... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
من يعيد تأسيس الوطنية العراقية؟

فالح عبد الجبار

تاريخ النشر       22/01/2009 06:00 AM


الطائفية اليوم في العراق تنخر جسد المجتمع والدولة كما تنخر نفسها ايضا. لكأننا عدنا الى ايام الامبراطوريات القديمة.
رغم ان الطائفية تقوم على اذكاء الخلاف الديني فقهاً ومؤسسات، فانها في واقعها صراع مرير على الموارد والسلطة، وهذه مشكلة الدولة الباحثة عن امة في مجتمع زراعي، حرفي، قبلي.
لعل أقدم وأكبر منبع هو قانون الجنسية العراقي للعام 1924، الذي أرسى حقوق الجنسية على أساس «التابعية العثمانية» التي لم يكن كل السكان يتمتعون بها. فمثلاً كانت عشائر وعوائل وبلدات كثيرة تتهرب من التجنيد الإجباري، فتسجل تابعيتها لإيران القاجارية، الغريم الأكبر للباب العالي في اسطنبول. وقد طُبق قانون الجنسية الجديد بشكل سياسي ضد المجتهدين الشيعة ممن عارضوا الاستفتاء أو أفتوا بوجوب مقاطعة الدولة الجديدة. وتجدد تطبيق قانون الجنسية بطريقة لاإنسانية في عهد الجمهوريتين الثالثة (عارف) والرابعة (صدّام)، وبخاصة خلال الحرب العراقية - الإيرانية، وراح ضحيته نحو ربع مليون إنسان، اقتُلعوا اقتلاعاً، وجُردوا من جنى العمر، وأهينوا في أعمق أعماق انتمائهم. ولقد زرت معسكرات المهجرين في المنافي، فوجدتهم في غربة ثقافية عن المجتمع الإيراني، بل يهتفون بحياة الرئيس العراقي الذي طردهم أمام أنظار المخابرات الإيرانية الإسلامية، طمعاً في عفوٍ وعودةٍ إلى الديار. وكانت تلك أكبر حماقات الحكم التوتاليتاري القبلي.
كان الشيعة ينعمون بمجال واسع في التجارة والأعمال. وقد سجل الدارسون نسبةً عاليةً منهم في غرف التجارة، واتحاد الصناعيين، والمقاولين. وهذا أمر طبيعي في ضوء اتجاه السنّة نحو الإدارة والجيش.
وجاءت الميول التنموية الدولتية، بصرف النظر عن أرديتها الأيديولوجية، أو نيات منفّذي هذه السياسات، لتمد سيطرة الدولة (تأميماً أو حرماناً) إلى المجال الاقتصادي، فأدى ذلك إلى تقويض نفوذ التجار ورجال الأعمال الشيعة. كما أن احتكار الدولة لتوزيع العقود وإجازات الاستيراد والتصدير أدى إلى احتكار ضيقٍ للمنافع الاقتصادية اقتصر على شبكات القرابة والشبكات الحزبية الموالية لشخص الرئيس المخلوع.
أدت الإجراءات العلمانية المتشددة إلى تضييق الخناق على ممارسة الشعائر الدينية، وبخاصةٍ طقوس عاشوراء، من مجالس عزاء ومواكب وزيارات. وشملت القيود أيضاً استضافة الطلاب والمجتهدين في المدارس الدينية (الحوزات العلمية). وأدى ذلك إلى تدهور المكانة العلمية للنجف، والى انهيار اقتصادها الذي يعتمد على تدفّق الزوار الى المراقد وتدفّق أموال الخُمس على الفقهاء.
ولعل الحرمان الأكبر هو ضعف المشاركة في قمة القرار السياسي، بغياب أي تمثيل في القمة للمحافظات الشيعية (والكردية أيضاً). وهو ما أدى إلى قطع كل قنوات تمرير أو إثارة المشكلات والتوتّرات التي بقيت تتراكم من دون تنفيس. وأدّت ميول الاحتكار السياسي - النفطي للنخبة الحاكمة (نظام البعث) إلى تمزّق النسيج الوطني، وجاء انهيار الأيديولوجيات الجامعة، مثل الماركسية أو الوطنية العراقية أو القومية العربية، بعد تآكل مشروعيّتها «الثورية» إلى تمزّق الأواصر الجامعة، والى نشوء هويات محلية، دينية وإثنية، لكأنّ العراق عاد القهقرى إلى عام 1921! وكانت هذه اللوحة واضحةً لنا، نحن المشتغلين في مجال العلوم الاجتماعية، فقد كنا نرى ذلك ونلمسه لمس اليد من خلال الأبحاث الميدانية الجارية في الخفاء بعيداً من أنظار العسس. المشكلة أنّ العالم العربي لم يصحُ على هذه الحقائق إلاّ بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
إنّ تشظّي الهوية العراقية الى هويّات محلية ما كان ليكون سيّئاً لو أنّ التعبير عن هذا التشظّي جرى في إطار أحزاب مدنية، وبأسلوب سلمي، أي عبر المؤسسات. المشكلة أنّ صعود الهويّات المحلية، الناتج من تاريخ طويل من سياسات صهرٍ واحتقار حمقاء، جرى لحظة انهيار الأيديولوجيات العلمانية، ونشوء فراغ ثقافي ملأته الأحزاب الإسلامية. والحال أنّ الإسلام السياسي، بالتعريف، تقسيميٌّ في أيّ بلد متعدّد الأديان أو متعدّد المذاهب، إذا كانت أيديولوجيات الحزب المعني أو الأحزاب المعنية دينيةً خالصةً. وبهذا المعنى اكتست الهويات المحلية طابعاً طائفيّاً بسبب صعود الأحزاب الإسلامية على الجانبين السنّي والشيعي. كما أنّ جانباً من البعث المهزوم كان يقاتل تحت راية الطائفية بشكل موارب. ثم إن تنظيمات «القاعدة» تعتبر الحرب الطائفية مقدسة؛ ومن هنا هجومها على الرموز الشيعية (طقوس عاشوراء)، ونسفها للمرقدين الشريفين في سامراء في شباط (فبراير) 2006 - وهو نقطة التحوّل نحو الحرب الأهلية الطائفية الدائرة اليوم بين الميليشيات الشيعية (مثل جيش المهدي وفيلق بدر) والميليشيات السنّية/البعثية. أما الضحايا فهم المواطنون العاديون.
إن مشكلة العراق رباعية الأبعاد: فهناك الانتقال إلى وضع السيادة، أي الفكاك من الاحتلال؛ وهذا يتطلب استقراراً وبناء مؤسسات. وهناك مشكلة قبول المهزومين بالمشاركة على قاعدة الديموقراطية (لكل إنسان صوت واحد). مثلما أن هناك مشكلة قبول الفائزين بنظام توافقيّ يفتح الباب لمشاركة الجميع. وهناك مشكلة الجيران الكارهين لأيّ أفقٍ ديموقراطي محتمل، أو لأي تغييرٍ في البنيان السياسي. والمفارقة مثلاً أنّ شيعة لبنان يطالبون بالنظام التوافقي تحت راية «حكومة وحدة وطنية»، أما شيعة العراق فيميلون إلى النظام الأكثري، في حين أن السنّة يميلون الى توافقية على غرار المثال اللبناني.
هل أجَّج الأميركان خطوط الانقسام هذه؟ نعم ولا. لا، لأن الأميركان يجهلون تضاريس المجتمع العراقي، ولم يصنعوا خطوط الانقسام لأنها كانت قائمة وتتعمق منذ أمد بعيد. ونعم، لأن حماقاتهم في احتلال العراق وإدارته لا تعد ولا تحصى، وبخاصة حلّ المؤسسات في بلد تهاوت فيه كل المؤسسات الاجتماعية وبات يعيش في فراغ مدمّر.
لن تزول الانقسامات الطائفية - فهي اختلافات ثقافية ذات بعد تاريخي مديد. لكن ما يمكن أن يزول هو تسييس الإسلاميين والمتعصّبين لهذه الاختلافات. المَخرج من عنق الزجاجة الطائفي الذي بلغ حدود القتل على الهوية، هو الوسطية السياسية، المزاج الأرأس وسط الطبقات الوسطى المتعلمة، والمالكة، العابرة للمذاهب والطوائف والإثنيات. إن أصوات هذه الوسطية خافتة الآن بسبب طغيان لغة السلاح، لكنها ليست خرساء.
لقد بدأت الآن عملية تفكك الكتل السياسية المنظمة على اساس شيعي او سني طائفي، وهو تفتت يؤشر الى تمايز الشيعة وتمايز السنة من داخلهم، واستحالة بناء تمثيل طائفي، متجانس ومطلق. كما ان جردة اولية لاسماء المجالس السياسية الداخلية في انتخابات المجالس البلدية يفيد، كما لاحظ احد الباحثين، ان صفة «الوطني» تتكرر اكثر من صفة «الاسلامي». لعلها مؤشرات اولية، لكنها تظل مؤشرات.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فالح عبد الجبار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni