... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
"عراقي في باريس" لصموئيل شمعون : من صندوق قرياقوس إلى الكتابة العجيبة

صباح زوين

تاريخ النشر       23/10/2008 06:00 AM


لم أقرأ رواية ـ سيرة صموئيل شمعون باللغة العربية سوى منذ أشهر، أي هذه السنة، وليس فور صدورها عن منشورات الجمل سنة .٢٠٠٥ ليس من سبب وجيه لذلك، انما هكذا كان الأمر الى أن اكتشفته وندمت لأني لم أعثر عليه من قبل، بل كم فرحتُ لأني في أي حال لم أفوّته. وها هو اليوم في حلةٍ فرنسية، الرواية صدرت للتو، سنة ،٢٠٠٨ عن »أكت سود«، بترجمة رائعة لستيفاني دو جول في ٣٦٣ صفحة وبغلاف جميل جدا؛ إنها النسخة الفرنسية لعراقي في باريس وقد أبقت »أكت سود« على العنوان العربي ذاته وأعتقد انه أفضل ما يمكن من عناوين لهذا الكتاب. فهو موح بقوة، وهو يختصر حياة هذا الكتاب وروحه. مهما يكن، أهم ما في الأمر أن الترجمة الفرنسية أتت متناغمة ولغة شمعون، إذ عرفت دو جول أن تغوص في روحية النص الأصلي، وتمكنت من القبض على جماليته ولغته الخاصة. كما لم تهمل الجانب العاطفي واللين الذي برز جلياً في السيرة العربية. فهذه الترجمة تعيدنا بكل شوق الى أجواء الكتاب كما قرأتُه أولا ، ولا تدعنا ولا لحظة نشتاق النسخة الأولى؛ بل شعرت وكأن صموئيل هو ذاته يعيد صياغة الموضوع باللغة الفرنسية، كأنه هو الذي كتبه مرة ثانية. إشارة الى أن نسخة انكليزية للرواية ستصدر قريباً في نيويورك.
عمق المشاعر
من الشائع جدا أن يحب القارئ السير الذاتية التي تحكي قصة حياة الكتاب المعروفين ومشاهير السياسة والفن، ولكن من جهة أخرى، من النادر جدا أن يحب القارئ سيرة ذاتية الى هذا الحد. بل انطلق بهذا الكلام من ذاتي، وأقول إني نادراً ما استمتعت الى هذا الحد بسيرةٍ كما فعلتُ إزاء هذه. قرأت سِيَراً عدة ، فمنها ما كان جافاً وعقلانياً، ومنها ما كان سميك الدم وبارداً وغير قابل للهضم بسبب لغته التي كأنها طالعة من آلة حاسبة لا من ذاكرة وقلب، ومنها ما كان سطحياً، ومنها الآخر ما كان ساذجاً، أو بارداً، أو غير مثيرٍ. وأهمية السيرة لا تكمن في أهمية الأحداث أو صاحبها أو ما شابه. أهمية هذا النوع الأدبي تأتي في الدرجة الأولى من عمق المشاعر التي يضعها الكاتب بين أيدينا، ومن الشغف الذي يكتب به أسطره على الورقة، وأيضا من الطرافة البديعة والذكية التي يُطَعّم بها حكايته، حكاية عمره، وقبل كل شيء، من الوعي اللغوي، إضافة الى الألم المرافق لمحطات الحياة، الألم المصوغ برقة وصدق. هذه هي حكاية صموئيل، وهذا هو شغفه الذي تأثرتُ به. فكل حكاية كبيرة تنبع من رؤية كبيرة، ولشمعون هذه الرؤية الى الذات، أي الى الإنسان، والى الحياة. وكل هذا لم يغب عن المترجمة الفرنســـية الــتي بجــدارة وضعت القارئ الفرنــسي أمام لغــة الكاتب قبل أن تضعــه أمام لغتــها هــي، المستعارة.
منذ السطر الأول شعرتُ بأني إزاء سيرة مختلفة، غنية، عميقة، والعمق يبدأ مع كلمة ظاهرياً تبدو عابرةً، لكن في داخلها تكون مؤثرة وتبقى في القلب والذهن طويلاً. هذا الجويي الذي رأت أمه في عينيه ما رأته، هذا الجويي الذي لم يعرف اسمه الحقيقي الذي في السجلات الرسمية قبل المراهقة المتأخرة، هذا الجويي الذي ما إن خرج من محيطه الوديع أو الأليف، المحيط الأشوري تقريبا المحض، ما إن خرج من صندوق قرياقوس ومن محيط صالة السينما في الحبانية، وما إن دخل الى المدرسة ليتعلم القراءة والكتابة في سن بعيدة عن الطفولة، حتى علم أن اسمه شموئيل! فعاد في أحد الأيام من مدرسته سائلاً والدته كرجية من يكون شموئيل، فقالت له ساهية انه نبي من التوراة!!! بينما هو كان يريد أن يتأكد ما إذا كان هو ذاته يحمل هذا الاسم.
بسبب أشياء صغيرة أخرى مماثلة ومؤثرة، هذا هو الكاتب الذي من زاوية قريته النائية والمنسية في قلب العراق، طلع بكل هذا الوهج متطلعاً الى مستقبله الكبير، المستقبل الهوليوودي السينمائي العظيم، فحلمَ الصبي جويي، وسبقه حلمه. حلمَ بالأفلام وبالممثلين الأميركيين الكبار، وبكل ما يتعلق بهم، وبالإخراج السينمائي، وظلَّ الحلم يطارده حتى زمن متقدم من عمره، إلا أن هذا المستقبل المشع والساطع أصبح من الماضي ليبقى له مستقبل الكتابة وحاضرها! إلا أنه قد يأتي يوم يصل فيه هذا الكتاب الى منتجي هوليوود فيصبح فيلماً رائعا كما أتمنى! قد لا يفكر صموئيل بأمر كهذا، وقد تخلى عن حلمه الأميركي الهوليوودي، لكني أنا أود ذلك وبشغف إذ أراه من الآن فيلما مؤثراً. وأقول هذا لكثرة عشقي للسينما، والتقيتُ معه في هذه النقطة، والعشق السينمائي يعني القبض على الصورة الجيدة والمغايرة والجديدة والمهمة والمؤثرة وتمييزها عن غيرها
وأيضا مقارنتها بغيرها. وأنا فهمتُ شغف صموئيل بالصورة المتحركة والملونة على الحائط الأبيض، حيث هناك تبدأ الأحلام وهناك ترتوي العين بجماليات لا تضاهيها جمالية!
إذاً لم يتحــقق الحلــم الســينمائي لدى شمــعون، لكن مجرد أن يكــون حلمَ بالسينما وعشــِقَها وحــفظ أسماء ممثليها كما
رحم السينما
حفظ أسماء أفلامهم، مجرد ذلك كان كافياً لكي يذهب الى الكتابة من رحم السينما هذه، أعني رحم الصورة، وقد أبدع، إذ كان على هذا الشغف بالفن أن يخرج بطريقة أو بأخرى، فخرج على الورقة بدلا منه على الشاشة. قالت له أمه بسخرية المحبة والطرافة وهي تستقبله في أميركا، إنها وصلت قبله الى بلد هوليوود!! ضحكت الأمّ وضحك هو، ولم أفهم هذه الأسطر في الصفحة الأولى سوى بعدما وصلتُ الى محطات الكتاب الكثيرة التي تروي حكاية الصبي، أو الأحرى تروي حلمَه بالسينما الذي رافقه بكل فجواته وتهوراته عبر ترحاله من بلد الى آخر حتى استقر فترة طويلة في باريس. رافقه الحلم غير المكتمل والسيناريو الموزع على أوراق في المحفظة والآلة الكاتبة، عبر شوارع التسكع والجوع والفقر والتشرد؛ بل رافقه الحلم وظلّ في القلب، أما السيناريو فضاع، تناثر، الله يعلم أين، كما تناثر أمله في أن يصبح ممثلا هوليوودياً أو مخرجاً! ومن الطرافة أو ربما الغرابة، أن شغفه بالسينما الذي لم يكن مزحة أو نزوة طارئة في حياته، إنما كان من صلب كيانه ووجوده، استمر معه عبر صدف غريبة وكأن السينما هي مصيره وقدره، فالتقى في باريس إذاً صدفةً وكيفما التفت، ببمثلين عالميين ومخرجين مشهورين، وصولا الى واقع شبهه بأحد الممثلين السينمائيين! كأن السينما أحد مكونات جيناته!
فالناس ـ المارة في باريس كانوا يعتقدون أنه ألدو ماتشيوني!! حتى مارتشيللو ماستروياني سلم عليه معتقداً أنه ماتشيوني! ومارسيللو، كما أسلــفتُ، هو أحد المشــاهير الذين التقاهم على أرصــفة العاصمة الفرنسية، كما التقى جان لوك غودار وجون أشتون وغيرهما.
هذا الصــبي الشــغوف بالسيــنما، الذي لو سنحت له الفرص لأصبــح مخرجاً، هذا الصبي الــذي أراد أن يتعــلم الكتابة من أجل أن يصنع أفلاماً، والذي كان يبيع بعد حصة الــدرس لزمــلائه في المدرســة وعلى بابها، كميــات من الأزبــري (ولو أني لم أفهم ما هو الأزبــري! لكنــي تخـيلته مشروباً ملوناً حلواً)، هذا الصــبي الذي كنس صالة السينما كي يســمح له صاحبها بالفرجة مجانا ومع ذلك لم يستطع، هذا الجويي الذي حكى لنا حكاية مليئة بالألوان البديعة، هو صموئيل شمعون الذي انطلق من صندوق قرياقوس العجيب الى شـــاشة الكــتابة العجيبة أيضا كالسينما، المنبثقة من سيناريو حياة مميزة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  صباح زوين


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni