموت إّ هربوا ، فالسارد في الرواية يقول إنهم من شعب وٍُلد مع الموت من بطن واحد..هذا الشعب والموت تؤامان..اقول ما كانوا يخشون الموت وهم على تلك الحال وانما ارادوا ان يقتطعوا لأنفسهم من سرابيل الزمن جذاذة يتعلقون بها للخروج من بركة الحيرة بحثاً عن الخيار الثالث.
كان عليّ ان ابني رواية تكون بمثابة حكائية الحيرة، حكائية المحنة ، حكائية الفخ ، ثم أدور بها على البلدان أنشدها على ربابتي بصوت يأخذ بالقلوب ويهزُّ العقول..صوت يصرخ: إحذروا ياشعوب الارض الفخ الذي نصب لهؤلاء القوم..إياكم ان تسمحوا لعميل ان يحكمكم فلا تدرون في اية ساعة يسلمكم والوطن لأسياده ..موتوا جميعاً لإزالته عن كرسيّه فذلكم تالله أقل خسارةً من الانتظار حتى تقعوا في الفخ اللعين.
والمخيلة معطاء اذا تشرَّب صاحبها الحقيقة الخالصة ، فإذا بقاعة صمّاء عَطنة الهواء تقوم أمامي يحشر فيها رجال ونساء وشيوخ وأطفال حشراً، واذا بصغيرةٍ تولد هناك واذا بصغير يُفطم هناك..أَخوان بالرضاعة شبّا سيكونان بطليَ حكائية المحنة. اقتسما الوجعَ رٍضاعاً من صدر واحد، فإلى مَ سيصيران؟
انهما شاهدان لاريب وفاعلان لاريب ايضاً .أكانا شاهدين مؤكدين ام مفترضين؟ هذا لايهم ، فالافتراض تأكيد اذا اتفق عليه الجميع ودعمه، لقد فسحت آلية السرد القائمة على ثنائية الافتراض / التأكيد أن المجال واسعاً امام المتلقي لكي يدلو بدلوه في بناء رواية (مقامة الكيروسين)، فحين يقول السارد بأنه يفترض كذا وكذا في المشهد الفلاني فهذا يعني انَّ آفاق المشهد غير مغلقة..غير محدّدة بحدود واضحة..منفتحة على مداخلات المتلقي..انها دعوة للمتلقي ان يأتي بما يتوفر عليه من كل ماهو مؤكد لدعم الافتراض الذي ترسمه مخيلة السارد. ولا اظنها دعوة وحسب بل ربما اعتراف بعجز السارد (الباث) عن الاحاطة بجميع تفاصيل الكارثة. أي ان تقنية (ثنائية الافتراض/ التأكيد) السردية لاتصح إلاّ في رواية تتحدث عن واقعه تفوق تفاصيلها قدرات مخيال السارد، وفي الوقت ذاته يكون شهودها القراء انفسهم إمّا بالعيان أو بالضمير ، وعلى اية حال لابد من ان هذه التقنية والسردية قد اسهمت بإضافة نوعية لنظرية التلقي.
الاخوان بالرضاعة المتقاسمان في امرأة واحدة الشاهدان والفاعلان في آن ، حالها حال المرأتين اللتين أكملتا المشوار معاُ حتى أتاهم جميعاً اليقين بأنّ الزمن على الرغم من ثقله عليهم فهو يعدو ، ولايعدو اذ يعدو إلاّ في مسار دائري لايأتي بالجديد. فغدهم الذي أتاهم بعد أكثر من عشرين عاماً على تجرّع عصارة القهر الانساني لايعدو ان يكون نسخة طبق الاصل عن يومهم الفائت، كانت الرواية في بنائيتها تلهث للإمساك بذلك الزمن الدائري..الاحداث تتقافز فوق الاسوار الفاصلة ما بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وليس ثمة من لاجمٍ لها. فإذا كان لـ (حمامة) من العمر عشرون عاماً في بداية مشهد ما فأنها قد تظهر في نهايته رضيعة لم تكمل فصالها بعد. واذا بدت (أم غائب) غاذَّة الخطر مغاضبة ً وهي تطوي الشارع العام نحو (الفرقة الحزبية) فإنها انما كانت تخوض في رهج الصحراء التي التقت مبنى المعتقل قبل عشرين عاماً.. أي ان المشهد يظهرها في الماضي والمستقبل في الوقت ذاته.. كان لابد للسارد ان يفي بتعهده لشخوص الرواية بأن يكون مخلصاً بل مذعناً لفهمهم طبيعة الزمن، في الواقع انهم هم الذين كانوا يمسكون برسن القص لا السارد .فذلكم هو ينتقل بكاميرات أنىّ اندفع احدهم. لا تفقد الاحداث منطق حدوثها لديهم، لأن حيواتهم لا اول لها بعينه ولا آخر بعينه : آخرها أول وأولها آخر، بوسعهم رصف أحجارها كيفما شاءوا من دون ايما غضاضة . زمنهم لم يكن دائرياً وحسب وانما محايد في الواقع..متفرج عليهم..لا معنى له. الزمن لامعنى له اذا تشابهت احداثه واستقرت على طبيعة واحدة.
وقد استقرت لديهم وكان عنوان طبيعتها القهر. العنوان ذاته لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم فماذا تبقى لزمنهم من معنى؟! وكاد القارئ (المتلقي) ان يقطع بذلك لولا (حمامة) التي انتقضت على ذلك المفهوم و(أُم غائب) التي ساندتها . لقد لوتا عنق الزمن فأخرجتاه عن مساره الدائري تضعانه على سكّة فوق خط مستقيم يتجه صوب السماء، حين انتزعتا لنفسيهما ولمن حولهما من أهل المدينة فرصة إسقاط النظام الحاكم..انتزعتا تلك الفرصة من قبضة القوات الاجنبية وكان على سارد (مقامة الكيروسين) ان يحتفي ببهاء تلك اللحظة ، فاحتفى بقربانين:أُم علي وأُم غائب العجوزين وبراية شابّة مغسولة من أدران الماضي ترفرف على المبنى المحرّر..مبنى الفرقة الحزبية.
ولأنَّ لا احتفاءَ بمن يخرج على الفخ باحثاً عن الخيار الثالث، كما يحتمَّ ناموس الراهن الجديد، كان الظلام حاضراً بتمام حلكته يعربد بوجه (حمامة) ومن معها من محرّري المبنى الحزبي ..المبنى الرمز: انتم ملفوظون..ملفوظون..انتم خروج على النص ولا شيء سوى ذلك.
هكذا انتهت الرواية عند السارد وابتدأت عند المتلقّي.. |
