... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
قــراءة الــروايــــــة .. وسيلة لفهم الشأن العام

سعد محمد رحيم

تاريخ النشر       18/07/2008 06:00 AM


                                      ـ 1 ـ
في كتابه ( كلام في السياسة: قضايا ورجال.. وجهات نظر ) يستشهد الأستاذ محمد حسنين هيكل بهذه المقولة للأكاديمي والدبلوماسي السوري ثابت العريس : "عندما أريد أن أبحث عن الحقائق الأولى في حياة أي بلد، وعن القواعد السياسية القادرة على تفسير توجهاته ــ فإنني لا أعتمد كتب التاريخ الموثقة ولا المذكرات السياسية الضافية ــ وإنما أتوجه مباشرة إلى الأدب، أسمع من الشاعر والقصاص والروائي أولاً، وبعد ذلك يجيء الدور على المؤرخ والسياسي والدبلوماسي".

ولأن الأستاذ هيكل كان مهتماً، في حينها، بالشأن اليوجوسلافي نصحه العريس بقراءة رواية ( جسر على نهر درينا ) لإيفو أندريتش. وفعلاً قرأ هيكل الرواية بترجمتها الإنكليزية في عام 1960 بناء على تلك النصيحة. ثم عاد وقرأ الرواية ثانية وهو بصدد كتابة مقالة موسعة عن يوغوسلافيا وهي في طور التفكك في نهاية التسعينيات، وهذه المرة بناء على نصيحة الرحالة والدبلوماسي ( فيتز روي ماكلين ) صاحب كتاب ( مقتربات شرقية ). وفي مقالته المذكورة وعنوانها (بقايا يوغوسلافيا: من البوسنة إلى كوسوفو.. من الأساطير إلى الصواريخ ) لخص هيكل بعض أحداث الرواية بما يفيد ويغني موضوعته، قائلاً أن بطل الرواية ليس شخصاً وإنما هو جسر والوقائع فيها "حركة تاريخ تحتشد تياراته، ودياناته، وثقافاته، وإمبراطورياته، وصراعاته، وجيوشه، على ضفتي نهر شاءت مقاديره أن تجعل منه خطاً فالقاً وفاصلاً بين عالمين أو بين عوالم كثيرة زاحفة نحوه من كل الاتجاهات، متلاقية عند النهر، في حالة مواجهة بالتصادم على جانبي ضفافه، حتى كاد الدم المسفوح في مجرى النهر أن يكون أكثر من ماء الثلوج الذائبة فيه".
حين كنت أقرا في مقالة الأستاذ هيكل التي كتبها بأسلوبه السلس والممتع المعهود وبالشكل الذي أسماه ( المقال المسترسل؛ narrative article ) تساءلت؛ فيما إذا كان الأستاذ قد قرأ أياً من الروايات العراقية، هو الذي كتب كثيراً عن قضايا العراق ولاسيما في كتابيه ( حرب الخليج: أوهام النصر والقوة ) و ( الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق)، وفيما إذا كانت هذه القراءة ( إن حصلت فعلاً ) أعانته بأي شكل في أن يغوص، وعلى حد تعبيره؛ "إلى الأعماق ويجوس هناك الكوامن التي يمكن أن نسميها روح الأمم، وينفذ إلى الخلايا التي تحتفظ وحدها بسر الحياة في عمر وطول بقائها"؟.
                                  ـ 2 ـ
تواجهنا في هذا السياق جملة أسئلة منها؛ هل استطاعت الرواية العراقية بمنجزها المنشور خلال ما يقارب القرن أن تعكس صورة عالمنا (العراقي)، هل تشف قراءة روايات عراقية بعينها روح هذا العالم بعمق وصدق؟ والباحث الذي يهمه الشأن العراقي هل سيعثر في نماذج من الرواية العراقية على ما يعرّفه بالشخصية العراقية؛ روحها وتاريخها وطبيعتها ومزاجها وخفاياها في التفكير والشعور والإحساس؟ وهل يمكننا الإشارة من غير تردد إلى عدد من هذه الروايات؟. كم من هذه الروايات وما هي؟.
هل تشبع قراءة رواية ( جلال خالد ) لمحمود أحمد السيد، في سبيل المثال، فضولنا بالإطلالة على جوانب من حال وظروف عراق العشرينيات من القرن العشرين؟ هل تقودنا قراءة رواية ذو النون أيوب ( الدكتور إبراهيم ) إلى الولوج في قلب عراق الثلاثينيات والأربعينيات؟ هل تعكس رواية ( الوجه الآخر ) لفؤاد التكرلي وضع العراق الاجتماعي في الخمسينيات؟ هل تعيننا قراءة ( الركض وراء الذئاب ) لعلي بدر على استيعاب فاصلة مؤشكلة من تاريخنا السياسي المعاصر بعمق؟.
مع طرح مثل هذه الأسئلة نجد اننا أمام معضلة وظيفة الرواية وعلاقتها بالواقع الاجتماعي التاريخي، وإلى أي مدى تتمفصل الكتابة الروائية مع حركة التاريخ الاجتماعي وأين تفترق عنها؟. وقد تكون هذه الأسئلة وغيرها مفاتيح لدراسة الرواية العراقية من منظور كونها جزءاً من معطى ومنجز فكر النهضة الذي بزغ منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وراح ينمو ويثمر في النصف الأول من القرن العشرين بالتناظر والتعاكس مع فكر النهضة في تركيا أواخر العهد العثماني أولاً ومن ثم في البلدان العربية، ولاسيما في مصر والشام ولبنان. ولم تكن مصادفة محضاً أن تُكتب الرواية والقصة الفنية في العراق بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وأن تطلع أجيال من كتّاب السرد طوروا تقنياتهم وأساليبهم ورؤاهم التي تبلورت وتنوعت وأفرزت نماذج متباينة في قيمتها الإبداعية، حتى ليمكننا ـ بقليل من التحفظ ـ أن نتحدث عن رواية عراقية لها نكهتها وتقاليدها المميزة ما تزال تُكتب وستبقى.
إن المتغيرات التي مهدت لازدهار الرواية العراقية فضلاً عن تكوين الدولة وقيام مؤسساتها هي نشوء المدينة العراقية بعمارتها وطبقتها الوسطى ومؤسساتها وهوامشها وهي تحاول أن تجد لها منظومة اجتماعية مختلفة عمّا هي موجودة في البادية والريف، وعلاقات إنتاج هيأتها ارتباط الاقتصاد الوطني بالسوق الرأسمالية العالمية. إلى جانب ما حصل من حراك سياسي واجتماعي ( التطلع إلى الاستقلال، مكافحة التخلف، دعوات تحرير المرأة، نشوء الأحزاب السياسية، الانقلابات العسكرية، اكتشاف النفط، حركات التمرد المدني والأهلي، انتشار التعليم، تطور أنماط الثقافة ووسائط الاتصال، الهجرات في الداخل وإلى المنافي، الخ ).. بيد أنها، بالمقابل، حركة تاريخية متقلبة، لا تكاد تعرف الاستقرار، وهذا واحد من العوامل المعيقة لازدهار كتابة الرواية في العراق حيث يحتاج الكتّاب إلى فسحات زمنية هادئة لالتقاط الأنفاس، والتأمل العميق في ما جرى.. فسحات ضرورية لم تتوفر لهم بعد.
                                        ـ 3 ـ
ربما يمكن تصنيف كثر من الروايات العراقية الحديثة، وفي أفضل نماذجها، تحت خانة ما يُسمّى بتيار الواقعية الاجتماعية حيث تتضمن الرواية رؤية اجتماعية وسياسية ناقدة لتاريخ البلد الحديث والمعاصر بما انطوى عليه من تناقضات وصراعات وتحولات على الرغم من اختلاف الأساليب التي كتبت بها. وحتى تلك الروايات التي حاولت أن تتلبس بلبوس الحداثة، أو التي استعارت تقنيات وأساليب بعض المدارس مثل الواقعية السحرية فإنها، في الغالب، حرصت على طرح رؤية ( سياسية اجتماعية ) لواقع حي ملتبس، شديد التعقيد هو الواقع العراقي.. هذا ينطبق، في سبيل المثال، على روايات غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصكر وعبد الرحمن مجيد الربيعي وأحمد خلف ونجم والي وعلي بدر، كما ينطبق على روايات عبد الخالق الركابي على الرغم من أن المساحة السردية التي يتحرك عليها الركابي تبتعد أعمق في التاريخ وتحاول أن تضفي عليها نوعاً من غرائبية الواقعية السحرية ولكن بنكهة عراقية، بدءاً من رواية ( من يفتح باب الطلسم ) وانتهاء برواية ( سابع أيام الخلق ).
إن زمن السرد في روايات معظم الأسماء التي ذكرناها، إلى جانب أسماء أخرى، يتكافأ ويتقاطع مع الزمن التاريخي ( الواقعي ). فقارئ هذه الروايات لن يستطيع أن ينغمس في قراءتها من دون أن يستحضر أحداث ووقائع تاريخ العراق، ولاسيما في القرن العشرين. وهذا لا يلغي بطبيعة الحال إمكانية تلك القراءة النقدية التي تحلل النص الروائي في بنيته الفنية باستقلال عن بنى وإرهاصات الواقع والتاريخ.
أعتقد أننا نظلم الرواية العراقية إذا قلنا أنها لم تصور، وبنماذج متباينة في قيمتها الفنية ونضج رؤاها، الواقع وحراك المجتمع العراقي، ولم تعكس شيئاً من روح الأمة العراقية. ولذا، وعوداً على بدء، لابد أن يطّلع أي باحث في الشأن العراقي على روايات عراقية بعينها ليفهم تعقيدات وخفايا التاريخ العراقي الحديث، وإلاّ فسيكون ثمة قصور في فهمه.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سعد محمد رحيم


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni