... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
إنعام كجه جي: الروايات بنات الحروب

غالية قباني

تاريخ النشر       29/10/2008 06:00 AM


              روايتها الحفيدة الاميركية تسجل الواقع العراقي من منظورين متعاكسين 

حققت الكاتبة والصحافية العراقية انعام كجه جي خلال اقامتها في باريس لسنوات طويلة، حضورا نشطا في المشهد الثقافي العربي، قدمت خلاله للقارئ خلفية جيدة عما يجري في فرنسا في عالم الفنون والاداب. غير ان الصحفية المحترفة والهاوية معا المهووسة بهمها العراقي، تبدو كأنها تقوم بواجبها المهني، ثم تركض الى زاوية خاصة في روحها لتحتمي بدفء كل ما هو من هناك، فتلتقي في الواقع بشخصيات كانت مؤثرة في تاريخه التشكيلي والادبي والسياسي، تستضيفها في تحقيقات صحفية او بين دفتي كتاب، وتستوحي من مخزونها الخيالي شخصيات لسردها الادبي الذي هو ايضا عن العراق. انها تعيش محاطة بكل ما يذكرها بذلك الوطن المأزوم من تذكارات، لوحات وصور وكتب، واستكانة شاي! وها هي بعد عشرين سنة من الاغتراب، تصدر رواية ثانية بعنوان ''الحفيدة الاميركية'' تقدم فيها تصورا لفتاة عراقية هاجرت مع اهلها الى اميركا هربا من قمع الدكتاتورية، لتعود في سن النضج كمترجمة مع القوات التي احتلت بلادها.

مسيرة كجه جي توحي للمتابع انها متفرغة لمشروع ابداعي مخصص للعراق فقط وهذا ما لم تنكره في حواري معها.

* إحك لنا عن تجربتك في التحضير لهذه الرواية، اذ يبدو من تفاصيل العمل انه كان أمامك الكثير من البحث. هل قابلت، مثلا، بعض العاملين من أصول عراقية مع القوات الاميركية في العراق، وكانت أساساً لشخصية زينة يهنام؟

- نعم، أصغيت للكثير من الوقائع والحكايات عن المترجمين العراقيين والعرب العاملين مع القوات الأميركية، كما جمعت، على مدى ثلاث سنوات، قصاصات من صحف عربية وأميركية وفرنسية لتقارير ومقالات وتحقيقات مصورة ساعدتني، بهذا القدر أو ذاك، على الإحاطة بالجوانب الداخلية لحياة المجندين في قواعد الجيش الأميركي في العراق وبأنماط لباسهم وسلاحهم. أما شخصية زينة بهنام فهي نسيج يجتمع فيه الواقع بالخيال. نعم، إستللت هذه المترجمة من أرض الواقع وجعلت منها محور الرواية وأثثت الفصول المتعاقبة بأحداث وذكريات ووثائق وشخصيات لا علاقة لها بها في الحقيقة، بل هي تفاصيل تخدم رؤيتي الخاصة وهدفي من الكتابة. أي أنني أوجدت للحفيدة الأميركية أباً وأُماً وجداً وجدة وحبيباً أميركياً من بنات خيالي، وآخر تلتقيه في بغداد وتكتشف أنه أخوها بالرضاعة.

المنطق وعكسه

* يمكن للقارئ أن يتفهم شخصية مهيمن الأسير عراقي في إيران منذ الحرب العراقية الإيرانية، يتغير من شخص منفتح على الحياة يعشق الموسيقى والأدب، الى منتم لجماعة المهدي، ولكن من غير المفهوم أن تقع زينة في حب أخيها بالرضاعة وانتماؤه الحالي مرتبط بأجندة الغاء الآخر المختلف طائفياً وعقائدياً. اليست زينة سليلة تاريخ من القمع وعائلتها ضحية للنظام السابق؟ لكن حب زينة ومهيمن محكوم عليه بالفشل بحسب الرواية بسبب الأًخوة، لا بسبب الاختلاف والتناقض.

- كنت دائماً أنظر الى مجتمعات الحروب على أنها حاضنات لنشوء القصص غير المعقولة ولا القابلة للتفسير. فمن العبث أن نحاول التعامل بالمنطق مع ظروف غير معقولة ولا مقبولة، يحكمها العنف وجبروت السلاح. وهذه الفكرة تصدق بشكل خاص على قصص الحب التي هي، أصلاً، مشاعر جامحة لا قدرة لصاحبها على التحكم بها. والتاريخ مليء بحكايات العشاق المنتمين الى قبائل وعشائر متصارعة. لكن حب زينة ومهيمن محكوم بالفشل لأنه ولد في ظرف مختلس ووجيز لا يسمح بتطور القصة أو العلاقة، وكانت لقاءاتهما تجري بين قوسين صغيرين من الزمن، لأن الحرب لا تعرف انتظار نضوج العشق ولا تفسح في المجال لأحلام المستقبل. لقد مالت زينة إليه منذ أن رأته يقود السيارة التي جاءت بجدتها للقائها في الأُردن، ولم تكن تعرف أنه ابن المرأة التي أرضعتها في طفولتها، لكنه قابل ميلها بالصدود واعتبرها أًختاً عزيزة، لا أكثر. وقد يكون الصدام بين زينة ومهيمن قد جرى لأن كلاً منهما، كما لمست أنت، يقف في خندق فكري مناقض للآخر. فقد نفر من كونها تعمل مع الأميركيين وصارحها بأن يوم انسحاب المحتلين آت لا محالة، وسيحتاج جيشها الى الكثير من الطائرات العمودية لإجلاء الذين تعاملوا معه. أما هي، فقد أحبته بدون أن تعير بالاً للاختلاف الديني، فهي نشأت في الغرب متحررة من ضوابط الشرق، خصوصاً وأن مهيمن لم يكن قاسياً معها، في المرحلة الأُولى من تعارفهما، وكان يظنها جاءت من أميركا لرؤية جدتها المريضة ولم يتصور أنها تعمل مع الأميركيين. ورغم أن المجندة الأميركية مالت إلى الرجل المنتمي الى جيش المهدي، فقد كانت، في الوقت نفسه، تخاف منه، بل حلمت أكثر من مرة بأنه يمكن أن يخطفها ويرميها في صندوق سيارة أو يقتلها بناء على أوامر رفاقه في الحركة. وفي النهاية افترقا لأن منطق الحرب هو السائد، وواقعها يرسم بينهما هوة سحيقة، فهو واقع يباعد ولا يجمع. وأظن أن القارئ كان سيسخر مني لو جعلت الإثنين يتواعدان على اللقاء بعد انتهاء الحرب واستتباب السلام.

بين وطنين

* تمثل زينة نموذجا للجيل الجديد من العراقيين الذين عاشوا سنين طويلة خارج العراق، فقد فشلت في التواصل مع بلدها الإصلي، من خلال فشل تواصلها مع جدتها ومع مهيمن، وبذلك كان قرارها العودة الى أميركا. كأن بالرواية تعلن أن عراقيي المنافي والمهاجر لن يعودوا الى العراق مرة اخرى، كمواطنين، لأن البلد موجود في الذاكرة كحلم، أما في الواقع، فهم مخلصين لحياتهم اليومية حيث الأوطان الجديدة وقيمها ومفاهيمها الجديدة. ما هو تعليقك؟

- لم تذهب زينة الى مسقط رأسها لتبقى. لقد ذهبت في مهمة عمل تتقاضى عنها مرتباً مجزياً ولكي تخدم البلد الذي تحمل جنسيته وتدين له بولائها، أي أميركا. وأزعم أنها لم تفشل في التواصل مع جدتها ولا مع مهيمن. بدليل التضارب الذي قام بين تفكيرها وبين ما كان يجول في خاطريهما عنها. فلكي نختلف لابد، أولاً، من أن يسمع أحدنا الآخر ويكتشف الفكرة النقيضة. وقد وعت المجندة رأي جدتها وآراء مهيمن، لكنها لم تتفهم رفضهما للأميركان الذين جاءوا، حسب منطقها، لتحريرهم من الدكتاتورية. هذا رغم محاولات الجدة العراقية لإعادة حفيدتها الأميركية الى الصواب وتصحيح تربيتها ''الفاسدة''. وأنا لا أظن أن في الإمكان اعتبار زينة نموذجاً يمثل عراقيي المنافي، وهي لم تفكر يوماً بالبقاء في العراق. وحتى عندما أحبت مهيمن فإنها سعت لأن تجعله يسافر معها الى بلدها، لا أن تبقى مع الحبيب حيث هو. وبالتأكيد، فإن المهاجر أو المنفي يحلم بالعودة الى مسقط رأسه ذات يوم، لكن ليس من الشائع أن يعود في معية جيش ذاهب لاحتلال وطنه الأُم.

مشروع عراقي

* أنجزت سيرة روائية للفنانة البريطانية لورنا زوجة النحات العراقي جواد سليم، وكتاباً عن الأدب الذي كتبته العراقيات في سنوات الحروب، وروايتك الأُولى كانت عن شخصيات عراقية تعيش في باريس، ولك شريط وثائقي عن نزيهة الدليمي، أول امرأة تتولى وزارة في العراق، بالإضافة الى العديد من التحقيقات والمقالات عن بلدك من جوانب عديدة. هل يمكن القول إن لديك مشروعاً ثقافياً إبداعيا عن العراق، مع سبق الاصرار؟

- ليس غريباً أن يكتب الإنسان عما يعرف. ولعل همي العراقي ما كان ليأخذ هذا المنحى الملّح، مع سبق الإصرار كما تقولين، لولا أن العراق الذي عاش فيه آباؤنا ولحق جيلنا على بعض من طيباته وإبداعاته وتسامحه وشيمه وثرائه الفكري والمادي، هو عراق يتبدد ويباد بالتقسيط، حرباً بعد حرب بعد حرب، بحيث أن الأجيال الجديدة لا تعرف أي وطن عبقري هذا الذي وصلها منه حطامه. وعندما شاهدت ابنتي، مثلاً، الصور الموجودة في ألبومات نزيهة الدليمي لطالبات عراقيات سافرات يتظاهرن وهن يرفعن اللافتات التقدمية، لم تصدق أن تلك الصور ملتقطة في بغداد. ألا يستاهل العراق السابق أن نسجله في نتاجنا وأن نحفظ صورته لأبنائنا؟ أنا أكتب لكي لا أنسى ولكي أُحرض ابنتي وابني على أن يتذكرا معي. وأكتب على أمل أن نستعيد الوطن الذي ابتعدنا عنه عندما سمحنا أن يبتعد عن نفسه. لكن الواقع ريح سموم والأمل ذبالة.

* الى أي مدى تستطيعين التواصل مع الواقع اليومي في العراق وتعكسينه في كتاباتك وأنت تعيشين في مجتمع مختلف تماماً. ألا يشكل الأمر نوعا من الانفصام؟

- التأقلم نعمة. وما تسمينه انفصاماً يصبح ممارسة عادية بعد كذا وعشرين سنة من الاغتراب. ولعل عملي في الصحافة العربية هو الذي يتيح لي التواصل اليومي مع بلدي وأهلي. وفي الوقت نفسه أُغطي أحداث البلد الذي أُقيم فيه وأُتابع نشاطه الثقافي وأتفاعل معه. وهناك تذكارات وصور وكتب ولوحات عراقية تحيطني في بيتي وتساعدني في الحفاظ على توازني النفسي، تدفئني وتشحن بطاريتي. إنها أشيائي الصغيرة الضرورية، يسخر منها أصدقائي وأعتبرها أنا تمائمي وذخري.

حمّى السرد

* تشهد الرواية العراقية، بعد سقوط النظام السابق، حركة نشطة لسرد التاريخ العراقي، سواء من داخل العراق أو خارجها. هل تتفقين معي على أن حرية التعبير لها دور في ذلك، أم ان هناك عناصر اخرى برأيك؟

- من هول ما مرّ على العراقيين، صار لكل واحد منهم قصة بل قصص تستحق الرواية. وكانت حمى السرد قد سبقت تغيير النظام، أعني الروايات الكثيرة التي صدرت للعديد من الكتاب الموجودين خارج الحدود وأبعد من دائرة السيطرة. أما من بقي في الداخل فقد جاءته أخيراً فرصة الكتابة بدون خوف، أو لنقل بدون مبررات الخوف السابق ومع الحذر من مسببات الخوف الراهن. ولو كتبنا كلنا، بدأب وانتظام وليل نهار، فستبقى رواياتنا أقل مما جرى ويجري، وأذرعنا كلها عاجزة عن الإحاطة بخصر العراق.

وكل هذه الكتابات التي تفور وتبقبق وتطلق بخارها هي جزء مما في داخل المرجل الرهيب من احتباس وغليان. كأنما الحروب أرحام ولاّدة للروايات... كأنما الروايات بنات الحروب.

الحفيدة الاميركية.. في أحضان الجدة العراقية

هاجرت زينة بهنام من العراق وهي مراهقة وعادت اليه وهي في الثلاثين، مترجمة مع الجيش الأميركي. عودتها باللباس الخاكي المموه والسترة المضادة للرصاص كانت صدمة لجدتها العجوز رحمة، أرملة العقيد العراقي التي ظلت تلمع أزرار بزته العسكرية بعد وفاته، مثلما كان يفعل في السادس من كانون الثاني، كل عام، تاريخ عيد الجيش.

زينة تعتقد أنها تقوم بعمل عظيم. ورحمة مصرّة على أن أميركا أفسدت حفيدتها ولابد من تصويب تربيتها لكي تكون جديرة بالتاريخ الوطني للعائلة الكلدانية التي تعتبر أن العراق موطن عظام الأجداد.

تنام زينة في مطبخ قصر صدام في تكريت. تترجم وثيقة زواجه وهويات زوجته ساجدة. تشارك في المداهمات الليلية لبيوت العراقيين. تشهد وقائع الإذلال والموت اليومي لرفاقها. تربط شريطاً أصفر على نخلة في المنطقة الخضراء، وتنتهز الفرص للذهاب الى البيت القديم والاستماع الى حكايات الجدّة التي تدير حكومة من القديسين والقديسات الذين لا يعصون أوامرها. لكن ''الحفيدة الأميركية''، رواية إنعام كجه جي، ليست صراعاً بين شخصيتين فحسب، بل هناك طاووس، المرأة الشيعية التي رافقت العائلة على مدى سنوات وصارت فرداً منها.

وهي كانت قد أرضعت زينة في طفولتها، وبهذا صارت زينة أُختاً بالرضاعة لمهيمن، إبن طاووس، حسب الشريعة الاسلامية.

والمشكلة ليست في أن قلب زينة يخفق لمهيمن بل في أن هذا الأسير السابق في حرب إيران هو اليوم مقاتل في جيش المهدي. ما رأي النقيب دونوفان حين يعلم أن لمترجمته أخاً في المقاومة؟

إنها رواية الحلم الديمقراطي الذي انقلب كابوساً، ترويها إمرأة ولدت في بغداد وكبرت في ديترويت، بلغة شديدة التركيز مثل اليوميات السريعة للجنود الذين لا يعرفون هل تطلع عليهم شمس اليوم التالي.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  غالية قباني


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni