... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
سعدي يوسف: «الشيوعي الأخير» خسر الوطن ولم يربح نفسه

محمد شعير

تاريخ النشر       13/11/2008 06:00 AM


عندما جاء سعدي يوسف باريس، متصوّراً أن هذه المدينة ستكون منفاه الأخير، اختار الإقامة في شقّة صغيرة في الطابق السابع. وكلّما تعرّف إلى المدينة أكثر، كان يهبط درجة، حتى وصل إلى الطابق الأرضي في إحدى بنايات عاصمة الأنوار. كان قد أجاد الفرنسية وعرف شوارع المدينة وضواحيها وباراتها، وأصبح له أصدقاء. فإذا به يجد نفسه مرغماً على مغادرتها. لم تكن باريس المنفى الأخير لسعدي، كما خطّط لنفسه. فقد فوجئ ذات مرة باتصال من شخص مهمّ في وزارة الداخلية، يطلب منه ـــــ بلباقة طبعاً ـــــ أن يكون «عيناً» للاستخبارات على المثقّفين العرب المقيمين في فرنسا. رفض الأمر، وكان عليه أن يغادر المدينة التي لم يعشق سواها. فهو يحبّ المدن الطليقة الحرة كباريس.
هكذا هو سعدي، القديس حسب توصيفات مثقفين عراقيين اعتبروه «خطاً أحمر» لا يمكن تجاوزه. يضحك من التوصيف «أنا الخاسر الوحيد، أنحاز دوماً إلى الخاسر والمقهور». هكذا لا يتوقّف عن إنتاج الدهشة إبداعياً وإنسانياً أيضاً. منذ سنوات، كان مقرّراً أن يسافر من الأردن، حيث كان يقيم، للمشاركة في أحد المؤتمرات الأدبية في دمشق. لكنّه غادر الحافلة فجأة عند الحدود، تضامناً مع عاملين أردنيين رفضت السلطات السوريّة السماح لهما بالدخول. اعتبر سعدي أنّ عبوره وحده ليحضر احتفالاً ثقافياً نوع من الخيانة لأفكاره. بعدها بأيام، أيقن أنّ الشروط الحالية للمنطقة العربية لا تسمح باختراق ثقافي... فأعلن لجوءه السياسي إلى لندن، فإذا بمدينة الضباب تصبح ـــــ في الوقت الحاضر ! ـــــ منفاه الأخير.
هناك لم يتردّد في انتقاد موقف المملكة المتحدة من الحرب. ورغم البلبلة التي اشتعلت بين المثقفين العراقيين إزاء الموقف من الغزو الأميركي، ظل سعدي يحمل العراق في قلبه، ممنوعاً من دخوله في ظلّ الطغيان ثم الاحتلال. لن تعود؟ «لن أعود حتى لو تحرّر العراق، لأنّ إعادة بنائه على أسس جديدة لن تتم قبل قرن، وقد لا يحدث ذلك أبداً».
صاحب «الأخضر ابن يوسف» روّض نفسه على مكافحة الحنين لأماكن الطفولة والصبا و«السماء الأولى»، لأنّ «النوستالجيا معوِّقة، تفقِد الفنانَ توازنَه الضروري للسيطرة على مادّته»، ولأنّ «جنة الطفولة لم تعد قائمة على الأرض الآن. انظر ما حدث لغابات النخيل، والجداول والأنهار، والمنازل... تم محو قرى كاملة بسبب الحروب المتتالية». هذه الجنة لم تعد قائمة إلا في الذاكرة الطفوليّة التي دأب الشاعر على استحضارها.
العراق صار عنده «أيقونة»، سلسة ذهبية تتدلّى من رقبته أهداها إليه في السويد «جواهرجي عراقي». هكذا يتجاوز صاحب «قصائد مرئية» فكرة المنفى الأبدي التي ارتبطت به، لأنّ كلمة «النفي لم تعد صالحة. كل أرض حللتُ بها، أعتبرها أرضي».
كتب سعدي مقالات حادة منتقداً عراقيين أيّدوا الاحتلال وعملوا معه: «سمّيتهم بأسمائهم وخلعت عليهم شر الألقاب». ألم تشعر بخوف من أن تكتب هذه المقالات الملتهبة؟ يجيب سريعاً: «يجب عليهم هم أن يخافوا مني، ومن الشعب، بسبب فداحة الخيانة التي ارتكبوها، والجرائم التي لا يزالون يرتكبونها بحق العراقيين».
ألم يجد هذا «المنفي المحترف» أيّة أسباب تخفيفيّة لمثقفين أيّدوا الاحتلال، بسبب معاناتهم مع نظام ديكتاتوري حرمهم من بلادهم...؟ يقاطعنا بحدّة: «الديكتاتورية مرفوضة. لكن هذا لا يعني أن جيش الاحتلال يحلّ المشكلة. كانت هناك بدائل كثيرة للمقاومة... والاحتلال هو أسوأ ما يحدث لأي بلد. هو مجموعة مفاهيم أخطبوطية تطبق على البلد بصورة شبه نهائية، وتلغي أدنى الاحتمالات بأن يقرر مصيره بيده». لكن هل هناك أمل؟ يجيب: «المسألة لها علاقة بالبترول، بالقواعد العسكرية الغربية في المنطقة، تنصيب حكام طغاة... كل ذلك من أجل المصالح الاستراتيجيّة الغربيّة، الأميركية والأوروبية».
عندما ولد سعدي، اختار والده أن يسمّيه «محمد سعدي» وظل يحمل الاسم لسنوات، حتى صدر قانون يمنع الأسماء المركّبة، فاختار هو أن يسمي نفسه «سعدي». اختار اسمه بنفسه، وكانت من المصادفات، ربّما، أن يحمل اسم الشاعر الفارسي الشهير سعدي الشيرازي. يقول: «قرأت باكراً قصائده التي كتبها باللغة العربية، مقلّداً المتنبي. وقرأتُ قصائده المترجمة عن الفارسية وهي الأجمل. قرأت حافظ أيضاً. وحين خرجت لأوّل مرة من العراق قبل أكثر من نصف قرن، قصدت مدينة شيراز، حيث ضريحاهما يتوسّطان المدينة، محفوفين بالورد، كما أنّني سمّيت ابنتي الصغرى شيراز. إنّها: شيراز سعدي». أما كيف استطاع أن يعثر على صوته الشعري الخاص كما عثر على اسمه، فتلك مسألة أخرى: «كانت البداية في أواخر الأربعينيات. لم ألتحق بركب القصيدة الحديثة إلا متأخراً عام 1959. اتجهت إلى كتابة التفعيلة بعدما انتقلت إلى بغداد. هذا التأخير جاء لأنني كنت أتهيّب الدخول إلى عالم الشعر، كأنني أنظر إلى هاوية لا قرار لها، كنت أنظر إلى 14 عشر قرناً وأتساءل: كيف أجد مكاناً لي وسط هؤلاء؟».
اكتشف سعدي أنّ الفرد العادي لم يكن له نصيب من النص الشعري. كانت القصيدة للمجموع. الفرد غائب أو مغيَّب. هكذا قرّر أن يكون «الفرد العادي ملهمي، لأتحدّثْ عن الإنسان البسيط في حياته اليومية، لأتابع المنسيَّ، والمهملَ، والمسكوتَ عنه. قلت فلأكن بسيطاً، ولتكن لغتي كذلك».
لكن روحه ظلّت قلقة. ما إن يصل صاحب «قصائد أقل صمتاً» إلى مقترح جمالي وفنّي في قصيدته حتى يغادره إلى مقترح جديد. ومن هنا، كان سعدي فاتحاً للسكك التي استلهمها شعراء كثيرون لاحقاً. أصبحت الحياة اليومية هدفاً شعرياً له. الموقف والمشاهد العابرة تصلح لتكون قصيدة شعرية. يضحك «ربما كانت مساهمتي الحقيقية أنّني أسهمت في ديموقراطية النصّ الشعري العربي. حاولت أن أجعله متاحاً وأقل نخبوية وأن أخلّص القصيدة من البلاغة، وأدخل مبدأ السرد بشكل دائم، وأن أخفف من الإيقاع العالي في العروض رغم أنني استخدم البحور ذاتها، إنما بطريقتي».
ربما لهذا صار سعدي الأقرب للأجيال الشعرية الجديدة: حتى إنّ بعضهم يعتبره الأب الروحي لقصيدة النثر العربية؟ يوضح: «في السبعينيات صدر لي ديوان «يوميات الجنوب... يوميات الجنون»، معظم قصائده نثر خالص، لكنّي اخترت الصعوبة: تقديم القصيدة الموزونة في هيئة تبدو غير موزونة. الوزن ليس الحدّ الفاصل بين قصيدة النثر وغيرها من الأشكال الأدبية، بل هو عامل من العوامل، الوصول إلى الشعرية هو الأهم».
يعتبر سعدي بدر شاكر السياب معلّمه الأوّل. لم يكونا على صلة قرابة ونسب فقط، بل إن تأثيره واضح على البدايات. يقول: «كان الأعمقَ تأثيراً فيّ». وفي مناطق أخرى من قصيدة سعدي الأولى تحضر نازك الملائكة التي يراها «أهم شاعرة عربية في العصر الحديث... هي فاتحة طريق، لأنها كانت الأكثر بحثاً في الشكل الشعري». بينما عبد الوهاب البياتي «ركب الموجةَ متأخراً. ولم يكن ذا جهد مرموق في تطوير الشكل الشعري. نازك ظلّت المؤهلة لذلك بعد الرحيل المبكر والفاجع للسياب. لكن إقامتها في الكويت أضرّتْ بها، وجعلتها تنكفئ وتتخلّى عن ثوريّتها التي استلهمناها جميعاً».
أما بين المجايلين له، فقد ربطت صلة قوية سعدي بالشاعر الراحل محمود درويش: « مررنا بتجارب كنّا فيها على حافة الموت في بيروت، عشنا المحن نفسها معاً». وظلّت علاقتهما قوية حتى الأيام الأخيرة لدرويش. «كنا في باريس، في السابع من حزيران (يونيو). جاء إلى أمسيتي في مسرح «الأوديون» قبل أن يرحل. لكنه قال لفاروق مردم بك ألا يخبرني بأنّه هناك. التقينا بعد انتهاء الأمسية. قال لي: أنا راحلٌ غداً. هل حملت كلماتُه هذه أقصى ممّا يمكن أن تحمل؟ هل كنّا نقول: وداعاً؟». وعلى الجانب الآخر، يقف أدونيس «صانعاً ماهراً، غزير الثقافة. لكن أعتقد بأنّه لم يعد مؤثراً منذ أواخر الستينيات بسبب نخبوية نصّه».
ألا تزال تصرّ على أنك «الشيوعي الأخير»؟ يضحك: «الشيوعية مفهوم أكثر من كونها ممارسة فعلية. هي حلم بمجتمع العدالة والمساواة، بمجتمع لاطبقي. والعودة إلى الحلم أساس التطورات الكبرى في حياة الإنسانية». هل هناك أحلام أخرى تتمنى تحقيقها؟ يصمت صاحب «كل حانات العالم»: «الآن، أحلم بكأس نبيذ جيد!».
________________________________________

5 تواريخ

1934
الولادة في أبي الخصيب، البصرة
1952
أصدر ديوانه الأول «القرصان» (مطبعة البصري ـــــ بغداد)
1957
بدأت رحلة المنفى من الكويت وسوريا. بعد عبور قصير في بغداد الستينيات، خرج إلى الجزائر، ثم تنقّل بين بلغراد ونيقوسيا وباريس وبيروت ودمشق وعدن... ليستقرّ في بريطانيا منذ 1999، ويصبح في عداد مواطنيها
1994
كتب روايته الأولى والأخيرة «مثلث الدائرة» (دار المدى)
2007
صدور مجموعته السادسة والثلاثين بعنوان «أغنية صياد السمك وقصائد نيويورك» («آفاق» ــــ القاهرة)

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد شعير


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni