... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
علي جعفر العلاق ناقدا في «ها هي الغابة فأين الأشجار»؟

ياسين النصير

تاريخ النشر       10/09/2008 06:00 AM


للشاعر علي جعفر العلاق، مساهمة نقدية جادة في حقل الشعرية العربية، شأنه شأن مجايليه من الشعراء العرب الذين يشكلون أشجارا مثمرة في الحركة الثانية للحداثة الشعرية، هذه الحركة التي تتسع لقصيدة النثر ولتداخل الأجناس وتقترب من الرسم والموسيقى والأقصوصة، والريبورتاج المكاني، وهو ما يجعل تجربة الكتابة النقدية عندهم تنظيرا وتفهما لطبيعة الشعرية العربية في تحولاتها ومنعرجاتها الحديثة. لقد دربوا أنفسهم والقصيدة على خوض تجارب بكر في حقول معرفية تتوازن فيها التجربة الشعرية بالتجربة النقدية وإن طاقة النثر النقدية التي تولد رأيا مصاحبا للشعرية، هي جزء من شعرية تنحت في حجر التجربة، لكن من الوجهة الأخرى للحجر، ما يجعل أفكار هذا الجيل حقلا تجريبيا للنقد، لأنهم نأوا بقصائدهم عن حقل الأحاسيس الفجة، التي ما فتئت تمخر في بحر الذات وتجاربها الشخصية ومتعلقة في لحظة شعرية عابرة، ولضعف رؤية شاعرها النقدية وما تفرزه من طاقة تأويلية عادية نجدها قابعة في لحظتها ولا تحيل القارئ الى قضايا اكبر من كونها أحاسيس عادية. فتعيش كل التجربة الشعرية والنقدية لها مرغمة تحت خيمة السماء الأولى، دون أن تبتعد كثيراً عن مرابعها ومنشأها الوجودي.
شخصيا أرى في تجارب الشعراء فاضل العزاوي وفوزي كريم وكريم كاصد وسامي مهدي وعلى جعفر العلاق وياسين طه حافظ، على مستوى الشعر العراقي، وأدونيس والماغوط وصلاح عبد الصبور ونازك والبياتي على مستوى الشعر العربي توازنا نقديا بين أن يروا حقول القصيدة من خارج بنيتها، وبين أن يطوروا حقول القصيدة خلال تجاربهم الفنية فيها. وهذا التوازن يقترب من محاولة صياغة رؤية نقدية خاصة بحركة الحداثة الثانية، رؤية تتوازن القصيدة فيها بين المزاوجة بين المثيولوجي والأسطوري والاجتماعي والسياسي، والتنوع اليومي والمألوف حتى بدت القصيدة مجسا جماهيريا يوميا وحياتيا يغتني بثقافة الجمهور وأفكاره، وهو ما يدعو إليه العلاق في علاقة القصيدة بالجمهور.
لكن ما الذي يجعل شاعراً مكتفيا بقصيدته، وله صوته الشعري ومكانته أن يلجأ للنقد؟ أهي الحاجة لأن يرافق النقد القصيدة؟ أم أن القصيدة الحديثة تحتاج إلى مقدمات تمهد لها الطريق الوعر وهي تشقه للوصول إلى اوسع جماعة قارئة؟ أم ان الشعرية الحديثة لسعتها وتناقضاتها وصعوبة لملمة مشاهدها ومستوياتها بحاجة دائما إلى فنار يضيء لها طريق العودة لمراسيها القديمة؟ أو لأن الكتابة النقدية لدى عدد من الشعراء بحث عن المتغير شأنها شأن القصيدة؟
لا تجد كتابة العلاق مشابهة لكتابة سامي مهدي، ولا هما شبيهان بكتابة فاضل العزاوي وليس على شاكله كتابة كريم كاصد ولا هي على منحنيات فوزي كريم، وكل هذه الغابة المشتبكة من الأشجار ليست هي كما يكتب أدونيس أو جبرا أو عباس بيضون،أو صلاح عبد الصبور أو غيرهم؟، والسؤال لماذا إذن يكتب الشاعر مقالات نقدية ما دام لا يحتفي بنقد الآخرين عن قصائده؟ أسئلة كثيرة يمكن أن تنتجها هذه المحاولات النقدية، لكنها جميعا تفصح عن مجرى عميق في الشعرية الحديثة.
غابة العلاق النقدية التي تفتقد أشجارها، ليست هي مجموعة آراء معزولة عن شعرية العلاق نفسه، ولا عن اهتمامات زملائه الشعرية، لكنها تؤشر لحاجة تفكير الشاعر بقصيدته، وهي منطقة لم تمتحنها التجربة الشعرية عمقاً بعد، وأعني كيفية التفكير بالصورة الشعرية عن طريق الكتابة النقدية. كتاب العلاق كله يقع ضمن هذه المفردة، انه يفكر نقديا بالصورة، ويبني على هذا التفكير المشهد الشعري، ثم يعيد تركيب الذائقة العامة للمتلقي بطريقة أن لا يستقبل القصيدة خلال لغتها، وإنما خلال ما توحيه صورها، هذه شبه معادلة متحولة قليلاً عن المعادل الموضوعي المفهوم النقدي الأليوتي القديم، لكن العلاق يوسع من مفهومه ليجعل منه طريقة لتنمية ذائقة المتلقي بوصفه مشاركاً في الاستقبال. انه الطرف الآخر من القصيدة، ذلك الذي تصل إليه عبر وسائل تعبير أخرى، رؤية العلاق تقع في منتصف الطريق بين الشاعر والمتلقي وهي منطقة تزيد من زخم القصيدة وتشحنها بمقومات الصورة.
في سياق آخر تجد أن كل مقالة هي مفردة نقدية. ليس بين المقالات الاربع والعشرين مقالة أي رابط شكلي، بل ثمة موضوع واحد يجمعها وهو الرؤية النقدية للشاعر، لذا فالمقالات غابة مزدحمة بمجهول الأفكار الجديدة التي تغني قارئها بمادتها وشفافية لغتها، وهذا يعني إن المنهجية الصحفية غالبة على الرؤية الأكاديمية، بالرغم من أن قراءتها مجتمعة تؤكد رؤية نقدية متسعة، وفيها وجدت آراء رائعة، مثل تلك التي تتحدث عن المسودة والقصيدة. فالمسودة تعود للماضي، تكبل القصيدة بكشوفاتها الأولى، لكنها تتخلى عنها لأنها اكتفت بتمهيد الطريق، بينما القصيدة للمستقبل، لتلك النار المشتعلة.
يضع الشاعر الذات في مكانة عليا، والذات هنا تعني «الفيض» في حين ان التجربة تعني «النار». ويوسع من التجربة بالرغم من انها حارقة، لذا نجده يبني معظم تصوراته على الصورة الحديثة للقصيدة، المشحونة بطاقة الدراما لا بطاقة الذاتية والغنائية، فالدراما وحدها تكسر قواعد الشعر التقليدية، الوزن والإيقاع والقافية. إنه يحتفي بالمسرح، ويريد ان تكون القصيدة درامية تمثل بالصورة على مسرح الشاعر، ويتلقاها العاديون من الناس، بعيدة تماما عن اي احتفالية ايقاعية، أو طربية جماهيرية.
ويرى الكاتب أيضاً ان النقاد يقيمون مفهوم الحداثة على تغيرات الشكل، بينما يبقى الموضوع بلا تغيير، هذا رأي ناضج وصريح فالحداثة لا تقوم على عكازة واحدة، بل على ثلاث، واحدة هي تجديد الشكل، والثانية، هي تغيير جذري في الموضوعات، والثالثة هي ذاتية الشاعر الكونية.
لا شك أن الكتابة التي تفرضها الصحيفة على الرأي النقدي تحرف القصدية النقدية باتجاه لحظة اختيار الموضوع، والكتابة المنتظمة فيه، وقد وجدت في الكتاب ـ كما اشرت قبل قليل ـ اللاوحدة، بالرغم من ان كل ما تحدث به هو عن الشعر، واعني باللاوحدة ان كل مقالة مكتفية بذاتها، قصيرة، مركزة، بمنهجية صحافية، وبشاعرية متوثبة، وبلغة جميلة ونقدية واضحة، لكنها مقتصرة على ما فيها من معنى، وهذا يعني أنه عليك كي تقرأ هذا الكتاب أن تكون مكتفيا بما تقوله المقالة الواحدة بالرغم من جميع المقالات عن الشعر، ومن هنا فهي غابة، وفيها من الأشجار مثمرة وأخرى حائلة، وعلينا أن نقبل السير فيها لان مخزونها من المعرفة يكمن في جذورها وليس فيما ظهر منها على الورق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  ياسين النصير


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni