... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
مقالات عائد وراحل : عودة بلا اوهام وعودة من المنفى

كامل شياع

تاريخ النشر       28/08/2008 06:00 AM


 عودة بلا أوهام
أنا أتهيأ للعودة إلى بغداد، من المحتمل جداً أنني سأتخذ منها مستقراً. ليست لدي أوهام كبيرة عمّا ينتظرني هناك، ولا يساورني شكّ في شأن الخطوة التي أخطوها. فالخيار ذاتي وهذا أجمل ما في الأمر. مع ذلك لا أريد أن أصادر التجربة قبل وقوعها، كما لا أريد أن أتحصّن، هذه المرّة، بنوايا النفس (الطيّبة والخيّرة دائماً)، إزاء كمائن الواقع ومكر الأقدار. أريد فقط أن أواكب نبض لحظة من لحظات زمن مضطرب وواعد. ميلي للعودة بحثاً عن حياة جديدة، مرده الاعتقاد بأن الاختراق الأميركي، بما ينطوي عليه من عدوان، قد وضعنا جميعاً أمام مسؤولية صنع الحدث (وهذا لا يتحقق أبداً في شروط مرغوبة)، وتحرير الحاضر من اجترار الماضي أو سراب المستقبل.
لقد تغيّرنا جميعاً بضربة ساحر أميركي أحمق وخطر، وعلينا أن ندرك ذلك. كل الأيديولوجيات النائمة في أذهاننا تحتاج اليوم إلى زحزحة وتهشيم، كلنا مطالب بأن يرى الآخر فيه، أن يصغي للقوة المغايرة داخله حتى لو بدت هادئة وسويّة. التيارات العكسية الآتية قد تقتلعنا، لكنها يمكن أن تجذّرنا. فلو وقفنا منها موقفاً لا يقوم على الممانعة النرجسية الأثيرة لدينا (لسبب ديني أو قومي أو يساري)، ولا على ركوب الموجة الليبرالية الجديدة، سنكون، ربما للمرة الأولى، أقدر على تأسيس تاريخنا الحديث، تأسيساً خارج المدارات العقيمة التي فصلت الروح عن الجسد، والفكرة عن الواقع، واللغة عن المعنى. لا أريدك أن تحسب التطلّع إلى الآفاق تفاؤلاً... فلست أرى أمامي سوى القديم الذي ما زال يقاوم، والجديد الذي يحاول أن يناور.
(...)
سأجرّب إذاً أن أبدّل المنفى بالوطن، أو أن أبدّل متاهة بأخرى. لا تهمّني كثيراً التسميات، لأن الأمر يتعلق بالمعنى. وهو ما يبدو لي واضحاً وبسيطاً: أنا شخص عاش من موقعه قصة استمرت ٢٥ عاماً. وحين بلغت تلك القصة نهايتها، عليه أن يأتي بفعل يتناسب معها، عليه أن يبحث عن حياة أخرى. وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، تتحول معايشته الطويلة، بما فيها من قسوة وحرمان وإصرار وأمل، ضرباً من العبث والتفاهة. تخيل ما سيحدث لفلاديمير واستراغون لو ظهر غودو؟ لا أقصد هنا أنّ ظهور غودو ـ المستحيل على المسرح ـ ممكن على أرض العراق «المحرر»! مكان غودو الوحيد خارج المكان، أي داخل النفس.
ما حدث في العراق حدّد اختياراتي ومصيري. ولئن وقفت بعيداً عن زمن الوطن المجنون، فقد أنشأت معه علاقة ضدية ولّدتْ كل ما له معنى في حياتي. وهي علاقة من طرف واحد. خارج الذات الملتاعة، المشتاقة، الحانية والمتمردة... لا يكون للأشياء والأزمنة والأماكن، رجع أو أثر. إنها مادة خرساء، وأبعاد صامتة لا تنطق بمكنوناتها إلا حين يقيم البشر فيها. حينذاك فقط تغدو موحية وحميمة. كما لو أنها ظلال الكائن على الأرض.
سأقتفي هذه المرّة مسالك الذاكرة فعلياً. لا تلزمني الصور والخيالات، عيني فقط هي الدليل. سوف لا أكتشف بها شيئاً، تكفيني إعادة الاكتشاف. ماذا بقي من أيقونة الوطن التي رسمها شعور الفقدان؟ ماذا يربطني بذلك العالم المألوف والعجيب؟ هل سأستأنف فيه الرحلة الأولى، أم أنقطع عنه اهتداءً بطيف المنفى العنيد؟
ليس بوسع المنفيّ إلا أن يتصور حياة الآخرين الذين تركهم وراءه على درجة عالية من الاستثنائية والشذوذ. وهو لا شك محقٌ حين يسقط الوطن بين مخالب آلة قمع همجية، ويبتلى بحروب مروّعة. غير أنّ ما لا يدركه المنفيّ، هو أنّ الحياة هناك لا تتوقف رغم ما يعترضها من أهوال. فالناس كالناس لا ينفكون يسعون ويشقون، يقاسون ويأملون ويتكاثرون ويموتون... يتكيفون مع نوازل القدر، ويألفون مرارات العيش، فيصنعون منها حقائق عادية تافهة. حياتهم تتواصل رغم الانكسارات والإحباطات. يكفيهم من سبل البقاء حدودها الدنيا، ومن أسباب الأمن فواصل قصيرة. أما ما يفتقدونه، فتعوّضهم عنه عناية إلهية لا تغفل، ولا تهمل. إن قوّتهم تكمن في امتثالهم النهائي لإرادة لا مردّ لها.
ليس بوسع المنفيّ أن يقدّر ذلك التلاؤم العجيب حقّ قدره، لأنه مأخوذ بحالة إسقاط دائم، ولأنه لا يجد حاجة للتسليم بأحكام الضرورة. كيف يكون له ذلك وهو السارح في فسحة من الحريّة اسمها المنفى، الكلمة الفاصلة فيها للرأي والموقف؟ مثال المنفيّ هنا بروميثيوس حامل النار، ومثال ابن الوطن سيزيف المجنّد لغاية عبثية. المنفيّ كائن دنيوي رغماً عنه، إنساني إلى حدّ الإفراط بإرادته. وأين الوطن، المغلوب على أمره، كائن «أخروي» يسكن أرضاً خراباً، ويحلق في مدارات أسطورية.
المنفيّ كائن ميتافيزيقيّ أصيل، يراهن على الانتظار ويوقف له سنوات العمر مترقّباً ما يأتي، من دون أن يأبه لما مضى. إنه كائن يخلّد الثبات، يتطلع لموعده الأخير، ناسياً فعل الزمن المخرِّب، حطام مَن ينتظر وما يُنتظر.
حينما تَهيّأ لي أن قصتي الطويلة مع المنفى طوت فصلها الختامي، انفتحت أمامي فصول أخرى تفاصيلها معوّمة، ومحمولاتها متناسخة. أين القرار وقد انكسر التعارض بين الوطن والمنفى، ونضبت الشحنة الرمزية للمكان؟ في الزمن المتناهي للذات، صرت أرى المُستقرّ الوحيد.
 مجلّة «زوايا»،  ك  ما كتبه الراحل كامل شياع عام 2005دت إلى العراق قبل عامين، تاركاً ورائي قرابة خمسة وعشرين عاماً من الهجرة القسرية. تلك العودة إلى ما حسبته ملاذي الآخر أو الأخير، عللتها لنفسي بأن فصلاً من حياتي صار ماضياً ينبغي طيـّه فطويته، وأن فصلاً آخر قد فتح إحتمالاته، على مصراعيها، أمامي فاستجبت إليه. لم أقصد أن أكون مغامراً حين مضيت في رحلة العودة التي لم أتخيلها منذ البداية نزهة في عالم الأحلام، ولم يأخذني إليها حماس رومانتيكي. لقد شعرت فقط بأنني مدعو لرحلة نحو المجهول، وفي ذلك يكمن سر أنجذابي اليها.
رحلة العودة وضعتني شيئاً فشيئاً إزاء اختيارات صعبة لم أكن أعي دلالاتها أو أقدر أبعادها، وحررتني من الارتباط بمكان محدد على حساب الزمن الخاص للتجربة الذاتية،
واوقفتني بعيداً عن الأفكار المجردة حول التاريخ العام لأكتشف تنوّع التاريخ المحلي وتعقيده وإلتوائه. ومن يبحث، يجد!
بجانب التجربة الفعلية والتاريخ الحي، وضعتني هذه الرحلة وجهاً لوجه أمام موت جارف ، وشيك وعبثي. لا اعني هنا بالطبع أفكاراً أو أخيلة أو هواجس تستبق حدث الموت الرهيب، بل حقائق ملموسة يمتزج فيها الموت بالحياة ويتلازمان في كل لحظة. الموت في مدينة كبغداد يسعى إلى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحياناً، ولا مبالية إزاءه في أغلب الأحيان. ما أكثر لافتات الموت السود في المدينة؟ كم من الناس واسيت بفقدان أب أو إبن أو أخ أو قريب؟ كم مرة قصدت مجالس التأبين معزياً؟ كم مرة وجدت نفسي عاجزاً عن إظهار تعاطفي مع ذوي الضحايا البريئة المجهولة لي؟ كم بكيت في سري حزناً على مشاهد الدماء المسفوكة في كل مكان؟
بعد هذا الإنغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره، يسألني البعض أحياناً، ألا تخاف من الموت؟ فأجيب، أنا الوافد أخيراً إلى دوامة العنف المستشري، أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً مني، وأعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها، وأعلم أنني قبل ذلك كله كثير القلق على مصير أخي ومرافقيّ الذين بملازمتهم لي في سكوني وحركتي يجازفون بحياتهم وحياة عوائلهم. برغم ذلك كله، وبمقدار ما يتعلق الأمر بمصيري الشخصي، أجد نفسي مطمئناً عادة لأنني حين وطأت هذا البلد الحزين سلمت نفسي لحكم القدر بقناعة ورضى. وما فعلت ذلك كما يفعل أي إنتحاري يسعى إلى حتفه في هذا العالم وثوابه الموعود في العالم الآخر، فالقضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت. وهذه الحياة ينبغي ألا تكون بالضرورة آمنة شرط أن تشبع الرغبة في الوجود والفعل والانغمار.
منذ سنوات وأنا أعتقد، ربما بعد قراءة جان بودريار، بأن النهاية حاصلة في الحاضر. إنها تلازمنا في كل لحظة نعيشها. وحين ندرك ذلك، لا يعد هناك ما يستحق الانتظار. غير أن تسليم النفس للنهاية ... ليس استسلاماً، إنه بداية السير نحو التخوم أو بينها ..... هناك حيث تتقلص المسافات. وعليّ أن أعترف بأنني لم أكن غير مكترث بالموت دائماً. فبعد إغتيال بشع لأحد الرفاق في شقته، صرت للمرة الأولى أنام وبجانبي مسدس جاهز للإطلاق. الأسلوب الشنيع لتعذيب ذلك الرفيق والتمثيل الوحشي بجسده، تركني لليال عديدة عرضة لكوابيس مرعبة. أي إرادة تمكنني من إيقاف انثيالات العقل الباطن، والتشبث غير الواعي بالحياة؟
عندما أتخيل الآن الحدود الدنيا والقصوى لهذه التجربة، أجد نفسي مسكوناً بروح متقشفة... روح بالحد الأدنى تقبل الواقع كما هو، ولا تسند لنفسها سلطة معرفية كبيرة أو تسقط عليه أوهامها أو تجرفها إحتمالاته القصوى. هذا كما أعتقد ثمن الاقتراب من التاريخ كمادة حية، كحالة هشة في طور التشكل والإندثار. فلا تجربة حقيقية دون تفاصيل جزئية وملموسة.... دون إزاحة أو تأجيل.
للعودة من المنفى، في حالتي، سبب عاطفي أكيد. إذْ وجدت نفسي في علاقة لا أقوى على إستبدالها أو تعويضها. إنها العلاقة مع الوطن كمجموعة من البشر، والتقاليد، الأمكنة، كفضاء من ضوء وهواء، من فوضى وخراب وألم. بعد أن جربت هذه العلاقة صرت متيقناً من جدواها ومعناها بوصفها حقلاً للممارسة اليومية والفكرية، لكنني لم أزل أشك بأن حب الوطن من صنف الفضائل!. فقد يهيم المرء حباً بوطنه، المصنوع من صور وخيالات، وهو بعيد عنه، وقد لا يقيم لنفسه علاقة إخلاقية معه وهو يعيش في داخله، وقد يخدم بعضنا الوطن من موقف متجرد إلا من الوازع الإنساني، وقد يدمره آخر يتشدق بإسمه ليل نهار. ما هو ثابت في الوطن كأرض وتاريخ لا يلزم الجميع بالتماهي التام معه أو التساوق مع حركته وتحولاته. وهكذا فأن ضعف الحماس للوطن أحياناً لا يدخل في باب الرذيلة أو الخيانة.
الوطن محطة في حياة الإنسان تتفرع منها جميع المحطات الأخرى التي قد تؤدي إليها أو لا تؤدي، لكنها تحكمنا، بقوة شبه قدرية، بأن نظل متعلقين بها رمزياً حتى لو هجرناها فعلياً، أن نظل مشدودين إليها بقرابة دم حتى لو أودعنا مصائرنا خارجها.
ليس في عودتي من المنفى نكوص نحو الماضي، استبدال نمط حياة "متخلف" بآخر متطور، تفضيل عالم عنيف حدّ الهمجية على عالم مهذب ومتحضر، وهجر السلامة والأمان لإرتياد مكان مجهول في "قلب الظلام"... ظلام التاريخ. إذا كانت هناك عودة بالنسبة لي فهي مغادرة تجربة استنفدت نفسها تدريجياً، كسر شرط حياتي غدا عادياً بغية إكتشاف ما هو غير مألوف أو مضمون. هذه الهجرة المعاكسة لا تفترض مسارات محددة، ولا ترتكز على ثنائيات ثابتة من قبيل الوطن/ المنفى، الداخل / الخارج، الشرق/ الغرب، الهوية/ الآخر..... وهي كذلك لا تفترض حركة بشوطين واحد للذهاب وآخر للإياب كما توحي قراءة رحلة يوليسيس التي يعدّها البعض الصورة النمطية للسرد، ولا تأخذ طابع علاقة مغلقة للنفي ونفي النفي والتركيب. فلرحلة النفس في الزمن مستويات عدّة وتفرعات شتى. ولأنها مقبلة دائماً على أفق مفتوح يمكن أن يمضي بها العدّ إلى أكثر من ثلاث مراحل.
عدت إلى العراق قبل عامين، لأدرك أنني بلغت غاية ما صبوت إليه: أنهاء شعوري بالسأم من الإكتفاء بعدّ سنوات الهجرة، من البقاء بعيداً عن وطن طالما تخيلته جميلاً وأنيساً برغم جنونه وقسوته، ونزع ثوب الغربة عن نفسي لأرى الواقع كما هو عارياً من اغلفته وبريقه، النطق بلغة المقيم في الوادي لا المتطلع من أعلى التل، والتعايش بأدنى التوقعات مع مواطن البؤس والغرابة والقسوة.
عدت إليه فوجدته يمضي في متاهة تاريخية، لا يمكنها أن تكون إلا مؤقتة. وأنا أحد شهودها: أعيش تذبذباتها، أراقب تقلباتها، أتفاعل مع تفاصيلها، وأثير أسئلة حولها، وأراجع قناعات بشأنها، وأكوّن أحكاماً عنها. أنني منغمر بتجربة غيـّرت حساسيتي إزاء كل ما يحيط بي. فما عادت تستوقفني كثيراً الأفكار المسبقة والمقارنات الجاهزة والرغبات التي تعظ بما ينبغي أن تكون عليه حالة الأشياء. وبرغم أن الحلم السياسي الذي أسرني ظل هو هو ، صرت أشعر بالقرف من كل خطاب سياسي يعمد إلى إجترار عذابات الضحية، التنكر من المسؤولية عن الماضي، إستغلال الرضوض النفسية التي تستفز الأحياء أو تخطف منهم وعيهم.
كل ما أبحث عنه وسط هذا الضجيج الزائف هو الهدوء، الصدق، ورفعة الشأن العام.
العراق فتح ذهني وقلبي لسطوة الحاجة الآسرة القاسية على ناسه. وهو، كما يبدو لي الآن، حالة مثالية لفهم ما يجري في العالم بأسره. فلأنه بلغ القاع صار يتيح، بشكل أفضل، رؤية منابع الحروب والهمجية والمصالح الأنانية، الكذب والفساد والعنف والنسيان المتعمد للحقيقة أو السهو عنها. كل، من موقعه، مهموم بالعراق ومتورط فيه:أميركا العظيمة المتجبرة والسطحية، الديمقراطيات الغربية المرتبكة، الشعبويون من كل الأنواع، حاملو الشعار اليساري، اليمينيون والمحافظون، العروبيون، الأصوليون، تجار الموت، رجال الأعمال،حاملو ألوية العصبيات الخادعة.....كل خبر يأتيني عن بؤس هذا العالم وتعاسته يحيلني الى "مستعمرة" سوء إسمها العراق.. هي درجة الصفر التي لا موقع لها على خرائط المكان أو مقاييس التجربة، لكنها تتيح، في الوقت نفسه، فهم أوجه الزيف في عمارة زمننا الماضي في مسارات مجهولة.
عدت إلى العراق بعدما اكتشفت أنني شخص دون مشروع خاص. في السياسة كما في الثقافة مشروعي مرتبط بالجماعة، فلا فعل ولا حضور دون مشاركة وتضامن.
عدت من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدّد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف. وسوف تلازمني أشباحه كما لازمتني أشباح الوطن.
كل إنسحاب من المنفى تعميق لجذوره وتمويه لخفاياه. أي أوجاع سرية يورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟
*المدى تشرين الثاني 2005

عودة بلا أوهام

أنا أتهيأ للعودة إلى بغداد، من المحتمل جداً أنني سأتخذ منها مستقراً. ليست لدي أوهام كبيرة عمّا ينتظرني هناك، ولا يساورني شكّ في شأن الخطوة التي أخطوها. فالخيار ذاتي وهذا أجمل ما في الأمر. مع ذلك لا أريد أن أصادر التجربة قبل وقوعها، كما لا أريد أن أتحصّن، هذه المرّة، بنوايا النفس (الطيّبة والخيّرة دائماً)، إزاء كمائن الواقع ومكر الأقدار. أريد فقط أن أواكب نبض لحظة من لحظات زمن مضطرب وواعد. ميلي للعودة بحثاً عن حياة جديدة، مرده الاعتقاد بأن الاختراق الأميركي، بما ينطوي عليه من عدوان، قد وضعنا جميعاً أمام مسؤولية صنع الحدث (وهذا لا يتحقق أبداً في شروط مرغوبة)، وتحرير الحاضر من اجترار الماضي أو سراب المستقبل.
لقد تغيّرنا جميعاً بضربة ساحر أميركي أحمق وخطر، وعلينا أن ندرك ذلك. كل الأيديولوجيات النائمة في أذهاننا تحتاج اليوم إلى زحزحة وتهشيم، كلنا مطالب بأن يرى الآخر فيه، أن يصغي للقوة المغايرة داخله حتى لو بدت هادئة وسويّة. التيارات العكسية الآتية قد تقتلعنا، لكنها يمكن أن تجذّرنا. فلو وقفنا منها موقفاً لا يقوم على الممانعة النرجسية الأثيرة لدينا (لسبب ديني أو قومي أو يساري)، ولا على ركوب الموجة الليبرالية الجديدة، سنكون، ربما للمرة الأولى، أقدر على تأسيس تاريخنا الحديث، تأسيساً خارج المدارات العقيمة التي فصلت الروح عن الجسد، والفكرة عن الواقع، واللغة عن المعنى. لا أريدك أن تحسب التطلّع إلى الآفاق تفاؤلاً... فلست أرى أمامي سوى القديم الذي ما زال يقاوم، والجديد الذي يحاول أن يناور.
(...)
سأجرّب إذاً أن أبدّل المنفى بالوطن، أو أن أبدّل متاهة بأخرى. لا تهمّني كثيراً التسميات، لأن الأمر يتعلق بالمعنى. وهو ما يبدو لي واضحاً وبسيطاً: أنا شخص عاش من موقعه قصة استمرت ٢٥ عاماً. وحين بلغت تلك القصة نهايتها، عليه أن يأتي بفعل يتناسب معها، عليه أن يبحث عن حياة أخرى. وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، تتحول معايشته الطويلة، بما فيها من قسوة وحرمان وإصرار وأمل، ضرباً من العبث والتفاهة. تخيل ما سيحدث لفلاديمير واستراغون لو ظهر غودو؟ لا أقصد هنا أنّ ظهور غودو ـ المستحيل على المسرح ـ ممكن على أرض العراق «المحرر»! مكان غودو الوحيد خارج المكان، أي داخل النفس.
ما حدث في العراق حدّد اختياراتي ومصيري. ولئن وقفت بعيداً عن زمن الوطن المجنون، فقد أنشأت معه علاقة ضدية ولّدتْ كل ما له معنى في حياتي. وهي علاقة من طرف واحد. خارج الذات الملتاعة، المشتاقة، الحانية والمتمردة... لا يكون للأشياء والأزمنة والأماكن، رجع أو أثر. إنها مادة خرساء، وأبعاد صامتة لا تنطق بمكنوناتها إلا حين يقيم البشر فيها. حينذاك فقط تغدو موحية وحميمة. كما لو أنها ظلال الكائن على الأرض.
سأقتفي هذه المرّة مسالك الذاكرة فعلياً. لا تلزمني الصور والخيالات، عيني فقط هي الدليل. سوف لا أكتشف بها شيئاً، تكفيني إعادة الاكتشاف. ماذا بقي من أيقونة الوطن التي رسمها شعور الفقدان؟ ماذا يربطني بذلك العالم المألوف والعجيب؟ هل سأستأنف فيه الرحلة الأولى، أم أنقطع عنه اهتداءً بطيف المنفى العنيد؟
ليس بوسع المنفيّ إلا أن يتصور حياة الآخرين الذين تركهم وراءه على درجة عالية من الاستثنائية والشذوذ. وهو لا شك محقٌ حين يسقط الوطن بين مخالب آلة قمع همجية، ويبتلى بحروب مروّعة. غير أنّ ما لا يدركه المنفيّ، هو أنّ الحياة هناك لا تتوقف رغم ما يعترضها من أهوال. فالناس كالناس لا ينفكون يسعون ويشقون، يقاسون ويأملون ويتكاثرون ويموتون... يتكيفون مع نوازل القدر، ويألفون مرارات العيش، فيصنعون منها حقائق عادية تافهة. حياتهم تتواصل رغم الانكسارات والإحباطات. يكفيهم من سبل البقاء حدودها الدنيا، ومن أسباب الأمن فواصل قصيرة. أما ما يفتقدونه، فتعوّضهم عنه عناية إلهية لا تغفل، ولا تهمل. إن قوّتهم تكمن في امتثالهم النهائي لإرادة لا مردّ لها.
ليس بوسع المنفيّ أن يقدّر ذلك التلاؤم العجيب حقّ قدره، لأنه مأخوذ بحالة إسقاط دائم، ولأنه لا يجد حاجة للتسليم بأحكام الضرورة. كيف يكون له ذلك وهو السارح في فسحة من الحريّة اسمها المنفى، الكلمة الفاصلة فيها للرأي والموقف؟ مثال المنفيّ هنا بروميثيوس حامل النار، ومثال ابن الوطن سيزيف المجنّد لغاية عبثية. المنفيّ كائن دنيوي رغماً عنه، إنساني إلى حدّ الإفراط بإرادته. وأين الوطن، المغلوب على أمره، كائن «أخروي» يسكن أرضاً خراباً، ويحلق في مدارات أسطورية.
المنفيّ كائن ميتافيزيقيّ أصيل، يراهن على الانتظار ويوقف له سنوات العمر مترقّباً ما يأتي، من دون أن يأبه لما مضى. إنه كائن يخلّد الثبات، يتطلع لموعده الأخير، ناسياً فعل الزمن المخرِّب، حطام مَن ينتظر وما يُنتظر.
حينما تَهيّأ لي أن قصتي الطويلة مع المنفى طوت فصلها الختامي، انفتحت أمامي فصول أخرى تفاصيلها معوّمة، ومحمولاتها متناسخة. أين القرار وقد انكسر التعارض بين الوطن والمنفى، ونضبت الشحنة الرمزية للمكان؟ في الزمن المتناهي للذات، صرت أرى المُستقرّ الوحيد.
(مقالة منشورة في مجلّة «زوايا»، ربيع
 

 

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  كامل شياع


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni