... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
عراق كامل شياع، الوطن المهزوم

حيدر سعيد

تاريخ النشر       18/10/2008 06:00 AM


“ما حدث في العراق حدّد اختياراتي ومصيري. ولئن وقفت بعيداً عن زمن الوطن المجنون، فقد أنشأت معه علاقة ضدية ولّدتْ كل ما له معنى في حياتي." -كامـل شيـاع

انتهت المغامرة.هكذا، بطلقة مكتومة الصوت، أنهت حياة صديقي ورفيقي وزميلي كامل شياع. طلقة ربما لم تكن تستهدف شخصَ كامل، بقدر ما كانت تستهدف معنىً ما يمثله، انتماء ما، أو أيديولوجيا ما، أو موقفا ما. لم يكن إنهاء حياة كامل مقصودا لذاته، بل كان رسالة، قاسية وبربرية. أرواح الناس في بلادنا أصبحت رسائل. ثمة آلاف الجهات الغامضة، التي ترسل رسائل ملتبسة، عبر أرواح الضحايا، المجهولين والمعلومين، إلى جهات غير محددة.

روح كامل كانت رسالة. ولكن، مَن أرسلها؟ وإلى مَن؟ وما معناها؟ ومن أجل ماذا؟ أي معنى في كامل استهدفت تلك الطلقة الخرساء؟ كامل الشيوعي؟ المعارض السابق لنظام صدّام حسين؟ المنفيّ؟ رجل الدولة؟ العلماني؟.
ستمر الأيام ولن يعرف أحد مَن قتل كامل؟ وما هي الجهة التي خططت لقتله؟ ولمَ؟
روح كامل تلاشت في فضاء دموي ووحشي لرسائل ملتبسة وغامضة.
  روح كامل تلاشت أمام شعور قاس بأننا أصبحنا غرباء في هذه المعركة، بأننا ضحايا معركة ليست معركتنا، معركة الهويات، وعقد التاريخ، والهوس الجماعي بالسلطة.
روح كامل رسمت موتنا جميعا، نحن الذين عشنا الجنون البربري الذي اجتاح بلادَنا سنتي 2006 و2007، وعشنا رعبَ أن نُقتَل لسبب قدري لم نختره، هوية، أو أصل، أو اسم. مقتل كامل كتب قصة موتنا، أطلق ما تبقى من خوفنا على أرواحنا ونحن نشاهد كيف كان يمكن أن يموت كل واحد منا. كثّف صرختنا في اسم واحد.
  لم تكن الطلقة التي قتلت كامل مجرد نهاية تقليدية، لفيلم، أو بطل، أو رواية، أو ملحمة. لم تكن درسا عاديا في صناعة الخواتيم. الطلقة الخرساء تلك روت لنا كيف تنكتب النهايات التراجيدية، ليس لفرد، بل لجيل، وجماعة.
  لقد جسّد كامل شياع، المثقف المنفي منذ نهاية السبعينيات، الذي اختار أن يترك أوربا ويعود إلى وطنه بعد سقوط الدكتاتورية في 2003 ليعمل من داخله موظفا كبيرا في وزارة الثقافة، جسّد إعادةَ تفكير بالثنائية الكلاسيكية (المثقف/ السلطة). كان يريد أن يكون لحظة توفيق بينهما. ولذلك، كان طبيعيا أن يعيد مقتلُه الجدلَ عن علاقة المثقف بالسلطة، حيث انفرطت الهدنة بينهما، التي مثّلها كامل، وحيث تمخض عن مقتله فهمان متعارضان: فهم المثقفين، وفهم السلطة.
غير أن القلق الجوهري الذي مثّله وعاشه وعكسه كامل، المنفيّ، هو فلسفة عودته إلى وطنه الأصلي، العراق، وتحديد معنى وجوده فيه من جديد. ربما كان انشغاله هذا ذا دوافع سايكولوجية، فهو بحاجة إلى أن يبرر، مع نفسه أولا، تركَ مواطنته الأوربية والعودة إلى بلاد جحيمية، كانت ـ قدرا ـ وطنَه الأصلي.
ومع ذلك، لم تكن هذه العودة (أو: قرار العودة)، بالنسبة له، نوستالجيا أو واجبا أخلاقيا، بل كانت تتأسس (وتنفتح به) على إعادة فلسفة معنى الوطن، والوطنية، والانتماء، والهوية. يقول كامل في نص كتبه قبيل موته: «إذا كانت هناك عودة بالنسبة لي فهي مغادرة تجربة استنفدت نفسها تدريجياً، . . . أنا شخص عاش من موقعه قصة استمرت ٢٥ عاماً. وحين بلغت تلك القصة نهايتها، عليه أن يأتي بفعل يتناسب معها، عليه أن يبحث عن حياة أخرى. وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، تتحول معايشته الطويلة، بما فيها من قسوة وحرمان وإصرار وأمل، ضرباً من العبث والتفاهة».
لم يكن كامل يريد أن يتحرك على وفق ثنائية (الوطن/ المنفى). غير أننا لا نملك إلا أن نتعامل مع سلسلة الثنائيات الثابتة هذه (داخل/ خارج، شرق/ غرب، أنا/ آخر، وطن/ منفى). يمكننا أن ننقد هذه الثنائيات ونشكك فيها، ولكننا ـ في النهاية ـ لا يمكن إلا إن نعمل بها ومن داخلها. وهكذا، كان (الوطن) هو المقابل، العملي والواقعي، لـ (المنفى). يقول: «حينما تَهيّأ لي أن قصتي الطويلة مع المنفى طوت فصلها الختامي، انفتحت أمامي فصول أخرى تفاصيلها معوّمة، ومحمولاتها متناسخة. أين القرار وقد انكسر التعارض بين الوطن والمنفى، ونضبت الشحنة الرمزية للمكان؟ . . . سأجرّب إذن أن أبدّل المنفى بالوطن، أو أن أبدّل متاهة بأخرى. لا تهمّني كثيراً التسميات، لأن الأمر يتعلق بالمعنى. وهو ما يبدو لي واضحاً وبسيطاً».
لم يكن الوطن، بالنسبة لكامل، وطنا بالمعنى الوجداني، ترسمه ذاكرة وانفعالات ورموز، ولا هو وطن بالمعنى الأخلاقي، تحدده سياسات ومبادئ وقضايا والتزام.
وطن كامل شياع مغامرة، مغامرة ليست فقط في العيش في بلاد هي الأخطر في العالم، في غابة من العنف والموت والبربرية، بل في أن تكون هذه الأرض هي الأرض الصفر، ويكون علينا صناعتها، صناعة وجدانها وقيمها ونواميسها، صناعة إنسانها وترابها. هذه هي المغامرة.
كامل لا يحمل هوية المنفى، ولا هوية الوطن، ولا شيئا مركبا منهما، بل شيء أبعد منهما.     ربما لم يُتَح لكامل شياع أن ينجز كتابا، غير أنه كتب بموته نصا فريدا عن التباس معنى الوطن.
للمقارنة، لم يستطع إدوارد سعيد، أحد أبرز منظري التباس الهوية وتعقيدها، إلا أن يموت فلسطينيا، وأن يُدفَن في لبنان، على تخوم القدس، مدينته. في حين لم يختر كامل أن يُقتَل في بغداد. لأقل: ربما لم يختر أن يموت عراقيا.     أدرك كم هي صادمة هذه الجملة، وقد مرّنا أنفسنا على التعامل مع مقتل كامل بوصفه استهدافا لخيار الوطنية الذي مثّله. فمن دون شك، استطاع كامل، في أثناء عمله في دولة ما بعد صدّام حسين لخمس سنوات، أن يقدم نموذجا وطنيا، في زمان كان مفتاح فهمه والتعامل معه هو الهويات الإثنية والطائفية. وبلا شك، كانت الطلقة التي أصابته ضربة لهذا النموذج، بقصد أو بدون قصد. ربما كان القاتل يحمل أنموذجا نقيضا لنموذج الوطنية الذي يمثله كامل، وإن الأمر لا يتعدى أن يكون صراع نماذج في الوطنية. ولكن كامل شياع كان يتشكل في إطار هوية معقدة، قد تكون هويته العراقية جزءا منها فقط، وجزءا صغيرا ربما، غير أنها لم تكن عراقية محضا بكل تأكيد. وأكثر من ذلك، كان كامل يدرك تعقيد هويته. إنه وريث فلسفة تشكك في الهوية من حيث جوهرها القائم على التماثل والتطابق.
وفي النهاية، لن يبقى من كامل سوى روحه المفكِّرة، التي طمحت إلى إعادة فلسفة الهوية والوطنية العراقية. هذا هو الذي سيعطيه فرادة بين كل الشهداء الذين أعطوا أرواحهم انطلاقا من التزام أخلاقي. بالتأكيد، كامل شياع أكبر من أن يُختَزَل بأنه شهيد التزام أخلاقي تجاه بلده.
العراق، بالنسبة لكامل، هو مختبر لحركة التأريخ، فرصة لأن تعيشه بجزيئاته وتفصيلاته المعقدة، بدمائه وخرابه، بتيجانه وقاعه، بأبطاله وضحاياه. التأريخ ليس نظرية، وليس فلسفة، بل واقع، ودم، وحياة. «التأريخ لا يسير في طرق ملكية»، على نحو ما يقول، وأن تكون في العراق يعني أن تكون في قاع التأريخ، تعيش معه وفيه، تراقبه وتفهمه: «أجد نفسي مسكوناً بروح متقشفة، روح بالحد الأدنى تقبل الواقع كما هو، ولا تسند لنفسها سلطة معرفية كبيرة أو تسقط عليه أوهامها أو تجرفها احتمالاته القصوى. هذا كما أعتقد ثمن الاقتراب من التاريخ كمادة حية، كحالة هشة في طور التشكل والاندثار. فلا تجربة حقيقية دون تفاصيل جزئية وملموسة، دون إزاحة أو تأجيل».      
التأريخ، أيضا، مختبر لإعادة صياغة الهوية، لأن الهوية معطى سياقي، مفتوحة على التأريخ وتقلباته وصراعاته، يشكلها كقطعة من طين الصلصال.
حركة التأريخ تعيد صياغة الهوية باستمرار. ولذلك، لم يكن كامل يفكر بأن هناك هوية عراقية ثابتة ومحدّدة تأريخيا. وأيضا، ليست هناك وطنية عراقية ثابتة.
بين أواسط 2006 و2007، تبادلنا ـ كامل وأنا ـ مجموعة رسائل عن سياسة الذاكرة في العراق. في تلك المراسلات، كنتُ أفترض أن فشل الدولة في العراق هو نتيجة لفشلها في صناعة أمة، والآن، لن يكون بإمكاننا أن نعيد مشروع (الدولة ـ الأمة) من جديد، بل إن علينا أن نبني دولة تعكس هذا التعدد، في حين كان كامل يرى أن هناك إمكانية لـ (الأمة العراقية): «إن هذه الأمة [العراقية] التي نتحدث عنها قائمة بالقوة، أي كاحتمال، وليس بالفعل، أي كحقيقة قائمة بذاتها».
كان مشروع كامل، العائد إلى وطنه، هو إطلاق هذه (الأمة العراقية)، من القوة إلى الفعل، هو إعادة صياغة هويتها ومعنى وطنيتها. بالتأكيد، كان كامل جزءا من مشروع تأريخي (لا يصل، بالضرورة، إلى غاياته) لصناعة وطنية عراقية، لا تكون إعادة إنتاج لتقاليد الوطنية العراقية، ولا استجابة لذاكرة جريحة، وطنية تصنعها عملية تأريخية معقدة، وتُولَد من رحم العنف والفوضى والخراب والدماء. «هكذا هي الهوية: بداية دائمة وجدل لا ينقطع. وهكذا ينبغي لها أن تتجسد في العراق اليوم كي تطلق صراع الواحد والكثرة، وتعيد تشكيلنا ككائنات سياسية وكذوات ثقافية».
هنا، يمكن أن نميِّز (وقد يكون كامل عمل على وفق تمييز واضح) بين إعادة فلسفة الهوية والوطنية، بالشكل الذي فكّر بهما، وبين الحاجة إلى شحن الوطنية العراقية (بالطريقة التي عاشها بعد عودته إلى العراق) خيارا وحيدا للخروج من الخراب الذي خلّفته حروب الهويات.
غير أن كامل لم يرد أن يُقتَل في بغداد، بل أراد أن يحيا فيها، بغداد الحلم الذي يمكن أن يُصنَع، بغداد البداية الدائمة، لا بغداد الذاكرة.     ولذلك، كان قتل كامل ـ بالنسبة لي في الأقل ـ هزيمة لاختيار أن تكون في عنف وطنك، . . . هزيمة لفكرة الوطن.
ثمة تداخل معقد بين أن نفهم مقتل كامل بأنه تضحية لا بد من أن ندفعها، أو أن نفهمه بأنه دفع حياته ثمنا لهذا الاختيار، أو أن نفهمه بأنه هزيمة لهذا الاختيار. هل يمكننا أن نختار فهما واحدا من دون أن نكون مدفوعين بدوافع سياسية أو أيديولوجية؟ أو من دون أن يكون هذا التفسير تعبيرا عن مخاوفنا وعقدنا؟ من دون أن تتورط الذات المفكرة في سياسة المعنى؟
الوطن ما زال بعيدا عن حلمنا بإعادة فلسفة معنى وطنيته، وما زال عصيا على نموذجنا المحلوم في الوطنية. ثمة صراع نماذج في الوطنية. وها هو ذا نموذجنا يُهزَم.
لا تبدو هذه الجملة صالحة لأن تكون ختاما لهذه المرثية.
لكنها وُلدت من الطلقة الغادرة التي أشعرتنا بأنها أقوى منا، أقوى من كلماتنا وفلسفاتنا. وُلدت من انكسار حلمنا في الزمان الذي كنا نحلم بأنه سيكون زماننا. وُلدت من اللاعدالة التي سمحت بأن يُقتَل مثقف، مفكر، على يد قاتل مأجور، ربما لم يتعلم حتى الأبجدية. وُلدت من أنني لا أستطيع أن أفلسف مقتل كامل بهذه البربرية. وُلدت من عجزي عن أن أستعيد بلاغة عصور ثورية لم أعرفها. وُلدت من أنني لم أقوَ بعد على الإيمان بالجملة التي تركها لنا كامل، كأنما لنفهم مقتله بهدوء أكثر: «التاريخ تحرك، ولا بد من ضحايا». 


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  حيدر سعيد


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni