... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الكاتبة هدية حسين في صميم المأساة : الشخصية العراقية المنفصمة ... في وجهيها

يوسف ضمرة

تاريخ النشر       12/07/2008 06:00 AM


«مطر الله» هي الرواية الخامسة، للكاتبة العراقية المقيمة في الأردن هدية حسين المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2008، بعد أربع روايات أشهرها «بنت الخان» و «زجاج الوقت»، وبعد مجموعات قصصية...
وإذا كانت هدية حسين في روايتها «بنت الخان» تفكك تفاصيل يوميات الحصار الذي ضُرب على العراق قبل غزوه واحتلاله، فإنها في رواياتها اللاحقة، تقارب العلاقة بين السلطة والناس، وتحاول ملامسة البعدين السيكولوجي والسوسيولوجي في كتاباتها، من دون الخوض في تفاصيل السلطة وآلياتها.

ويبدو ذلك بوضوح أكبر في الرواية الجديدة، خصوصاً وهي تحاول اختراق شخصية مهران المركبة والرئيسة في العمل. فتعبر إلى المناطق المعتمة في مهران، وتستخرج ما أخفاه عن نفسه وعن الآخرين، وما أُخفي عنه طوال حياته.
وإذا كانت السلطة غائبة في شكلها المعتاد والمألوف، فإننا لا يمكن أن نقرأ هذه الرواية من دون أن تقفز صورة السلطة أمامنا في تجلياتها المتعددة.
تقوم الكاتبة باستحضار مهران المغيّب ـ موتا أو ذاكرة ـ ، وتضعه في المكان الذي كان فيه من قبل، أو في الأمكنة التي مر فيها في خلال مسار حياته الطويل، بدءاً من طفولته في البصرة، وانتهاء بأحد أفقر الأحياء في بغداد.
وهنا يبدأ الصوت ـ الراوي ـ الذي ربما كان طالعاً من متاهات مهران المتشابكة، يبدأ في استحضار كل ما ارتكبه مهران في حياته، ليصل في النهاية إلى تحفيزه نفسه لكي يبوح بما تبقى.
تقوم الرواية على مقاربة إيريك فروم للشخصيتين السادية والمازوشية، وتبادل الأدوار الذي قد يحدث بينهما في مرحلة تاريخية ما. فالشخصية الخاضعة المستسلمة للقهر والإذلال، تتحول إلى شخصية قامعة في مواجهة أشخاص ضعفاء ومقهورين، أو لديهم الاستعداد السيكولوجي والاجتماعي لتقبل الظلم والسكوت عنه. وهذا تماماً ما يفعله مهران. إنه يتحول إلى شخصية سادية في العلاقة مع أخيه صابر. ويتحول سادياً مع كل الشخوص الضعيفة والمهمشة في الرواية، وهي الشخوص التي وجدت نفسها في حاجة إليه، كالمستأجرين غرف منزله، والمحتاجين إلى إعانات.
وهو حين يتحدث عن طفولته وماضيه، يستذكر في ألم معاناة أمه في البصرة، وضعفها وقهرها في وسط مجموعات بشرية تقودها الغريزة. ويستذكر كيف رجمت تلك المجموعات أمه وأجبرتها على الرحيل باسم الحفاظ على الشرف والعرض.
لكنه حين يصبح ملاّكاً متوسطاً، وتاجراً صغيراً أو متوسطاً أيضاً، ينتقم لأمه بتحويل نساء متزوجات إلى حريم في عهدته، مستغلاً ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية المتردية. إنه يعاقب الضعفاء والمقهورين والمحتاجين في النسيج الاجتماعي، لكن عقاباً فردياً، رداً على عقاب جماعي تلقته أمه في طفولته، ورداً على عقاب زوج الأم له وهو لم يزل فتى.
في هذه الرحلة الداخلية، ثمة أجراس تدق معلنة مشاريع سياسية وسلطوية، رافقت مسيرة مهران، وهو ما يشي بتماهٍ في شكل أو في آخر بين مهران وبعض النماذج السلطوية، جماعات كانت أو أفراداً.
لكن الكاتبة لا تكتفي بوجهة نظر الصوت، فتعمد إلى شكل المحاكمة، التي يتوافر فيها الدفاع عن المتهم مهران كما قدمته الرواية في ما سبق.
وفي دفاعه عن نفسه، ينجح مهران في التقليل من قوة النفور وتأثيره في الصورة السابقة. بل يمكن القول إنه ينتزع أحياناً شيئاً من التعاطف الذي لم يجد له مكاناً في حضرة مهران في مرآة الصوت. هكذا نجد أنفسنا أمام «مهرانين» يتشابهان خارجياً، لكنهما يختلفان من حيث المبررات والدوافع والأسباب والغايات. وأمام هذين «الشخصين» تنتصب مرآتان، تتحرك في مساحتيهما الواسعتين صور التغيرات الاجتماعية والســياسية الــتي حــلت في العراق. وثمة إشارات مباشرة إلى انقلاب عبد الكريم قاسم، وصعود نجم الحزب الشيوعي والانقسام الذي ســهّل مــهمة القوميين في الانقضاض على الــســـلطة فــي مــا بعد.
وإذا كانت الرواية قائمة على شخصية رئيسة وأساسية، إلا أنها توظف العديد من الشخصيات الأخرى، التي تبرز ما خفي من المشهد اجتماعياً وسياسياً. وهي شخصيات سهلت للكاتبة القيام بلعبة تبادل الأدوار التي أتينا عليها من قبل. فإذا تمكن «مهران» من إدخال زوج «سعدية» مصحاً عقلياً للانفراد بزوجته، فإنه يفاجأ هذه المرة برجل آخر في فراشه هو هذه المرة.
في هذا الحقل السوسيولوجي تعمل آليات تشكّل السلطة، في الوقت الذي ينشغل البسطاء والفقراء والمعدمون بتوفير الهواء للبقاء على قيد الحياة. لكنّ آليات تشكّل السلطة لا يمكن أن تتجاهل هذا الوقود الضروري لعملها. فباسم هذه الفئات الاجتماعية تقفز النخب السياسية إلى الواجهة، بل وتتكئ عليها. فصابر الأخ الأصغر لمهران، والملقب بالبغل، يصبح شيوعياً لأن المكلف تنظيم الشباب وجد فيه خامة ملائمة. وهو أمر صحيح في ظاهره، حيث يقوم مهران باستغلال صابر في بشاعة غريبة، يقابلها صابر في استسلام وخضوع أكثر غرابة. ربما كان الخوف من المجهول عنده كشاب فقير غير متعلم، سبباً في هذا الرضوخ والخنوع. ولذلك ليس مستغرباً أن يكون صابر في طليعة التظاهرة العنيفة التي قادها الشيوعيون في بغداد، واختفى إثرها إلى الأبد. فهو ربما وجد في الحزب الذي أشعره بإنسانيته ملاذاً يقيه بطش الأخ الأكبر. ولكن، هل تكفي المعاناة والمكافأة المنتظرة بعد النصر الموعود سبباً لاعتناق أيدلوجيا ما؟
ربما هذا هو السبب الذي جعل الحركات السياسية المتلاحقة في عراق الرواية ـ الماركسية والقومية والإسلامية الراهنة ـ تقود المجتمع من انتكاسة إلى أخرى، من دون أن يبدو باب الأفق مفتوحاً أو واضحاً.
ثمة غياب حقيقي لدور البشر المعنيين بالتغيير، والذين تنوب عنهم جماعات وتيارات نخبوية وأيدلوجيات ورموز وشرائح، تدعي أن هدفها هو إنقاذ هؤلاء من الشقاء والبؤس، بينما النتيجة مزيد من الشقاء والبؤس. وربما لهذا نجد عراق الرواية ينوء تحت أعباء النخب السياسية التي وظف كل منها الجماهير من أجل امتلاك السلطة، فكانت النتيجة سلطة دموية، وشقاء وبؤساً لا مثيل لهما.
ولكن بناء جسر بين الماضي البعيد ـ منتصف القرن المنصرم ـ والحاضر المتخم بالمفخخات والتفجيرات، ربما لا يكون متيناً. فليست الأحداث كلها تطوراً طبيعياً لما سبقها. وليست حركة المجتمعات دائماً أفقية المسير والاتجاه. فثمة انحناءات وتعرجات بين حين وآخر، وإن كنا نوافق على أن بذور هذه الانحناءات والتعرجات متعينة في الماضي والراهن الاجتماعي.
سيحاول بعض القراء التركيز على البعد التاريخي في الرواية، وذلك في خلال التركيز على عنصري الزمان والمكان. ونقول مسبقاً إن الرواية واقع فني متخيل في المقام الرئيس، حتى لو اعتمدت الأسماء والأزمان الموضوعية المعروفة. لكن هذا الواقع المتخيل، هو ثمرة تفاعل المبدع نفسه مع الواقع الموضوعي، رؤيته جمالياً ومعرفياً إلى هذا الواقع، في نص يوهم قراءه بموضوعيته، لكنه لا يمتلك من الموضوعية إلا ذاته كبنية ورؤية، أي أنه بنية فنية متخيلة سعياً إلى الوعي.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  يوسف ضمرة


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni