... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
«بتروشكا» سترافنسكي

علي الشوك

تاريخ النشر       07/02/2009 06:00 AM


بين حين وآخر أقوم بعملية جرد لأوراقي المكدسة، التي تُمدني بمعظمها الصديقة الموسيقية الهولندية روزميري هوغاكر. وفي تصفيتي الأخيرة عثرت على مجموعات من أوراق عن «كارمينا بورانا»، ومؤلفها كارل أورف. كما عثرت أيضاً على ثماني أوراق عن «بتروشكا» لسترافنسكي. فوجدتني الآن موزع العاطفة بين هاتين المقطوعتين الموسيقيتين الرائعتين. فقد كان لكل منهما سحرها الخاص عليّ، لا سيما عند سماعهما في المرة الأولى. ومع أن إعجابي بكارمينا بورانا ربما فاق الآن إعجابي ببتروشكا، إلا أن علاقتي بالأخيرة أقدم (ترقى الى عام 1949)، ولها قصة لا أنساها. فهي كانت رشحتها لي زيدا البائعة في مخزن اسطوانات Tupper and Reed في مدينة بيركلي – كاليفورنيا. وزيدا كانت حبي الأول (لكن من طرف واحد). فعشقت بتروشكا، بعد أن ضنّت عليّ زيدا بحبها. ورحت استمع إليها مراراً وتكراراً، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ مني. وصرت أترنم بها في غدوّي ورواحي، وأنسق مشيتي وحركاتي مع إيقاعاتها. فما هي بتروشكا؟
لم تكن نية سترافنسكي في البدء أن يؤلفها كمقطوعة للباليه. ففي عام 1910، بعد الفراغ من باليه «الطير الناري»، أحب سترافنسكي أن يجدد نفسه، فقرر أن يؤلف عملاً أوركسترالياً مع التركيز على البيانو. وقبل ذلك كان سترافنسكي قد أخبر دياغيليف، رئيس فرقة «باليه روس» عن أفكاره حول «شعائر الربيع». وعندما استمع دياغيليف الى مخطط بتروشكا الأولي، ذُهل. وقال عنه: «إنه عمل عبقري». وأقنع سترافنسكي بتحويل هذا المخطط الى باليه. وكانا بحاجة الى قصة. ففكرا في بينوا. وكلف دياغيليف فوكين بإعداد الكوريوغرافي لها (الحركات الراقصة للباليه). لكن فوكين فوجئ بشيئين دوّخاه في موسيقى سترافنسكي: درجة السرعة (Tempo)، والإيقاع (rhythm). فعنده أن «تغير الإيقاعات بلا ضرورة متوخاة أشبه بوضع عصا في عجلة الراقص». لكنه رضخ أخيراً أمام إصرار سترافنسكي. وقصة الباليه تدور في الأساس حول أربعة أشخاص، هم البطل بتروشكا، والمغربي، والبطلة، والساحر. وهؤلاء كلهم يظهرون بهيئة دُمى. وفي أول عرض للباليه في 1911، قام الراقص الشهير فاسلاف نيجنسكي بدور بتروشكا، والباليرينا تامارا كارسافينا بدور البطلة، واليكساندر اورلوف بدور المغربي، وتشيكيتي بدور الساحر. وكان على الراقصين أن يؤدوا رقصاتهم وسيقانهم معوجة طوال الوقت كله تقريباً. وهي مهمة لم تكن سهلة. فقد بدت لينجنسكي معقدة أول الأمر. فعليه أن يبدو طبيعياً، لكن بصورة متخشبة وأشبه بالدمية في الوقت نفسه. لكنه أتقن المهمة على الفور. أما الباليرينا كارسافينا فقد أبدعت في أداء دورها بسبب كثرة التمارين قبل عرض الباليه، كان عليها أن تقوم بدورها كدمية جذابة وبليدة في الوقت نفسه. وكانت شخصية المغربي كوميدية جداً، باستثناء دوره عندما قتل بتروشكا.
وعندما سئل سترافنسكي عما كان يتخيله عند تأليف هذه الباليه، أجاب قائلاً: «لدى تأليف الموسيقى، كانت في ذهني صوره واضحة عن دمية، تُنفح فيها الحياة فجأة، وتُفقد صبر الأوركسترا بشلال شيطاني من الآربيجيو (توقيع النغمات توقيعاً متعاقباً بسرعة). وستقابل الأوركسترا بالمثل بضربات محمومة على آلة الترومبيت. والحصيلة ضوضاء رهيبة تبلغ ذروتها ونهايتها في انهيار الدمية المسكينة المحزن». ومن هذا العمل تم إنجاز مقطوعة موسيقية متميزة في قوتها وطابعها المرح والهازل.
لكن الموسيقى استقبلت في البدء بالنفور من قبل العازفين. فلدى انطباعهم الأول لم يتمالكوا أنفسهم من الضحك، ورفض البعض عزفها. لكنهم استجابوا أخيراً. فالمقطوعة تتسم بالتغيير المستمر في درجة سرعة الأداء، والانطباع الثنائيّ المقام في «المركب الصوتي لبتروشكا». وكان سترافنسكي شاعراً في اعتماد هذه التقنية ليعبر عن الجانبين، الإنساني والدُميوي. فكان كل من هذين الجانبين يتصارع مع الآخر خلال الباليه. وكان بتروشكا يريد أن يتحرر من الساحر ليتاح له أن يعرب عن حبه للباليرينا. بيد أن حقيقة كونه دمية تُقعده عن تحقيق هذه الرغبة.
وقد استعار سترافنسكي بعضاً من موسيقاه من الأغاني الفولكلورية الروسية، ومن أستاذه ريمسكي – كورساكوف، وآخرين. وتتسم أهمية بتروشكا أيضاً في كونها إرهاصاً لمقطوعة سترافسنكي الشهيرة والجريئة في تمردها على المألوف، «شعائر الربيع». وكما قال أريك وايت: «في بتروشكا يظهر للمرة الأولى صوت سترافنسكي المميز». ففي هذه الموسيقى تبدأ لعبة سترافنسكي مع الإيقاع بخاصة.
ويلاحظ المستمع منذ البداية أن الموسيقى لا تتتابع كأصوات منسابة ومترابطة، بل متقطعة ومتغيرة الإيقاع والنغم. كما أن قفلة المقطوعة تباغتك بضربة تساؤلية بلا جواب تبقى معلقة في الهواء.
لكنني قرأت في كتاب ثيودور ادورنو «فلسفة الموسيقى الحديثة» رأياً سلبياً جداً في «بتروشكا». فأدورنو يرى أن باليه بتروشكا تستمد أصولها من أجواء الكاباريهات. فسترافنسكي هنا يؤله أصوات الآلات الهوائية، وتستحيل الآلات الوترية عنده الى نكتة، فقد حرمها من أصواتها الروحية. ويقول أدورنو إن موسيقى بتروشكا انحطت الى مستوى طفولي. وليـست الموسيـقى هنا سوى إحياء للجسد فقط، وللرقص. لقد ابتعدت عن الشيء الدرامي والعاطفي. لكن أكثر ما يلفت النظر في موسيقى سترافنسكي، كما يقول أدورنو، هو السلوك الشيزوفريني. ويقول إن نهجه الإيقاعي يشبه الى حـد كبـير مخـطط حـالات الإغماء التخشبي (catatonia) لدى بعض المصابين بالشيزوفرينيا.
وسواء كان أدورنو محقاً هنا أو لا، فإن سترافنسكي كان عامداً في نهجه هذا الذي ينطوي على موقف مضاد من الفن والموسيقى، وينسجم مع النزعة الدادائية المضادة للفن، التي ظهرت في تلك الأيام. ثم لماذا لا نستمع الى موسيقى شيزوفرينية، إذا صح أنها كانت كذلك؟


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي الشوك


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni