... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
عن الدين والسياسة

فالح عبد الجبار

تاريخ النشر       18/06/2008 06:00 AM


في العراق يبدو الدين والسياسة ظاهراً في وئام. فالدولة تحتفظ بلفظ الجلالة (الله اكبر) على العلم العراقي، والبسملة تتصدر الكتب الرسمية، والعمائم ظاهرة في البرلمان، والميليشيات الدينية تتبارى في غلق محلات بيع الاشرطة الغنائية، وتبزّ بعضها بعضاً في فرض الحجاب، ومنع الاختلاط في الحرم الجامعي، او في الحياة العامة، وغلق محلات تصفيف الشعر للنساء، او بوتيكات الازياء ومواد التجميل، علاوة على طرد الشيطان الجديد، الانترنت (الذي تحرمه بعض الفتاوى)، او الساتلايت.
هذا التواؤم بين المقدس والمدنس، بين الدين والدولة، بدأ في عهد الديكتاتور، بصيغة حملات «ايمانية»، بدأت ايقاعها بفرض الحجاب على الرفيقات، وفتح دورات حزبية في الفقه، واجتذاب بعض المقامات الدينية، واغداق المال على الطرق الصوفية، والمراقد المقدسة.
تباهى لي متصوف بأن المقام الفلاني الرسمي هو من مريديه، وقد ابتنى له ولطريقته «تكايا» (ما يسميه اخوتنا المغاربة: الزوايا)
اكتشفت التوتاليتارية سحر اعادة السحر للعالم لاخفاء بؤسها الدنيوي. وراحت تزيد من ابتناء الجوامع والمساجد لشعب يخلع ابواب داره ويبيعها في المزاد ليدرأ غائلة الجوع.
في هذه الفترة ظهرت الجوامع الرئاسية، التي يتصارع عليها اليوم الورعون من الاحزاب  والجماعات الاسلامية صراعا مفعماً بالتقى المحتدم الى حد الذبح.
عمدت التوتاليتارية الى تسييس الدين، فعمقت، بوعي او بدونه، تسييس الفوارق المذهبية. اما اليوم فان هذا التسييس صار مسلحاً (منذ 2003).
حصل انقلاب في الحامل والمحمول. كانت الدولة تجاهد لاخضاع الدين، عقائد ومؤسسات. صار الدين اليوم، عقائد ومؤسسات ايضاً، يجاهد لاخضاع الدولة، واستخدام جبروتها لفرض ما يراد فرضه.
لكن الدين يواجه اليوم محنة وابتلاء، وهو حال لا يقتصر على العراق وحده. فالدين منقسم مذهبياً، وهذا الانقسام المسيس والمسلح تحول من حرب بين الاحزاب الى حرب بين المذاهب، الى حرب الجوامع.
وقد فزعت حقا وانا اطالع تقارير دوائر الاوقاف الاسلامية في العراق، التي كانت قبلئذ وزارة بيروقراطية من وزارات الدولة، وصارت اليوم مؤسسة شبه مستقلة، موزعة على الاديان والمذاهب.
هناك مائة وثمانية جوامع تعرضت للاعتداء، وهو تعبير تقني يشمل الهجوم بالاسلحة النارية، والقذائف الصاروخية، ومدافع الهاون، او القنابل اليدوية.
بعض الجوامع والمساجد كان قد تحول الى مستودعات سلاح، لكن الكثرة صانت طابعها المقدس بوصفها موئلاً للتعبد، والتأمل الروحي، والتطهر الاخلاقي.
اما قائمة الجوامع والمساجد المدمرة فتضم ثلاثة وخمسين. ويفيد مصطلح التدمير هنا اما التفجير التام، او الحرق التام، او التدمير الجزئي، الذي يحيل هذا المسجد او ذاك الجامع الى كومة حجارة. وفي بغداد وحدها هناك ايضاً سبعة وخمسون جامعاً مغلقاً في منطقة الكرخ وستة واربعون جامعاً مغلقاً في منطقة الرصافة.
ويفيد مصطلح الغلق حالات شتى منها احتلال المسجد من جماعة مسلحة او تحويله الى ثكنة.
يحصل هذا في ظل حكومة يعتنق قادتها الاكثر نفوذا في الحكومة والبرلمان فكرة الدولة الاسلامية وتطبيق الشريعة. ولو اضفنا الى هذا لوائح رجال الدين القتلى غيلة، من فقهاء، واساتذة حديث وتفسير، ووكلاء مرجعيات دينية، لوصلنا الى حالة لا توصف الا بانها ارهاب شامل، لدور العبادة، ولرجال الدين، ولعامة الناس، باسم الدين.
ووصل اضطهاد الدين على يد الدولة الدينية الورعة مديات تفوق ما كانت تمارسه التوتاليتارية باشواط، على بشاعة هذه الممارسة، التي لا يمكن تسويغها باي حال. غير ان النقد الاكبر المنصب على النظم العلمانية، توتاليتارية او عسكرية، لتجاوزها على حدود الدين، يصح بالدرجة نفسها، على النظم التي ترفض العلمانية.
والمشترك بين الاثنين كثير: اوله غياب القواعد المدنية في احترام العقائد، واحترام مؤسساتها، وشخوصها، وثانيه التدمير المنظم، الخفي او المعلن، لهذه المؤسسات والشخوص، وثالثه السعي الى الاستخدام المتبادل للمدنس والمقدس (استخدام الدولة للدين، او العكس استخدام الدين للدولة) تحقيقاً لمآرب وغايات دنيوية: الصراع على موقع الدولة، ومواردها، وممتلكاتها وادواتها. هناك ما يشبه الاجماع على ان دور العبادة، وبالتحديد المساجد والجوامع، هي وقف لعامة المسلمين، اي ملك للجماعة، يخرج عن سلطة وارادة مشيده. وقد تحول هذا الفهم الى قاعدة ثابتة منذ العصر العباسي. وتذكر الدراسات التاريخية ان السلاجقة ارادوا نشر المذهب الشافعي دون غيره،  فابتكروا «المدرسة» لتدريس هذا المذهب دون سواه، نظراً لان حكر الجوامع على مذهب واحد كان محالا باعتبار الجامع وقفاً للمسلمين وليس وقفاً خاصا لمنشئه وبانيه.
والصراع الدائر حول الجوامع وفيها، انما ينبئ بان الايديولوجيات الاسلامية لا تقل شراسة عن الايديولوجيات الدنيوية  في انتهاك المقدس، بل بالاحرى تفوقها شراسة. ويشي هذا بدوره بأن المشكلة عند الاثنين هي غياب فكرة القانون المدني بمعناه الشامل، وحلول فكرة ارادة القوة. وهذا الصراع بين الحق (القانون) والقوة (الارادة السافرة غير المقيدة) هو ما يميز المجتمعات اللامدنية، الخالية من فكرة الدولة، او مجتمعات الدولة المستبدة الخالية من القانون.
كل الحضارات قامت بنقلة كبرى يوم حولت الاعراف والتقاليد والشرائع المقدسة الى مدونات قانونية لا شخصية. في حضارتنا ما يزال هذا التدوين شخصياً يخضع لتأويلات وارادة مفسره. نكون محظوظين حين نحظى بمفسّر منزه عن الهوى. ويجانبنا الحظ حين نواجه كثرة كاثرة تدلي بدلوها في تأويلات متضاربة، تلغي فكرة القانون، وتلغي مبدأ الدولة.
وما العدوان على المراقد والجوامع والفقهاء والعلماء سوى واحد من تجليات هذا الالغاء المزدوج. ولكيما يكف الاسلام السياسي المسلح، المتمذهب عن التشبه بالايديولوجيات الالغائية، يتعين عليه ان يخلع ثوب اللاقانون سريعاً، وبخلافه سيصل الى مآل من سبقوه. والله اعلم.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فالح عبد الجبار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni