... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
اصبح للاطباء بندقية !

وليد الحيدري

تاريخ النشر       07/10/2008 06:00 AM


منذ ان قررت الحكومة ( في 29 ايلول الماضي ) السماح للاطباء بحمل السلاح دفاعا عن النفس وأنا اقلب هذا الامر من جميع جوانبه ، بل قلبته على بطنه وظهره كذلك ، تماما كطبيب يفحص مريضا ، ولم أر كيف يمكن لطبيب ان يحمل سلاحا ، ولا كيف يستخدمه ، ولا كيف يمكن ان يدافع عن نفسه في اللحظة الحاسمة التي يقفز فيها قاتل محترف أمامه .
حتى لو اعتقدت ان العراقيين امتلكوا بالدم معرفة استخدام السلاح ، وهو ما حدث بعد ثلاث حروب عملت على عسكرة المجتمع ، وبعد حرب الدفاع عن النفس السائدة في العراق التي ثبتت قيم العنف والانتقام والخوف والهجرة واجترار الذكريات السود ، الا انني بالمقابل ادرك الموقع الذي يحتله الاطباء من موضوع الحياة والموت ، والتدريب الذي حصلوا عليه في الدفاع عن الحياة وانقاذها ، بحيث ان هذا التدريب أضعف غرائزهم القتالية العادية التي وفرتها لهم كيمياء دمائهم ، ما لا ينفع معه لاسترجاعها قوية أن يتحزموا بمسدس أو يحملوا رمانة في حقائبهم التي تضم السماعة واوراق (الراجيتات ) . 
بسبب معرفتي بما جرى ويجري في الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية اراني أجد عشرة تبريرات لقرار الحكومة بالسماح للاطباء بحمل السلاح ، الا انني سرعان ما تنتابني كآبة عميقة بسبب افكار مضادة ،( واقتراحات قاعدية توازن حموضة معدتي ) مع أفكار أخرى تواجه هذا القرار بأسئلة جادة .
لقد اخبرني بعض الاطباء الاختصاص قبل ان يغادروا العراق أنهم منذ منتصف عام 2005 طلبوا من الحكومة الموافقة على حمل السلاح أو ان يوظفوا حراسا للحماية على حسابهم الشخصي ، الا ان الحكومة رفضت طلبهم معتبرة اياه معيبا عليها مرة ، ومعيبا على الاطباء مرة ، وغير عملي مرة ثالثة ، بل قيل لهم : ومن اين لنا بالاسلحة التي نمنحها اياكم؟ لقد وجد الاطباء انفسهم في النهاية يبلعون طلبهم ، وفي ما بعد قرر العديد منهم الهجرة من العراق تخلصا من التهديد والاذلال . لقد فهموا أن لا احد يستطيع انقاذهم غير الموت الهادئ ، الموت الذي يسميه العراقيون بميتة الله التي اراد التكفيريون والمليشيات والفيالق الرسالية الآتية من خارج الحدود منازعة الله عليها.
منذ ذلك الحين وأنا أدير في رأسي الجرأة التي تحلى بها الاطباء في صياغة طلبهم الغريب هذا . فمن ناحية المبدأ هو معيب عليهم حقا قبل ان يكون معيبا على الحكومة . وإما ان يكون الامر معيبا على الحكومة فهو في الحقيقة لطمة على وجهها وفضيحة مع فرقة طبول وجلاجل ، فالحكومة التي من المفترض ان تحتكر السلاح ما ان تبيح للناس منازعتها في حمله حتى تجد نفسها مضطرة الى تجريدهم منه بالقوة . لا لعب في هذا الامر في دولة حديثة . بيد ان الشروط العراقية لا علاقة لها بالحداثة بل بفكرة العيب الاخلاقية ، وأظن ، بالاعتماد على النسق الاخلاقي ، أن الحكومة التي لم تكن لتستطيع حماية أحد آنذاك شعرت ان ذلك الطلب يحرجها ويسبب لها الفضيحة . فلأنها وقفت متفرجة على مقتل عشرات الاطباء ساءها ان يبادر الاطباء بالدفاع عن انفسهم على نحو يحركون فيه قضية موتهم المجاني بهذه السعة امام الرأي العام العربي والعالمي . الحكومة يجب ان تكون مهابة ، ولكي تكون كذلك عليها ان لا تسمح لأحد باحراجها أو وضعها موضع شبهة ، بصرف النظر عن شعارات الشفافية والديمقراطية. بيد إن ما يحيرني الآن هو ان الحكومة وافقت على السماح للاطباء بحمل السلاح مؤخرا في الوقت الذي تدعي فيه تراجع اعمال العنف ونجاح خططها الامنية .  اليس من حقنا ان نتساءل لماذا لم توافق على هذا القرار عندما كان مطلوبا على نحو عاجل في الايام الذي كان فيها الاطباء يقتلون ويهربون خارج الوطن بالعشرات ؟ ولماذا وافقت عليه في ظروف تراجع العنف ؟
 في غياب المعلومات ، وفي غياب الدولة ، لا ضمان لأحد من أن لا يكون هدفا لقاتل . بوحود دولة لا تهاب الحقيقة ولا تخشى من السلطة الحاكمة ، كما لا تخشى من الشارع ، ولا  من المليشيات ، تستطيع هي لا غيرها ان تتكفل بحماية الناس وتقوم بواجبها بلا موسيقى وعروض دعائية عن المكاسب التي تحققت والتي هي على الطريق ، من دون احراج لطبيب او مهندس او فلاح او عامل كهرباء أو حتى للسيد رئيس الوزراء. الا اننا فقراء في كل شيء صلب يمكن ان نتكئ عليه وكلنا ثقة بأنه لن يخسف او ينزلق . من هنا ندير الافكار كما لو نكور طين ، فنصنع نموذجا لكي نحطمه . نبدأ برشاقة لننتهي بسأم وخوف وكذب . كل ما حولنا مخيف ولا يدعو للاطمئنان .
دعونا نكمل هذا النموذج الذي يتعوج في أيدينا من كثر انعدام اليقين . لنقر أولا أن الاطباء على حق في مطالبتهم بحمل السلاح ، والحكومة التي رفضت طلبهم كانت على حق كذلك ، وها هي على حق مرة ثانية عندما تبيح لهم بأن يتحزموا بمسدس او بحمل رشاش للدفاع عن انفسهم . إن الراهن العراقي يبيح للناس ان يكونوا على حق . وفي كل الأحوال من يعارض ما يجعل الخير خيرين وثلاثة ؟ هناك قوات الحكومة من جيش وشرطة ، وأضيف اليهم الصحوات والعشائر وقوى الدفاع الذاتي لحماية الوزراء ونواب البرلمان ، فلماذا تزعجنا تنظيمات ( اطباء مسلحون! ) ؟ ما الضير باضافة قوة جديدة الى القوى المسلحة؟
وبالمقارنة استحلفكم بالله أيهما أنفع نوابنا الذين لا يجيدون شيئا محددا ، والذين دفعوا الحكومة الى الدروب التي لا مخارج لها ، أم الاطباء الذين يعالجوننا من الامراض ويمنعون عنا الموت الى حين ان توافينا المنية بعد عمر طويل ؟ انا شخصيا افضل الاطباء ، وكان الاجدر بالحكومة ان تخصص لهم حراسا على ان تخصصها للنواب الذين فضلا عن ميزاتهم كثرثارين تقاسمت كتلهم الكبيرة الوزارات فحولوها الى مراكز حزبية طائفية لا تنجز شيئا وتشترك بصمت في التآمر على الدولة الوطنية الموحدة . ( من لا يعرف هذه الحقيقة عن التوزيع الطائفي للوزارات والذي يعرف اختصارا بالمحاصصة فليرفع يده معترضا !)
لكن ما بال الحكومة تقبل كل هذا الخداع ( التوافقي ) ؟ الأنها تشكلت عبر توافق التعطيلات المتبادلة التي يجعلها ميتة ، بوزارات لا تقبل الموظفين الا بعد حصولهم على تزكية من الأحزاب وباستهتار يبز استهتار العهد السابق ؟ هل هذا ما انتظرناه في عصر الحرية والديمقراطية وحكم الجماعات الرسالية؟ الا يؤدي هذا الى تدهور الامن واضطرار الحكومة لاستخدام الاسلحة في كل صغيرة وكبيرة بما في ذلك السماح للاطباء بحمل السلاح ؟   
 لقد فشلت الحكومة في كل شيء ما عدا بناء الجيش والشرطة على مستوى الاعداد والتعبئة واستخدام السلاح ، كما استطاعت تحقيق مستوى جيد من الامن بمساعدة ابناء الشعب ولاسيما الصحوة . وبالطبع جرى هذا بمساعدة الامريكان الذين لا يجيدون لعبة غير لعبة السلاح والاعلام . لعل هذا النجاح المهم فتح شهية الحكومة على تطوير الامن بالفاظ نشر السلاح ، وهو ما نعرف ان الحكومة عازمة عليه بتسليح عشائر الجنوب . انه ضرب من تسجيل هدف والانتقام من الضعف القديم . من الواضح ان حملة الحكومة على العنف اتخذت صفة عنيفة في غياب سياسة فعالة . لكن بسبب غياب سياسة فعالة يتصل العنف بعنف آخر ، ويتولد العنف من سوء الفهم ، ومن سوء استخدام السلاح ، والافراط في استخدام السلاح . عندما لا يمكن تحقيق السلام والامن الا من خلال الاسلحة ، فإن ثقافة حمل السلاح تصبح سائدة . السلاح في الظروف العراقية يولّد من تبريراته المعقولة نتائج لامعقولة ، والمجموعتان تخضعان لسلسلة السبب والنتيجة . وحقا ، عندما نقوم بجردة ما بين الاسباب ونتائجها ، ما بين سلاح وسلاح ، ما بين سلاح ارهابي وسلاح مليشياوي وسلاح الحكومة ، ندرك ان السلاح يولد الاسلحة ، وأن ما نراه ونسمعه يتخذ صفة واقعية وتبريرية . فاعمال العنف بقدر ما اضعفت الحكومة قوت عزيمتها على استخدام السلاح . كان عنترة يقول لا يفل الحديد غير الحديد ، وها نحن في كل يوم نفل حديدا بحديد . وما من مفر ، اسلحة الحكومة المشرعة مبررة باسلحة الارهابيين ، ولا يفل اسلحة الارهابيين غير اسلحة الحكومة . بالمقابل باتت اسلحة الحكومة على المستوى السياسي ضعيفة وفقيرة وعديمة الطعم والرائحة حيثما تفحصنا الحقول المسؤولة عنها : النفط والغاز والمياه والتجارة والزراعة والصناعة والتعليم . هل يتكرمون علينا بتحقيق هدف حقيقي على مستوى التنمية ؟ لا شيء ! لا شيء ! وبالعكس بتنا نستهلك الاسلحة اكثر مما نستهلك الشاي والسكر والسكاير . الناس الذين وجدوا انفسهم في مطحنة الارهاب والعنف اعتادوا الاسلحة – اعتادوها في الدفاع عن انفسهم ، كما اعتادوا رؤيتها وهي تتبختر في الشوارع . لا نمتلك ان نحاجج الحكومة على قرقعة اسلحتها ، لأننا نخاف من قرقعة اسلحة المليشيات والقاعدة والجماعات الخاصة ، وإذا ما امعنا النظر جيدا فإننا ما زلنا نخاف من تلك القوى التي قتلت الاطباء والمهندسين والعلماء والتقنيين والطيارين . والحال كلما امعنا النظر واستعدنا السنوات السابقة المهولة اكتشفنا ما يجعلنا اكثر خوفا . دعونا مثلا نسأل قبل ان نسلح الاطباء عمن قتل الاطباء اصلا ؟ هل عرفت الحكومة بأسلحتها وقرقعات اسلحتها وامنها ومخبريها من قام بقتل الاطباء؟ إذا ما عرفت فلماذا تحجز المعلومات عن الناس ، وإذا لم تعرف حتى الآن فالمصيبة اعظم ، لأنه ما نفع الاسلحة من دون تحديد هدف ، وما نفع استعراضات الشوارع من دون مصادر معلومات وتعبئة  ومعرفة واضحة بالخصوم ؟
إن اكثر ما نخشاه بعد ان سمحت الحكومة للاطباء بحمل السلاح انها تعلم بوجود تهديدات جديدة على حياتهم فوافقت على طلب قديم بعد امتناع طويل ؟
نعترف إننا نصوغ هنا تخمينات ما دامت الحكومة لا توضح ما يجري . الوقائع الجديدة تولد اسئلة ، والاسئلة تستدعي اجوبة . ولأن الحكومة باتت تحتفظ بالاسرار الى نفسها فمن حقنا ان نشك ونشكك ونطالب بالمعرفة ، فهو حق من حقوقنا ، مع ان الكثيرين باتوا يعرفون من الاسرار ما يشيب الرأس .
 منذ ان صمتت وزارة الصحة على مقتل الاطباء ابتداءً نيسان 2003 حتى اواخر عام 2007  باتت اخبار مقتل الاطباء تجري بين الناس مجرى الشائعات التي تتأكد كلما زادت اعداد المغدورين . والحال بات قتل الاطباء امرا عاديا ، ولا يحمل اية صفة استثنائية ، بل ان الاطباء قتلوا بسهولة ، وبصمت ، وبكلف اقل في المهارة والوقت والتخطيط ومعرفة الهدف ، أي بكلف اقل من قتل الخبازين وعمال البلدية والصحفيين والموظفين . إن هذا يثير حزننا وغضبنا ويجعلنا نطالب الحكومة ، ووزارة الصحة بوجه خاص ، ان تصدر بيانا عن الحقائق وتعلم الناس بما جرى ويجري ، وهو افضل من قرار السماح للاطباء بحمل السلاح ، كما انه يعفينا من البحث عن المعلومات في مكان آخر . 
حقيقة لا اعرف كيف يمكن ان يحافظ حمل السلاح على حياة الاطباء . إن المجانية التي قتل فيها الاطباء تشير الى انهم لم يدافعوا عن انفسهم ، أو انهم أضعف من ان يدافعوا عن انفسهم ، وأكثر خجلا في الدفاع عن انفسهم ، من قبيل انهم ربما خجلوا من الصراخ وطلب المساعدة كعادة المهذبين من ابناء الطبقة الوسطى . لست مطلعا على الكيفية التي سيجري فيها تزويد الاطباء بالاسلحة ، وما طبيعة السلاح ، والذخيرة . وحتى لو اجاب على اسئلتي هذه واحد من العباقرة الذين يقفون وراء هذا القرار ، فإن فكرة تزويد الاطباء بالسلاح للدفاع عن انفسهم شلتني عن التفكير على نحو تخيلت معها طبيبا يقود سيارته الى مقر عمله فتخرج له سيارة مسرعة ، لتصدمها او تعترضها او ترشقها برشقة رشاش لتشل الطبيب البائس وينتهي الامر . طبعا هناك المسدسات كاتمة الصوت التي تقتل بصمت . هذا ما حدث للشهيد كامل شياع الذي ما كان ليستطيع أن يفعل شيئا حتى لو كان متحزما بمسدس . المهذبون والمفيدون والشرفاء يقتلون على قدم وساق في العراق . أي اسلحة - يا حكومة - منعت سافلا من تنفيذ هدفه ؟ كم مرة قالها العقلاء : السياسة تتقدم على الاسلحة وقول الحقيقة يتقدمان على الاثنين !  
  30/09/2008  


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  وليد الحيدري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni