... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
نصوص المرايا المتقابلة

عدنان الصائغ

تاريخ النشر       27/07/2007 06:00 AM


وأنا الغريب/ أنا وحدي أعوم في الثلج/ وشفتاي قطعتان من حديد/ وعندما يضرب الليل عيني/ سأذهب إلى بيتي الصغير/ لأسهر مع الكتب/ الكتب... السرطان الذي يأكل/ أحداقي...

حسين مردان

 

"حقيقتان تقتربان واحدة من الأخرى/ واحدة آتية من الداخل/ وأخرى من الخارج/ وحيث تجتمعان/ يتسنى للمرء أن يرى نفسه".

الشاعر السويدي توماس ترانسترومر

 

"إنه لموجع عبور الجدران، وقد يُمرِض/ لكنّه ضروري؟ العالم واحد، لكنها الجدران/ جزء منك هو الجدار/ تعلم أو لا تعلم/ هو كذلك للجميع/ ما عدا الأطفال/ هؤلاء لا جدار لهم"

توماس ترانسترومر أيضاً

داخل قاعة المرايا، في مسرح هيب hipp السويدي، كانت وجوه الشعراء تتداخل وتتكرر عبر انعكاسات المرايا الكبيرة التي شكلت جدراناً للقاعة الكبيرة وبالتالي كانوا يبدون للناظرين، لا نهائين عبر سلسلة تكرارهم. وهذا الجمهور الجالس، المتكرر، يبدو لهم لانهائياً أيضاً.

هل التكرار، وهم مكرر.

وأتذكر ماكس جاكوب وهو يقول: "على قصيدة النثر أن تبتعد عن أي مقابلة على الواقع مثلاً فلا مجال للمقارنة بينها وبين أي شيء آخر لإقامة التشابه أنها لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها"..

هل المرايا تكررنا إذن؟.. ام نحن تكرارها؟. أم المرايا هي وهمنا، حلمنا المتواتر؟..

لكن المرايا وهي تخلق التشابه، قد تجملّه احياناً.

هكذا بدأ الأمر بالنسبة لي وأنا أدلفُ إلى هذه الصالة لأول مرة شاقاً طريقي وسط الطاولات التي تحلق حولها جمهور الشعر والفرجة معاً، لأختار طاولة منعزلة، علي أستعيد وحدتي التي أفسدها التكرار في زحمة المرايا وموهتها الوجوه المتداخلة، ببعضها البعض.

هل المرايا تمتهن لغة التمويه؟

أتلفّتُ بعيني، أجوب الموائد والآلات الموسيقية وثياب الفتيات مكشوفة الصدر والبطن، والبوسترات الأنيقة. وأتذكر تلك الأمسية التي جمعتني مع شلة من الأصدقاء الصعاليك، نهاية الثمانينات، حين جئنا لقراءة قصائدنا في قاعة المكتبة الوطنية، بباب المعظم. ففوجئنا أنهم أوصدوا أبوابها، بأوامر خاصة من وزارة الدفاع التي تقع مقابلها. وعبثاً حاولنا اقناع الحارس بضرورة الشعر وميشيل فوكو. لكنه تسمّر بالأوامر المشددة.

وبقينا حائرين أمام الجمهور الذي التفَّ حولنا ، لكن بلا مرايا.

فما كان إلا أن ألتفتُ بحثاً عن أي مسند أو مكان بديل، لأجد "تنكة" فارغة مرمية خارج السور الحديدي وقد علاها الصدأ. هرعتُ إليها لأحملها وأعود بها إلى مكان التجمع في حديقة المكتبة. ثم أجلس عليها وأقول للجميع تعالوا الآن سنبدأ أمسيتنا الشعرية. جلس الجمهور على العشب المندّى، وبدأنا بالقراءة واحداً بعد الآخر، كأننا نقرأ أمام مرآة الفراغ الكونية.. حقاً كانت أمسية رائعة.

جاءت الشاعرة السويدية كارين لينتيز والشاعر اليوغسلافي حسن ميلسوفيش والشاعر الإيراني علي آينيه وآخرون. جلسوا إلى طاولتي وابتدأوا جوّهم الفنتازي مع الأحاديث والموسيقى والضحك والفودكا والطعام. سألتني شاعرة كانت تجلس معنا لماذا أنا حزين دائماً..

ابتسمت في وجهها لكي لا أفسد عليهم ليلتهم مثلما أفسدوا عليّ وحدتي، خافياً تحت أبط ذاكرتي تلك الصفيحة الصدئة وبقايا عشب الأيام اليابسة ودخان الحروب، لأرى ابتسامتها الثملة تطبطب على أوجاعي بين أكواب الفودكا وغناء خافت متقطع.

كانت المرايا تعكس أيضاً وجه الشاعر السويدي الشهير توماس ترانسترومر Tomas Transtromer الذي أُصيب قبل سنين بالشلل الكامل. وبعد عناء طويل مع المرض، تماثل جزءٌ منه للشفاء، وها هم أصدقاؤه الشعراء يحتفون بربيع شفائه.

أنظر إليه جالساً على مقربة منا وعلى محياه المحتدم سيماء الرضا والحبور والقلق والنشوة وهو يجلس أمام اثني عشر شاعراً من اثني عشر بلداً، يقرأون ترجمات قصائده باللغات: الاسبانية، العربية، الانكليزية، الفرنسية، الصربية، الايرانية، الاسلندية، الكرواتية، التركية و.. و..، هو الذي تُرجم شعره إلى أكثر من 51 لغة في العالم، ووصفه الشاعر جوزيف برودسكي (الحائز على جائزة نوبل 1987) بأنه شاعر من الطراز الأول. وقال ديريك والكوت (نوبل 1992): "إن على جائزة نوبل أن لا تتردد في منح ترانسترومر جائزة نوابل". ووصفته المجلة الفرنسية الجديدة بأنه "الشاعر الذي يحتضن العالم السحيق ويعلّمنا أن نحسّ في لعثماتنا الهازئة اختلاجات لغة لا تُنسى". وقالت عنه لجنة جائزة نيستردات العالمية بأنه "واحد من الشعراء الأكثر تفرداً في هذا العصر".. وقال عنه آخرون، وأخرون، الكثير، الكثير.

* "الحقيقةُ ملقاةٌ على الأرض

لكن لا أحد يجرؤ على التقاطها

الحقيقة تقع في الشارع

لا أحد يجعل منها حقيقته"

* "لأن الهوامشَ تصعدُ إلى النهاية

إلى حدودها القصوى

وتفيضُ على النص"

* "يحدثُ ولكن نادراً

أن أحداً منّا يرى الآخر في الواقع:

للحظةٍ يظهرُ إنسانٌ

كما في صورةٍ فوتوغرافية ولكن بشكلّ أوضحَ

وفي الخلفيةِ

شيءٌ ما أكبر من ظله"

* "السيد (أكس) لا يجرؤُ على مغادرةِ شقتّهِ

سورٌ معتمٌ من أناسٍ غامضين

يَحولُ بينَهُ

وبين الأفقِ المتدحرجِ بلا نهاية"

* "في منتصف الحياة يحدثُ أن يأتي الموتُ

ويأخذ قياسَ الإنسان. هذه الزيارةُ

تُنسى والحياةُ تستمرُ. ثمَّ تُخيَّطُ

البذلةُ بصمت..([1])

عندما انتهى الشعراء من تلاوة ترجمات قصائده وسط أجواء الموسيقى والأضواء، نهض من كرسيه بصعوبة وحيّا الجمهور الذي تعالى تصفيقه وصفيره المشجع أكثر وأكثر. وعكست المرايا خفق الأيدي التي حلقت كطيور ملونة في فضاء المرايا باتجاه ساحة كوستاف أدولف، متصاعدة مع زفير آلات "الموسيقين الخمسة([2])" هناك.

قادني إليه الشاعر الاسباني البرتو موسكارو، فحياني بحبور، والتفت متحدثاُ لرفيقته وللبرتو إنه قرأ بعضاً من قصائدي المترجمة للسويدية وإنه سعد بها ثم أجلسني جنبه ليلتقطوا لنا صورأ تذكارية.. تركتنا المرايا وانشغلت بتكرار وميض الفلاشات بسرعة ربما فاقت لمح البصر الذي حدده هدهد سليمان، زمناً أو برهاناً لحمل عرش بلقيس من اليمن إليه..

لكن ترانسترومر لم يكن يحلم بعرش.

كان يكفيه عرش القصيدة..

ولم يكن يحسب حساباً لنوبل، رغم استحقاقه لها أو استحقاقها له، منذ سنوات حسب تأكيدات الأكاديمية السويدية نفسها وترشيحها له لأكثر من مرة. ورغم.....

كان مشدوهاً وفرحاً بنصوصه التي تكررت بمرايا الألسن التي عكست ترجماتها بأشكال وايقاعات شتى للمستمعين([3])..

كأن بين كل مرآتين متقابلتين عالم من "مُثل معلّقة" كما يصفها السهروردي الحلبي القتيل. وبينهما تقف روح الشاعر كأنها البرزخ الذي وصفه القاشاني بـ "الحاجز بين الأجساد الكثيفة وعالم الأرواح المجردة"..

هل المرايا روح أيضاً؟ أم نص؟

وكيف يمكن تدوينه إذن؟

لكن المفكر الفرنسي جيرار جينة يقول: "إن كثيراً من النصوص تخفي وراءها نصوصاً أخرى".. كأن المرآة متنٌ للنص، وعلى حواشيها تسيل الحروف الأخرى: شروحاً وتعليقات واضافات.

فما نراه داخلها هو الأصل لا الفصل.

وما حيوتنا خارج متن النص إلا سلسلة طويلة من الهوامش المثقلة بالهوامش..

2004 مالمو

* * *

adnan2000iraq@hotmail.com

http://www.adnan.just.nu/



[1]- من قصائد توماس ترانسترومر Tomas Transtromer

[2]- عمل فني يمثل خمسة عازفين في شارع المشي Gågatan في مالمو.

[3]- مساء الأثنين 27/9/2004 في مدينة مالمو جنوب السويد ستُقام أمسية احتفالية بالشاعر ترانسترومر في قاعة Villa Ravenna يحضرها عدد من الأدباء والفنانين والصحفيين والمثقفين السويديين والعرب. بدأت بعزف على آلة البيانو قام به توماس ترانسترومر، رغم صعوبة حركته... تلته قراءات لبعض قصائده قدمها عدد من الشباب والشابات السويديين، وعزف على آلة الكمان والناي. ثم قرأت الشاعرة الصينية أكسياو رونك Xiao Rong قصائده المترجمة إلى الصينية، ثم دُعيتْ لقراءة كلمة صغيرة قلتُ فيها:

"مرتين، التقيت هذا الشاعر الكبير المدهش توماس ترانسترومر.

الأولى في قاعة المرايا - مسرح هيب في مالمو عام 1999.

واليوم ألتقيه وأياكم.

ويا لها من مصادفة مدهشة أخرى أن تصلني في هذا اليوم بالذات 29/7 أعمالي الشعرية الصادرة في بيروت. وكنتُ قد كتبتُ في مقدمتها شيئاً عن الشاعر ترانسترومر، وذكرتُ نصه الذي يقول:

"جئتُ لألتقي ذلك الذي يرفع فانوسه

لكي يرى نفسه فيَّ..."

ثم قرأت قصيدتين من ديوانه الصادر بالعربية "ليل على سفر" والذي قام بترجمته صديقي الشاعر علي ناصر كنانه، وهما "بريد جوي" و"بطاقات سوداء"، وقرأ ترجمة الكلمة إلى السويدية بيكا ملركارد Pekka Mellergard مع قراءة نص القصيدتين باللغة الأصلية. وفي ختام الحفل غنت كارولين فورباكن Caroline Furbachen. ثم نهضت مونيكا Monika زوجة الشاعر ترانسترومر لتنقل نيابة عنه كلمات الإمتنان والفرح بالأمسية والقراءات والمعزوفات الموسيقية. ومما نقلت عنه قوله: "في هذا الوضع العصيب الذي يمر به العراق فأن من الجميل والعظيم أن نرى ونسمع أن لا يزال الشعر حيياً ومتوهجاً في العراق.. أنها قوة التحدي". وكانت قد أدارت الأمسية انّا ملركارد Anna Mellergard.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عدنان الصائغ


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni