... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
«لاب توب» وفوانيس ونخيل اصطناعي ... في بغداد التي تنهض من خرابها

صلاح حسن

تاريخ النشر       23/02/2009 06:00 AM


الطريق إلى بغداد طويلة دائماً، شاقة وحافلة بالمفاجآت. لا يصل المرء إلى بغداد مباشرة لأنه يحتاج إلى محطة قريبة منها كي يتزود بالصبر والاناة، وبعض التعاويذ إذا تطلب الأمر لان بغداد لم تعد تشبه المدن الأخرى. ينبغي لزائر المدينة أن يمر ببيروت أو دمشق، الكويت أو اسطنبول قبل إن يدخل من احد المنافذ التي أصبحت آلان كثيرة بفضل السيد الأميركي الذي فتحها أمام الجميع وغادر مبكراً. تقلع الطائرة من مطار أمستردام لتحط في لندن ومن ثم إلى الكويت. انتظار وضياع وقت ولكنهما محتملان إلى حد ما، غير إن المشقة تبدأ عند الطريق البرية من الكويت إلى البصرة ومن البصرة إلى بغداد.
ما إن يدخل المرء الحدود العراقية حتى يحاصره الغبار والارتجال والفوضى. يتجلى ذلك بقوة على الحدود الكويتية العراقية في صفوان. كل شيء يدعو للرثاء، الغبار في كل مكان والوجوه كالحة بذقون كثة ولكن غير متجهمة والملابس سوداء متربة في فضاء مسمم بالدخان. لا يوجد عراقي لا يسعل، العراقيون متشابهون حتى في أمراضهم.
ما يخفف من كل ذلك أنّ التعامل مع القادمين من الكويت إلى البصرة سلس، وعملية ختم الجوازات سريعة والتفتيش أسرع بحيث لا يتأخر المرء أكثر من خمس دقائق. أسئلة قليلة مختصرة لا تشبه التحقيق، والأكثر أهمية من كل ذلك انك لا تخاف أو تتردد حين تجيب عن هذه الأسئلة العادية.
شيء يشبه الإزعاج ولكن عندما تفكر به بعد ذلك تشعر انه لم يكن إزعاجاً على الإطلاق بقدر ما هو استجابة ضرورية لظرف قيد التشكل. يتكرر هذا الشعور بالإزعاج أما الحواجز العسكرية الكثيرة المنتشرة في عموم البلاد والأسئلة التقليدية «من أين قادم والى أين ذاهب» ولأنني اختلف عن الجميع بشعري الأبيض الطويل كنت أطالب دائما بإبراز هويتي العراقية، وكانت كلمة عربية باللهجة العراقية كافية لعبور هذه الحواجز.

بابل
تقطع السيارة «جي أم سي» الأميركية الطريق في ست ساعات متواصلة بين البصرة والحلة، وبسرعة تصل إلى مئة وخمسين كيلومتراً في الساعة. الطريق تبدو خالية في صحراء مترامية الأطراف يظهر فيها بين فترة وأخرى بدوي مع جماله القليلة، وعلى مقربة من ذلك خيام كالحة صغيرة وواطئة. وعدا هذه الأشياء القليلة الحية لا يرى المرء سوى الغبار طوال هذه الساعات. الطريق الدولية التي تسلكها السيارات لا تمر في المدن إلا نادراً ما يجعلها موحشة قفراء وتوحي بالضياع، خصوصاً في مدينة الناصرية التي تبدو كما لو إن إعصاراً مر بها، ولعل رؤية مساحة خضراء مهما كانت صغيرة تعيد الحياة إلى العابرين في هذا المكان. في مدخل مدينة الحلة يفاجأ المرء بصور ولافتات كثيرة تحتل كل المساحات المتاحة في الفضاء. إنها الانتخابات وهي مفاجأة أخرى كبيرة بحد ذاتها. هناك صور لأشخاص اعرفهم ومن بينهم أصدقاء كانوا في المنفى وآخرين لم يغادروا الوطن رشحوا أنفسهم. احدهم زوج أختي، فاجأتني صورته الكبيرة في مدخل احد الشوارع. قبل يوم واحد من الانتخابات عبّرت الزوجة لزوجها وهو فنان تشكيلي صديق عن حيرتها في اختيار احد المرشحين الذين يملأون الساحة، فقال لها: انك تكرهين ارتداء العباءة، اختاري إذن من يجعلك تخلعينها. هكذا نجحت الأحزاب الليبرالية وتراجعت الأحزاب الدينية في هذه المدينة التي كان يطلق عليها في يوم ما اسم «موسكو» الصغيرة.
أطرف ما حصل في هذه المدينة إن احد الأحزاب الدينية الكبيرة والمدعوم من جهات خارجية وشعاره الرئيس «معكم... معكم» كان يستميل سكانها بالهبات. وزع هذا الحزب على الناس أجهزة موبايل مع خمسين ألف دينار عراقي (43 دولاراً) مقابل القسم بانتخاب قائمته. غير إن ما حصل إن هذا الحزب مني بخسارة فادحة وغير متوقعة، ما حدا بعامل مقهى كان سجيناً سياسياً إن علق بتهكم: «انتخبوا مع قم... مع قم» محرفاً كلمة «معكم... معكم».

الوصول إلى مدينة أين؟
الطريق من الحلة إلى بغداد أصبح أكثر أمنا من السابق بما لا يقاس. وما كان يسمى مثلث الموت أصبح في خبر كان بعد إن كلّ المسلحون ووضعوا أيديهم في يد الحكومة مقابل أموال طائلة تكفل لهم عيشاً كريماً، وباتوا يسمون «قوات الصحوة» بدل تسمية المتمردين، بعد إن انقلبوا على تنظيم القاعدة. الخبز سيد القوانين في العراق. لكنّ هذا لا يعني أنّ الأمور انتهت فهناك الكثير من المناطيد البيضاء التي تشهق في سماء بغداد مزودة بالكاميرات التي ترصد أدنى حركة للتمرد.
قلنا في البداية إن الطريق إلى بغداد حافلة بالمفاجآت وهذا ما فاجأنا شخصيا عندما دخلنا إلى أول مدينة في بغداد، السيدية المعروفة أنها مدينة سنية. أغلق الأميركيون المدن العراقية بالجدران العالية وأنشأوا لكل مدينة مدخلين ومخرجين مع تفتيش جاد لكل داخل وخارج، بأجهزة صغيرة لكشف المتفجرات. وإضافة إلى تفتيش العربات هناك غرفتان صغيرتان لتفتيش المارة، واحدة للنساء وأخرى للرجال، وما إن ترجلت من السيارة حتى استوقفني شرطي شاب لتفتيشي، نظر إلي ملياً وقال: «أستاذ ألست شاعراً أنا أعرفك، أنت غير خاضع للتفتيش، مع السلامة». في كل مساء يتكرر هذا الأمر وأحياناً يطلب مني بعض الشرطة إن اقرأ لهم قصيدة، لذلك قررت إن أحفظ بعضاً من الشعر الشعبي العراقي لئلا أبدو أمامهم شاعراً جاهلاً.
في مساء أخر وكنت منتشياً، قررت إن اسأل هذا الشرطي الشاب من أين له هذه المعرفة بشخصي. وكانت المفاجأة اكبر مما كنت أتوقع. قال: «أنا من متخرجي كلية التربية في بغداد قسم التاريخ ولم أجد فرصة للعمل كمدرس، وحين أعلن عن الحاجة إلى متطوعين في الجيش والشرطة ابلغني خالي أن العمل في هذا المجال ليس عيباً، وقدم لي مثلاً عنك وقال إن لدي صديقاً صحافياً وشاعراً يعمل في كراج النهضة وهو يبيع البيض في ساحة الطيران لذلك كنت أتابع كل ما تنشره وكانت صورتك حاضرة في ذهني طيلة الوقت».

عودة بغداد
السعادة الحقيقية في شوارع بغداد هي خلوها من جنود الاحتلال وهذا هو احد أهم مظاهر الاستقرار الأمني الذي بدأت تنعم به المدينة لأن وجودهم كان يصيب الناس بالتوتر والخوف. إما ألان فإن الناس يسيرون في الشوارع باسترخاء خصوصاً ان الكثير من الجدران الكونكريتية قد أزيلت. شارع السعدون في قلب بغداد عاد مرة أخرى إلى الحياة بعد إن تم فتح بعض الملاهي، لكن الازدحام في هذا الشارع لا يطاق وعبوره يعد معجزة لعدم وجود أماكن للعبور وإشارات المرور لا تعمل. إما شارع أبي نؤاس الذي كان يستقبل البغداديين في كل مساء فبدأ ينتعش هو الآخر لكنه خسر امتيازه في بيع السمك المزكوف بعد إن بقي مغلقاً طوال هذه الأعوام وأخذ الناس يسكفون أي «يشوون» السمك في كل مكان ولكن من دون تلك النكهة القريبة من دجلة.
انتخاب مجالس المحافظات الذي تم أخيراً من دون حوادث تذكر، دليل قوي على التحسن الأمني في العراق وقد أماط اللثام عن قدرة العراقيين في حماية بلدهم من طريق اختيار ممثليهم في أول تجربة ديمقراطية في هذا البلد. تراجع الأحزاب الدينية وصعود القوى الليبرالية والمدنية سيسرعان في عملية الانسجام ويقضيان على التباغض الطائفي، وأفضل دليل على ذلك أن الكثير من القوائم الانتخابية تضم مرشحين من مختلف الطوائف والقوميات. في الزيارات الماضية كنت تسمع العراقيين يقولون إن كل يوم يمر هو أفضل من اليوم القادم، لكنّ المعادلة تغيرت ألان وأصبح العكس هو الصحيح « كل يوم قادم أفضل من اليوم الماضي».
أشياء كثيرة تتغير في العراق اليوم لكن الكهرباء والنفط من الأشياء التي يبدو من العسير تغيير حالتها، ست ساعات في اليوم موزعة بين فترات مختلفة، وأكثر الكلمات المتداولة حول الكهرباء هي كلمتا وطنية ومولدة. الوطنية تعني الطاقة التي تقدمها الدولة، إما المولّدة فتعني الطاقة التي تقدمها المولدات الكهربائية الصغيرة والكبيرة المنتشرة في كل مكان في العراق والتي تعمل على البنزين المستورد من إيران والكويت وتركيا. يستورد العراق من إيران كل شيء حتى أدوات اللطم من سلاسل وأكفان وسيوف والأكثر إثارة للضحك أن يستورد العراق نخيلاً بلاستيكياً أو اصطناعياً يوضع على الأرصفة، حتى حجارة الأرصفة تستورد منها! وفي المقابل يصر روائي عراقي شاب على إكمال روايته عبر كومبيوتر من نوع «لاب توب» ولكن على ضوء الفانوس.
في طريق العودة من مدينة الحلة إلى مدينة البصرة وهي مسافة تصل إلى ستمئة كيلومتر، لم ينقطع تدفق أفواج الذاهبين إلى زيارة ضريح الإمام الحسين. رجال ونساء وأطفال وشيوخ وشبان كثيرون يرتدون الملابس السوداء وهم يحملون رايات مختلفة الألوان يندفعون إلى مدينة كربلاء وقد نصبت في الطريق الكثير من الخيام التي تقدم لهؤلاء الناس الماء والطعام. هناك أيضاً سيارات بيك اب مزودة بكاميرات وسماعات تحث هؤلاء الناس على المسير قدماً، وغالب الظن أنها تابعة لأحزاب إسلامية راديكالية فشلت في الانتخابات الأخيرة. الكثير من هؤلاء الزوار اشتروا خرافاً صغيرة لكي يضحوا بها عند وصولهم إلى الضريح، تبدو الخراف طليقة لكنها تتبع الناس إلى حتفها.

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  صلاح حسن


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni