في هذه الرواية، اختار سعداوي أكثر أشكال هذه الأحداث تعبيراً عن المأساة كما في مشاهد لطم النساء على الجثث التي تُجلَبْ ملفوفة بالعلم العراقي الى اسرها المنكوبة من جبهات القتال، وإعدام الهاربين من الحرب مع ايران علناً في الساحات العامة، واعتقال الهاربين من الحرب والمشكوك بعمالتهم للجهات المعادية، وتعذيب المعتقلين، ودفع طلاب المدارس الى تمجيد النظام صباح كل يوم، وأخيراً مشهد الكلاب السائبة التي كانت تنهش بجثث الجند العراقيين الذين لاقوا حتفهم بعد الانسحاب من الكويت...
يتأمل أحمد سعداوي، في روايته «إنه يحلم، أو يلعب، أو يموت» ارض الواقع العراقي عبر ثلاثة عقود من زواياه المتعددة والمختلفة، بل إنه حمل كاميرته/ مخيلته بهدوء واحتراس عاليين، وسافر بها الى المنفى الذي لم يره في حياته اطلاقاً، واستطاع بحق أن يلم به ويتشربه كما لو كان قاطناً فيه لسنوات عدة، من خلال وصفه الدقيق الى حد كبير له. هذا الإلمام بواقع البلاد والمنفى لم يكن لأرشفته في روايته كما يبدو للوهلة الاولى (مع ان للراوية جانباً ارشيفياً)، بل لكي يضعه في مختبره الروائي، ويحوله الى كيانات متفككة ومتشظية، سرعان ما جمعها مجدداً في مخيلته واحلامه وصنع منها واقعاً مجاوراً ومحايثاً للواقع الاصلي، لا ليكون بديلاً عنه فقط، وإنما لأن شغفه باللعب وجهه الى هذا الفعل المشاكس والجريء.
تتحدّث الرواية باختصار عن شاب يدعى (نديم)، وهو شاهد محايد الانفعال، على واقع يناسب تراجيديته، التراجيديات التاريخية الخالدة.
وهو ضحية كبيرة لهذه التراجيديا التي اعطبت حياته وهزمت اماله البسيطة. فهو شاهد على حرب الثماني سنوات مع ايران، على الانكسار الكبير في حرب تحرير الكويت، وعلى الانتفاضة الشعبية عام 1991، على الحصار المفترس، على سقوط الديكتاتورية، والأحداث الدامية التي جاءت بعد السقوط. ومن جهة اخرى، هو مهزوم ومنكسر بامتياز ( حرمانه من حنان الاب، رحيل اخوه الى المنفى، الذي كان يأمل منه ان يرسل عليه ذات يوم للعيش في المنفى معه، هرباً من جحيم واقعه، إلا ان هذا المخلّص المفترض اختفى عنه، عوقه المؤقت وموت والدته بالوقت ذاته بفعل تهدّم منزلهم، بعد سقوط قذيفة امريكية على منزل جارهم، وغيرها من المآسي والآلام الشخصية).
كل هذه الاشكاليات، دفعت (نديم) الى لعبة ابتكار حكايات اخرى عبر احلام اليقظة للشخصيات التي يعيش معها تارة، وتارة اخرى كانت عبر احلام نومه، التي ساهمت مساهمة كبيرة في دفع الرواية الى اتجاهات صادمة ومدهشة للمتلقي. وتستمر هذه اللعبة الى نهاية الرواية، التي يجتمع فيها الميتون والمتخيلون (وهم بكل الاحوال ميتون بالنهاية) معاً في مكان بعيد اطلق عليه سعداوي مصطلح (الهنانك اي المكان الذي يقع بعيداً عن الواقع/ الهنا.
كُتبت الرواية بلغة سلسة وتلقائية، وبسرد منساب، وكأنه يريد بقصد طرد الوصف بمفهومه التقليدي من جسد الرواية، التي ايضاً بالاختزال والتكثيف في سرد الكثير من مشاهدها، وبالأخص تلك المشاهد المألوفة لدى الواقع العراقي، بسبب كبر حجمها، ولكثرة تكرارها خلال العقود الثلاثة الاخيرة، التي تمثل زمن الرواية. بالرغم من ذلك، جاء الاختزال عاملاً مساعداً لنجاح الرواية، وذلك لأن سعداوي اختار اكثر اشكال هذه الاحداث تعبيراً عن المأساة كما في مشاهد لطم النساء على الجثث التي تُجلَبْ ملفوفة بالعلم العراقي الى اسرها المنكوبة من جبهات القتال، واعدام الهاربين من الحرب مع ايران علناً في الساحات العامة، واعتقال الهاربين من الحرب والمشكوك بعمالتهم للجهات المعادية، وتعذيب المعتقلين، ودفع طلاب المدارس الى تمجيد النظام صباح كل يوم، وأخيراً مشهد الكلاب السائبة التي كانت تنهش بجثث الجند العراقيين الذين لاقوا حتفهم بعد الانسحاب من الكويت... الخ.
تعدد الأصوات أيضاً في الرواية، فنراه يبتكر اكثر من صوت لعدة شخصيات (حميد في المنفى، كبير المنضدين، عبود، مصطفى الفيلي مثلاً)، بل ان احدى اكبر اشكال لعبته تمثلت في تجسيده لصوت (حميد) الداخلي المناقض له في منفاه، الى شخصية نراها مستقلة عنه بالتفكير وبالسلوك وبالتخييل ايضاً واصبحت في ما بعد تسمى بـ(هاميت). وتعددت الاشكال وكأنه كمن يود ان يطرد سلطة الروي الاحادي للاحداث، او كمن يريد ان ينقل الحدث من وجهات نظر مختلفة، وكأنه يطلب من المتلقي ان يشاركه بطرح طريقته في روي الحدث الذي يراه، مادام ان هذا الحدث يحتمل طرق روي كثيرة، حتى انه جعل (نديم) يسرق منه دور الراوي كثيراً، حينما راح ينسب الاصوات الافتراضية للعديد من شخصيات الرواية.
ومن جهة اخرى، رأيناه يجرح ديكتاتورية الواقع الواقعي ويقلل من حضوره في جسد الرواية، م ن خلال منح الطاقة الحلمية حيزاً كبيراً بدلاً عنه، أي ان الحلم هنا يروى وكأنه الواقع. المؤلف يمارس الانزياج مرتين: المرة الاولى، حينما انسحب من دور المؤرشف او المؤرخ، وارتدى دور الراوي في سرد حكايته. والمرة الثانية حينما اهمل دور الراوي التقليدي، وارتدى دور الراوي المغاير، المختلف، الخارج عن السياقات التقليدية في السرد الروائي.
سعداوي يمارس لعبته بتكنيك يشبه تكنيك محرك الدمى الذي يمسك اكثر من خيط بكفيه من اجل تحريك دُماه العديدة في وقت واحد. فهو يمسك خيط الواقع، وخيط الحلم، وخيط المخيلة في آن واحد.
وهو ايضا يمتلك تكنيك المخرج السينمائي، الذي يلقي فصول ومشاهد فيلمه بشكل مبعثر، ولكن على ارضية واحدة وصلبة، تفسح المجال للمتلقي للوقوف عليها بثقة تجعله قادراً على جمع المشاهد المتشظية بنفسه. انها محاولة لايقاظ ذهن المتلقي لحظة القراءة، وشحن الملاحظة والتركيز في رأس المتلقي. وهنا كما نرى يكمن احد اسرار الرواية.