... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
فدراليات في شروط مخيبة وهرب من المشكلات الوطنية الكبرى

وليد الحيدري

تاريخ النشر       09/06/2009 06:00 AM


"لقد قلت وخلصت نفسي – ماركس"
لم أستوعب أفق ما يفكر به السيد وائل عبد اللطيف حقا بشأن مشروعه الفدرالي الا بعد أن استمعت اليه في ندوة فضائية الحرية. فلأنه كان في حالة جدالية، وربما سجالية، أطلق العنان لمخيلة لا تصلح لقاضي بل لسياسي من هذه الايام يهرب الى امام بالاستناد الى أمثلة تاريخية. لقد اكتشف لمشروعه الفدرالي سندا تطبيقيا ونظريا عند الامام علي بن ابي طالب وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما). لا مفاجآت في هذا الزمن الذي يوصف انه لا اديولوجي حتى باستخدام تنظيمات ادارية من الطراز القديم لم تدم طويلا لتبرير الفدرالية الحديثة.
إمعانا بتفقيه مشروعه الفدرالي أخبرنا القاضي عن البصرة الولاية العثمانية التي شكلت مع بغداد والموصل العراق الحالي . أظن لو منح القاضي فرصة للحديث عن الأدلة التاريخية لحدثنا عن دولة المشعشعين ، أو لحدثنا مطولا عن قيام أحد التجار بشراء ولاية البصرة من والي عثماني كفر بالعراق وأهل العراق، أو أشار بالتفصيل الى طلب نظيره عبد اللطيف المنديل من الانكليز الارتباط بالادارة الانكليزية في الهند بدلا من الارتباط ببغداد الهاشمية. لعلّه يمكن سرد كل هذه الوقائع بكتاب يتضمن كذلك شيئا عن فقه البصرة الذي يختلف عن فقه المدينة في الحجاز كما يختلف عن فقه المدارس البغدادية. لا أشك في انه يعرف كل هذا الا إنني احب أن امضي معه في استرداد ما لا يسترد.
إن تقديم الأمثلة التاريخية عن استقلالية البصرة الاداري في العهد العثماني الذي دام اربعة قرون لا يثبّت مكانتها الا في حدود المقاييس السائدة ومصالح السلطة آنذاك، لكننا نعلم علم اليقين بغياب دور البصرة الحضاري وسقوطها التاريخي في غياهب التخلف والاستبداد العثماني ، شأنها في ذلك شأن بغداد. في ما عدا ذلك أرى أن الامثلة الأخرى إما مجرد افتراضات وإما أحداث لها تعابيرها ومبرراتها الخاصة غطّاها التاريخ الحقيقي.
يفاجئنا سياسيو هذا الزمان بتواريخهم، والقابهم، وطوائفهم، ولحاهم الخفيفة، ومشاريعهم، وأحاديثهم الممتعة عن الشفافية والديمقراطية. بالنسبة لليبرالي مثل القاضي وائل (هذا ما يشيعه عن نفسه في البصرة التي ضجت من القيادات الدينية) سيكتفي بتاريخ مدينته، ثم آهليته الشخصية بوصفه قاضيا. هذا يكفيه شخصيا بل ويكفينا. لكن ثمة تفصيلا صغيرا يجب ان نتعرف عليه، فالقاضي الذي عدّ سياسيا لا نعرف تاريخه السياسي حقا. حبذا لو نعرفه لكي نكون على ثقة ودراية بصاحب المشروع. لا يستهدف هذا الطلب التشكيك بل التوضيح بالاقتران مع حالة مدوّخة، فجميع النواب يعتبرون انفسهم سياسيين، وتعاملهم الصحافة على أنهم كذلك، بصرف النظر عن تاريخهم الشخصي ومهنهم الأصلية، وبصرف النظر عن قصر المدة التي عرفوا فيها. ومعروف انه ظهر بعد 9 نيسان 2003 آلاف السياسيين والمحللين وخبراء الاعلام والمستشارين من دون أن نعرف عن ماضيهم شيئا. وهاهم اولاء أنفسهم، قبل أن نتعرف عليهم جيدا يغامرون بنا وبالبلد بمشاريع كبرى. قبل أن نحصي الجثث والأحياء، قبل أن نحوز على أرقام صلبة عن الحياة والاقتصاد والتعليم والثقافة والتقنية ، قبل أن نحصي الارباح والخسائر ، يقررون براحة بال ، وبضمير لا تزعجه الشكوك ولا حقائق واقعنا الرث،  المصير السياسي للبلد. وقبل أن نعرف شيئا عن الحاضر يرهنون مستقبلنا .      
على ماذا يعولون؟على دستور كتب على عجل والماضي الدكتاتوري ما زال نديا - كتب على اصوات الانفجارات والتفخيخات مع التخويف والتهديد والظلام الدامس. وهل يجوز التعويل على افكار عامة عن العراق الغني الذي أفقر، عن عدالة قديمة، عن أمثلة خارج سياقها التاريخي والموضوعي؟
كان النزاع يجري، والدم يسيل، والامريكان المخادعون ، الذين لم يعرفوا شيئا ، أو عرفوا وأرادوا مقتلنا، طبقوا علينا مقاييس نموذج يدعى ما بعد النزاع Post- conflict، كأننا رومانيا والتشيك وسلوفاكيا وهنغاريا التي خرجت من المعسكر الاشتراكي لتنزلق نحو تجربة السوق الرأسمالي والديمقراطية. كانوا مخلصين لأعمال التصنيف وتشكيل النماذج النظرية وغير مخلصين  للواقع ، وقد جرّبوا على العراق بموازاة هذا النموذج سياسة العلاقات العامة كلية السخف والتجريد. أما جماعتنا السذج فقد قادوا هذا النموذج بتبني مشاريع مستقبلية، ما دمنا بتنا دولة انهت تماما النزاع، أي انهم قفزوا فوق المقياس الامريكي نفسه، وقبل ذلك بزوا الامريكان بالتجريد. 
 لقد استدخل القاضي هذه الافكار الطليعية ببساطة. ولكي يثبت انه ليبرالي وسياسي أشار، مع شيء من لهجة التنبيه والتهديد، الى امكانية حصول انقلاب عسكري إذا ما جرى عدم الالتزام بالدستور. من أين له أن يعرف ؟ أهي علاقة ظرفية بين عدم احترام الدستور وحدوث انقلاب عسكري؟ هل توجد علاقة حتمية بين هذه وتلك ؟ هذا معقول من الناحية النظرية ، لكنه ليس معقولا من الناحية الفعلية ، حتى لو كان هناك من يريد ان يجرب حظه فعلا. هل يشجع الامريكان مثل هذا الانقلاب؟ هل السيد رئيس الوزراء سيقوده أم وزير الدفاع ام ضابط من رتبة كبيرة؟ هل الجيش العراقي كاف لضبط العراق الذي لم يضبطه الامريكان؟ ما دام الامر يتعلق بامكانية فهذه الاسئلة واردة من دون رغبة منا بالغمز من قناة القاضي أو اثارة المصاعب عليه واحاطته بالشكوك. إذا كان القاضي يعرف بوجود مثل هذه المخاطر فليقدم لنا المعلومات والتحليلات الكافية لكي نتثبت من الأمر، وقد نصطف معه. لكن القاضي يخوفنا أو يخوف نفسه لكي يبرر مشروعه الاتحادي ويقوي دفاعه عن الدستور الفدرالي الذي كلنا نعرف انه لم يحصل على الاتفاق الوطني الاّ  بوعد تغيير عدد من فقراته !   
هناك ثلاث ظواهر غريبة ظهرت بعد الاحتلال ضمن هذا السياق:
- الأولى أن المشاريع التي تقع في أفق الزعامات المحلية هي التي تطرح بقوة ويدافع عنها بحماس مع أن أطرها السياسية والتنظيمية والمالية غير متوفرة ، أما المشروع الوطني في بناء الدولة العراقية على أسس غير طائفية ولا اثنية، أي على اسس مدنية ووطنية، فلا أحد يتحدث عنه بحماس كاف في حين أنه الأساس لكل المشاريع العقدية الاخرى بصرف النظر عن ميزاتها وتكلفتها ، ومنها الفدرالية بالطبع. 
- الثانية أن البعض يصرّ على ( المبادئ ) ويراها أو يتخيلها واقعاً. فمن الناحية الواقعية ليس في العراق دولة حقيقية بعد، بل هو لا يمتلك وزارات ومؤسسات تقوم بربع واجباتها حتى نعتبر ذلك انجازا لها، ثم نسمع بين الحين والحين أساطير عن كارثة ( دستورية!) سيقترفها جيش العراق بقيامه بانقلاب يطيح بالديمقراطية والدولة الفدرالية.
- الثالثة تضع الدولة القوية في كفة ميزان مقابل وضع الفدرالية في الكفة الثانية، مع عدم الاشارة الى المؤسسات الوسيطة كالبرلمان والقوانين والدستور والعرف، اي المبالغة في التجريد، ووضع الاشياء على التخوم واحاطتها بالفراغ من اجل الحصول على شائعات ترقى الى مستوى البداهة والتخويف منها. في حين أن الدولة الحالية من حيث البنى والوظائف والموقع السياسي لا تشبه بأي حال من الأحوال الدولة الشمولية السابقة المستثمرة من قبل حزب واحد، من هنا يعد الحديث عن الدولة وفي ذهننا تلك الدولة احتيالا وديماغوجية. والحال إن هذه الظواهر – المزاعم كلها قد تصدر عن جهة واحدة  في آن واحد حسب تقلبات الامور، وحسب ما يراد تمريره من تخويفات وأكاذيب. ومن الواضح إن الناس في وضع متعب جدا الى حد انهم لم يعد يدققون او يبالون أو يفهمون. لقد استغل بعض السياسيين اسوأ الظروف لتمرير ألعابهم .
تعلن الديماغوجية الجديدة خوفها على الدستور من جيش غير مهيأ لا لحماية الامن الداخلي ولا حدودنا الخارجية، كما تتخوف على الفدرالية من الدولة المركزية مع انه لا توجد دولة حقيقية حتى هذه الساعة . فضلا عن ذلك فإن من يدير المحافظات حاليا هي النخب السياسية المحلية المنتخبة وليس جماعات معيّنة من بغداد كما كان يحدث سابقا. ومعروفة الكيفية التي جرى فيها انتخابها، والتدخلات السافرة التي ترقى الى التزوير التي حدثت في ذلك. إن هذه الحقيقة قد تكفي للاستنتاج أن هذه النخب المحلية المسيّسة حتى العظم، والناشطة الآن على نحو استثنائي بسبب قرب الانتخابات هي التي تريد توسيع حصصها باسماء وحجج مختلفة. لكن لم العجلة ايها السادة؟ إذا ما امعنتم النظر، عن حسن نية ومن دون خداع،  لوجدتم أن مشروع بناء الدولة الحديثة والقوية والديمقراطية مهم جدا لأي مشروع سياسي وتنظيمي واداري جديد. هذا هو درس الفدراليات الديمقراطية، حيث النظام الاتحادي الجديد لا يظهر غريبا عن العقد الاجتماعي الاول بل ينبعث من داخله عند الضرورة مثلما هو يعزز أفق العقود الأخرى ، شاقا الطريق الى بناء ديمقراطية واسعة أقل جدلاً نيابياً فيما يتعلق بتوفير الحاجات الاساسية للشعب وأقل ثرثرة فيما يتعلق بالبديهيات.
إذا كان السيد وائل لا يعرف هذا، فلن تكون حججه التاريخية سوى غزل غير بريء مع القوى المحلية التي أساءت الى البصرة، ولن تعدو ليبراليته سوى مرحلة ينتقل بعدها الى حكومة (بصرية) تتقاسمها النخب المحلية الحالية أو بعضها بكل ما تتميز به من عدم كفاءة وانحياز فظ الى احزابها السياسية  ناهيكم عن نزعتها الطائفية.
لا توجد اليوم دولة واضحة المعالم تسمح لنا أن نسميها بثقة دولة اتحادية او ديمقراطية أو مركزية او لا مركزية. بالمقابل ما زالت  الذاكرة الجمعية السياسية تحتفظ بذخيرة من تجارب الانظمة السياسية التي ركبت الدولة وحطّمتها قبل أن يبددها الاحتلال نهائيا - تجربة يحولها البعض الى مقياس سلبي لكي يبرر عرض المظالم مع حلول متعاظمة تثير الانشقاق الوطني وتكلف الدولة الجنينية المتاعب. نعم لا توجد دولة واقعية بينما يوجد دستور، وهذه الحقيقة الملتبسة لا تبدو غريبة لأصحاب المشاريع الإتحادية على الرغم من أنها تذهب بهم الى ما يشتكون منه ويتخوفون: انحطاط الحالة القانونية كلها، ضعف الجهاز التنفيذي ، تفكك العلاقة بين الاعلى والادنى في جميع الاجهزة. لا حاجة للقول إن هذا يعني توفر امكانيات غير عادية لحدوث خروقات دستورية خطرة تؤثر على حياة الناس في أمنهم ولقمة عيشهم وحرياتهم المدنية. ومعروف أن البصرة التي خادعت نخبها السياسية المهيمنة المركز طويلا ضربت الرقم السياسي بخرق الدستور لكن بعزلة وصمت وفرته الادارة المحلية الخائفة والمشتركة بالسوء. ومن المؤسف ان الحكومة التي ادارت عملية عسكرية هناك صمتت هي الاخرى ووفرت من جديد الغطاء لعودة صامتة للسيئين. 
منذ أن أقرّ الدستور جرى خرقه مئات المرات، ليس لأنه سيء أو غير كاف بل بسبب طبيعة علاقات القوى والثقافة السائدة وعدم وجود تقاليد ديمقراطية، فضلا عن وجود حالة استثنائية بسبب العنف والإرهاب بالإقتران مع عدم وجود دولة تراقب وتحاسب. في البصرة التي كان القاضي محافظا لها كانت القوى المتنفذة تسرق وتنهب وتعذب وتغتال وتقتل النساء : الا يشكل هذا خرقا للدستور ؟ لكن – يا للسخرية - هذا هو الخرق الدستوري الحقيقي الذي لا تترتب عليه (انقلابات عسكرية) ولا (فضائح دستورية) ولا يستدعي التحقيق والفضح العلني والإحالة الى المحاكم، لأنه عادي جداً، يومي جدا، قديم جدا، ويجري بين أحباب ومتواطئين، ومتوفر بكثرة في السوق المحلية ، وكنا ولا نزال نبتلعه يائسين مستسلمين. 
ماذا يعني وجود دستور بلا جسد تنفيذي (دولة)؟ أدعوا الجميع الى تأمل هذه الحالة الغريبة، وسيرون انهم بلا دولة مجرد قوى تعمل بغرائزها مضطربة تخاف من بعضها البعض. أدعوا هنا بوجه خاص اولئك الذين حاولوا اضفاء الشرعية على النظام السياسي الميكانيكي الذي أقيم في البداية، وواصل العمل في شكل نسخة متطورة منه متخذا نفس مبادئه (المحاصصة). أرى أن بناء الشرعية عمل معقد لا تصنعه الانتخابات ولا الدستور بل وجود نسق من الترابطات والسياقات وأنظمة الربط والتنسيق ما بين هذين العنصرين وكيان دولة حرة معترف بها قادرة على فرض الزاماتها وقوانينها ودستورها في الداخل وتحظى بالاعتراف الدولي والاقليمي. اليس من الأفضل والمعقول انتظار تقوية هذه الروابط الديمقراطية، ورسوخ الديمقراطية كممارسة وثقافة وسلوك، واستتباب الامن، وضبط حدودنا، والتفاهم مع جيرننا على قضايا الامن على نحو ثابت يضمن حقوق بلدنا وأمنه ويمنع التدخلات المشينة بشؤونه الداخلية،  قبل الذهاب الى التفكيك والتحليل والأنظمة المبتكرة؟ 
عند هذه النقطة نصل الى العقدة الاساسية التي تمسك بالقضايا العقدية كلها بما فيها الفدرالية. لننبه: قبل أن نستوفي حقوق الشرط الوطني والسسيولوجي يصبح التقدم بمشاريع ادارية معقدة وغير مفهومة أمر سابق لأوانه جدا ويثير الانشقاق .
ما زالت الدولة الوطنية الحديثة في حالة بناء، بيد إن المشكلة أن هذا البناء يتكفل به نظام سياسي يعيش مآزق البداية السياسية الخاطئة والعجولة التي ظهرت في ظروف غير عادية وغير عادلة من الاحتلال الأجنبي والعنف والإرهاب والانقسام. إنه مأزق مضاعف لأن هذا النظام صنع بنفسه أدوات تعطل ارادته التنفيذية وتشتت جهوده، ولاسيما أن القوى السياسية المشكلة له تمثل تركيبات طائفية بما يجعلها دائمة الدوران حول مطالبها، متعصبة ، تأخذ بيد ما تعطيه بيد اخرى، وتحاول الاستفادة من الخطأ والصواب متحججة بالدستور ومبدأ التوافق لإعاقة كل ما تعتقد انه يضرها في عملية البناء هذه. لقد ضيّع هذا النظام السياسي على نفسه وقتا ثمينا بسبب التنافس على تقاسم الموارد والوظائف وتحويل الدولة الى بقرة حلوب.
ما الذي يجري؟ لدينا قوى ترغب في تقاسم الدولة وتحويلها من جهاز قادر على بث صورته العقلانية في قلب النظام السياسي، الى جهاز ذليل مقلم الأظافر ترجّه المحاججات النيابية والمصالح الضيقة وتفتته المجتمعات المحلية باسم خصوصيتها أو باسم توزيع المهام الادارية. وعلى الجملة توجد تصيرات فعلية تريد أن تنتهي عند نظام سياسي قائم على تبادل المنافع بين القوى السياسية الممثلة للطوائف والاثنيات، تصيرات تبدو اكثر وضوحا واندفاعا من مشروع بناء دولة ديمقراطية حديثة. إننا ولاشك نتحدث عن نظام سياسي يلصق صورته المترجرجة على الدولة ، يتسلقها، يركبها، يستنزفها، يحطم بناءها ووظائفها العقلانية الشاملة، محولا وظائف الخدمة العامة الى أدوات حزبية. ( هل تريدون ان نسرد ما يجري للمواطنين للحصول على وظيفة تافهة؟) هذا هو في الحقيقة أفق السادة الذين يمارسون الحكم حاليا للاسف – نظام سياسي قائم على المحاصصة ابتداء من الوظائف السياسية وانتهاء بوظائف الخدمة العامة، كان السيد وائل عبد اللطيف واحدا ممن أسهم فيه ودافع عنه، ثم تشكى منه ومن انعدام فاعليته، وقد يظن انه يهرب منه بالفدرالية. ( عندما يشيدون فدراليتهم قد يتظاهرون بانهم انقذوا البصرة من الطائفية والحكومة المركزية السيئة – الا نعرفهم ؟!)
ثمة حقيقة مثيرة تبدو هي صلب المشكلة العراقية كلها يعرضها القاضي كأنه يقدم لائحة اتهام باسم مدينته: البصرة فقيرة جدا بينما هي تقف على ثروة هائلة. هل يجوز هذا؟ أجيبه: لا.. لا يجوز . (من قال يجوز نخرجه من الصف!). لكن لماذا اشعر أننا ازاء دعوة سافرة لتشكيل فدراليات على قدر المدن التي تقف على ثروة هائلة بينما تعيش ببؤس، وفي العراق مدن عديدة كهذه لو أمعنا النظر وقمنا بجردة حساب تفصيلية لا تغشنا فيها ثروة النفط؟ المشكلة في الحقيقة أعقد، فالبصرة ليست فقيرة وبائسة حسب بل ومتخلفة اجتماعيا وثقافيا وصحيا وخدميا وتقنيا واداريا، ولكي ننقذها سيكون علينا أن نجيد لغة الاقتصاد والتنمية أولا( قبل لغة الدعاوى السياسية المعسولة، واللغة النقدية المغرضة التي تحتفظ بالنتيجة مسبقا مثلما يحدث الان من قبل الديماغوجيين على اختلاف مراجعهم) أي أن نخطط ونضع الموارد المالية والبشرية في خدمة تنمية مستدامة بكلف تنظيمية قليلة وواقعية. ومفهوم إن هذا يستدعي قرارا سياسيا، وبفضل الدستور والانتخابات والوعود الديمقراطية فإننا قطعنا اكثر من نصف الطريق لتوفير هذه الارادة فضلا عن القدرة على مراقبتها وتطويرها.
على هذا المستوى من التحديد نفكر بالمركز – بغداد – العاصمة. فهل يظن أن هذا المركز أخذ حصة الاسد وأبقى المحافظات الاخرى في تخلف لا يرجى الخلاص منه الا بحل فدرالي؟ لكن دعونا نفحص النتيجة الماثلة على الارض : فبغداد الحالية هي أسوأ مدينة في الخدمات والامن والتأمين الصحي والاجتماعي. إنها في الحقيقة مدينة كارثية ، تهيم في البرية ، ريفية أسوأ من الريف نفسه، امتدت طولا وعرضا ولا تستطيع أن توفر الخدمات الاساسية لسكانها لا في الطول ولا في العرض، بنى ارتكازية مهشمة، فقر، جوع، اهتراء في النسيج المعماري والمدني، وجلّ معاملها متوقفة. هذا هو المركز الذي يخافون منه، ضعيف حضاريا ومدنيا وانتاجيا، يتحكم فيه الريفيون في غذائه وخدماته ويستورد كل طعامه ويستهلك اسوأ انواع السلع. إن وجود الحكومة في المركز لا يجعله مزدهرا، وتنظيف شوارعه حتى الآن لا يعدو اخفاء تفسخه الداخلي. علينا أن ندرس الواقع العراقي من دون عزله عن صورته المروعة بعد هزيمة الدولة على يد الامريكان والرعاع والتي أدت الى أن يكون المركز هزليا ومستباحا وخطرا واعتدائيا ولا يطاق. هذا المركز الذي كان فخرنا، وفخر الحركة الوطنية، وموقعا لانجازات الثقافة، ضربوه ضربا مبرحا من الاعلى ونهبوا حياته ومفاخره من الاسفل، ليتحول الى اكبر سوق للسيارات واستهلاك الطعام والقبولات السياسية والثرثرة وبناء الاوهام وتقاسم الوزارات والمؤسسات. والآن ماذا عن ديالى، والرمادي، والعمارة؟ العراق كله غارق في التخلف والفساد. لكن هذا العراق ( يا لسعادتنا عندما نجد حلا من فم فدرالي ينقّط عسلا) ليس الا صورة اخرى، أكثر اتساعا، لمثال ازدواج الغنى والفقر في مكان واحد. العراق الذي راح الجميع يحبه، ويتغزل به، الا يقال انه قوي بعمقه الحضاري والثقافي، أي انه قوي من مسافة بعيدة، من عمق لا يقاس بالامتار، عمق خفي، صوفي .. الخ الا ترون كيف إننا التقينا بمثال البصرة الغنية من الاسفل والفقيرة من الاعلى. لا أمزح. ها هي ثروة حضارية في العمق ونحن الفقراء الذي جرى إذلالنا بالحروب والدكتاتوريات والاحتلال والقسوة والعنف والفقر والفساد والاكاذيب نطوّف فوقها خجلين.
ايها السادة : ما الذي نحصل عليه من  افكار عامة وسهلة غير افكار عامة وسهلة؟
الآن وقد جمعت التواقيع للفدرالية، ماذا يقال بعد، فكأن البصرة مدينتي التي سقط فيها رأسي اختارت ، وكأننا اخترنا، وكأن الدستور يظللنا ويحمينا من كل عسف، وكأن مخاطر الانقلاب العسكري تراجعت، وبالطبع بالطبع خلصت الحكاية وعشنا عيشة سعيدة في عراق السؤدد والخصب والحضارة .. والفدرالية! 
-2 -
           

بعد ظهور مقالتي عن فدرالية البصرة اتصل بي بعض الاصدقاء مشيرين الى انني قد أجد نفسي في صف فدرالية الجنوب من دون علمي. أحدهم سألني سؤالا شاكا: " أما كنت تعلم بوجود مشروعين للفدرالية فلماذا أمسكت بخناق فدرالية وائل عبد اللطيف وحدها؟".
أدرك ما تفعله الحالة العراقية من دوار : تؤشر الى الشرق فيدعوك أحدهم : والغرب ؟ تقول رأيا في البصرة فيشيرون عليك أن تتناول العمارة أو كركوك. الحالة العراقية المضطربة المنقسمة تنداح بالأفكار وتعيد توزيعها توزيعا جديدا ، قد تدرجها بدرج غير متوقع ، وقد تعلمها بألوان لا تعود لها .
لقد تناولت فيدرالية البصرة لوجود أفكار محددة عرضها صاحب المشروع في ندوة أدارتها فضائية الحرية. هذا ما قلته من البداية بوضوح. لم يكن الموضوع مناقشة الفدرالية كفكرة بل كمشروع مطروح على مدينة بناسها ومؤسساتها وشروطها في الوضع العراقي الراهن. كنت أدرك مسبقا أن وجود نص دستوري عن الفدرالية يبرر مشاريع الفدرالية وينهي كل نقاش بشأنها، إلا أنني فهمت، عن خطأ أو عن صواب، أن اطلاق مشروع البصرة على الرغم من أنه سليم من ناحية الشكل الدستوري، الا ان الدستور نفسه لم يخرج من "المطهر" بعد، بل يحتاج الى اطلاق التعديلات المتفق عليها والتي لولاها لما واصلت العملية السياسية الحياة، هذا فضلا عن الحاجة الى موافقة رئيس الوزراء، بما يجعل الأمر قابلا للنقاش، قابلا للمداولة في بحر الصمت المخادع القائم على دستورية يقال أنه جرى حسمها نهائيا ، ويجري الآن حلبها وتجسيدها.
 من هنا، وفي محاولة للحاق بالفدراليين والدستوريين عند منعطف ما، لم أخف رأيي بالشروط السيئة التي أطلق فيها الدستور نفسه، وبالطريقة اللاشعبية التي جرى فيها مناقشته، وبأي شروط أمنية مفزعة. ولأنهم يحيلوننا اليه، بل ويخيفوننا من انقلابات عسكرية إذا لم نلتزم به ، بات من المهم ان أؤكد، مجددا، ومرارا، الطريقة التي حصلوا فيها على مكاسبهم. فبينما كان شعبنا يئن من الارهاب والعنف والجوع والعطش والمرض والفساد، كانوا هم يعالجون اتفاقاتهم في الغرف المغلقة، ويمررون اراداتهم، ومصالحهم السياسية والمادية. كانت العدالة منقوصة إذن، والشروط غير طبيعية، والدولة الوطنية غائبة، والدبابات الامريكية هي التي تحمي الشرعية وتنتقص منها على مدار الساعة. لقد صنعوا أمراً واقعاً وقالوا: هذا هو الواقع!  
لو أن السياسيين الحاليين يحبون المغانم السياسية والمادية فقط لهان الأمر، ففي العراق الكثير من الملهيّات التي تستجيب للغرائز والتي ربما تشبع أصحابها وتجرّهم الى العقلنة السياسية والاقتصادية، لكن المصيبة أنهم فيما عدا حبهم للمغانم ، يحبون التشظي والتآكل والخصام والحفر بالجروف المتآكلة. هذا خطر. هذا يشعر الناس بالقلق وعدم الثقة. فهل ننكفئ على أحزاننا أو نهرب من تقديم شهاداتنا كمواطنين؟ هذا السؤال طرحته علي نفسي اليائسة المنسحبة، بيد أن الامر يشبه التحدي والمراهنة. يشبه ما تقوله كلمات هذه القصيدة:(قل كلمتك وامضي..زد سعة الأرض!). والحال فيما يتعلق بمصير وطننا الذي نحب، ثمة دائما أمل في المراجعة وإمعان التفكير، أو في الأقل تأجيل الذهاب الى النار وهي تستعر. إن تجربة الصراع والالم والموت والاصطدام بالواقع التي عشناها قد تعلمنا شيئا جديدا إذا ما زلنا قادرين على التعلم، أو قد ينزل علينا الرحمن رأفته بنا فنرأف بدورنا بهذا البلد المتألم . من يدري ؟ قد يساعدنا الأمل على عدم الجنون. قد يواتينا الحظ .
هل جئت متأخرا؟ لكن هذا ليس ذنبي. هم من ركب صاروخا. هم أصحاب المشاريع والدكاكين السياسية عجّلوا بكتابة الدستور في شروط لا تصلح لكتابة مقال سياسي جيد. لقد احتاجت المانيا الى 7 سنوات بعد الحرب لكي تطلق دستورها الديمقراطي الاتحادي الجديد وتنشئ برلمانها، وقبل ذلك كانت قد استعادت أمن مدنها وقراها والقاعدة التحتية لنموها الجديد. ولعل تنظيمها الاداري الحالي يحمل اصداء البلدات والدوقيات القديمة. لقد دخلوا الى الحداثة ووراءهم ماض غني في الفكر والتجربة والتذكارات والانجاز. ويبدو أننا عباقرة بما فيه الكفاية لكي نصنع كل شيء بحركة اصبع في الفراغ!
 لقد فرض أمر واقع، ويراد الآن أن نبلع غصباً مشاريعه العملية في شروط سيئة من التجهيل والازمات المعاودة ، في شروط محاصصة معطلة وخبيثة، ودولة لا تعمل كما يجب، عملها الراهن ما زال يجري على تثبيت البديهيات، وهو استتباب الامن واحترام القانون ودفع الرواتب.
 أعرف ثلاثة مشاريع للفدرالية، ولأني أبديت رأيي بفدرالية الكرد في مقال سابق، ووجدتها مبررة ومعقولة بسبب ما هم عليه الكرد من مميزات قومية، وشروط  بيئية وثقافية، وأخرى سياسية. ولأني صفيت حسابي مع فدرالية البصرة التي اطلقها القاضي وائل عبد اللطيف في مقال آخر، لم يتبق غير فدرالية الجنوب التي كنا نسمع عنها بين الحين والحين والتي يبدو انها هي الأخرى تبرر نفسها بالدستور وبعض العموميات التي تكاد لا تتماسك. في ظروف العراق تختلط الشائعات والحقائق على نحو لا نسمع ما نسمع ، ولا نصدق ما يصدق. كانت فدرالية الجنوب شيء بين الشائعة والتلاوات الدستورية التي نسمعها بين الحين والحين في حواريات الفضائيات. كانت تصريحا يتوقف ولا ينمو أو ينعطف. هناك التباساتها اولا،  فقد فهمنا أن فيدرالية الجنوب إذا لم تشتمل على البصرة بالفعل فهي تضمها بالقوة. ومن حيث ترابط الدلالات اللغوية- في الأقل- لا فروق كبيرة بين الجنوب الذي يضم البصرة وبين البصرة التي تضم الجنوب. البصرة هناك في اقصى الجنوب، وبهذا المعنى هي هناك دائما في كل تفكير يؤشر الى تلك الجهة. والحال لا فرق كبير، إذا ما انطلقت الفدرالية من البصرة او العمارة، وإذا ما اتفقت البصرة والعمارة والناصرية، الى جانب حصول اتفاق بين النجف وكربلاء والحلة على تشكيل أقاليمها. هذا هو الدستور الذي ينتظر جمع التواقيع وتقوية الرصيد الديموغرافي لإصحاب الطلبات. هذه هي الفدرالية العراقية كما هي في الدستور. وتلك هي لوحة كلامية تحيل الى الدستور ولا تحيل الى رقم أو حقيقة محددة. أما من حيث صورة الفناء الداخلي لهذه الاقاليم فلا توجد فروق في الهوية الاجتماعية والثقافية التي تجعل شخصا من أهل البصرة لا يفهم لهجة اهل الناصرية. لكن ثمة فروقا حسابية مؤكدة يمكن أن نبني عليها روايات مأساوية وليس فيدراليات: زيادة الفقر هنا ، انحطاط اشد في شبكة الماء الصافي هناك ، وجود عناصر مخربة اكثر أو أقل في ذلك الركن ، زيادة نسبة مرضى السرطان في تلك المدينة، مع زيادة امراض السكري وتصلب الشرايين في قرينتها. إن ما يوحد الجميع ( حتى مع ابناء مدينة الصدر في العاصمة المركزية الظالمة!) هو الحظ السيء والخراب الواسع والفساد المعمم بالرغم من خطب الجمعة المتماثلة تقريبا، ثم نسب الأمية، وانخفاظ مستوى التعليم، وأطماع النخب المحلية التي تختفي خلف المشروع الفدرالي التنموي. إن ما يوحدنا اليوم، بعد تسييس الطوائف والاثنيات، والحماقة الامريكية في سحق اطار الاستناد المتمثل بالدولة، هو البؤس والحاجة والخوف. هذه العناصر تستثمرها النخب المحلية للقول ان الفدرالية هي الحل الوحيد حتى من دون أن تقدم دراسة تتضمن ارقاما وحقائق عن "الإقليم المحظوظ" غير تصريحات سياسية تكرر على سمعنا التأكيدات والتطمينات نفسها. إن البؤس العراقي يواصل العمل كلما أعيدت علينا دروس الفدرالية التي يمكن تحفيظها للاولاد في المدارس.   
دعونا نستمع الى دروس الواقع ، فهدفي من نقد فدرالية البصرة والجنوب والوسط لا يعارض مبدأ الفدرالية كلها، بل يقدم عليها- الآن - ستراتيجية تأخذ بالحسبان الانتهاء من هدف ذي صيغة داينميكية يخص البناء الاجتماعي كله، هدف يرسم معالم الاهداف الاخرى ويضعها في سلم من الاولويات. أصوغ هذا الهدف على هذا النحو: علينا بناء الدولة العراقية المستقلة والديمقراطية أولا. هل هذه فكرة سيئة ؟ إنني لا اقول غير البديهيات. منذ متى بات طرح البديهيات مكلفاً؟ لو أن فرسان الفدرالية أمعنوا النظر جيدا، لو جربوا قمع أطماعهم في التحكم والسيطرة، لاكتشفوا فكرتين مثمرتين، الاولى متفرعة من البداهات نفسها: وهي ان الفدرالية تصدر بالضرورة من انشاءات الدولة نفسها، من نموها، واضطراراتها، واحتياجاتها واحتياجات المجتمع بمجموعه. المطلوب إذن ان تنمو هذه الدولة بدلا من أن تحبو، أن تنشأ وتستجيب عضويا وليس ميكانيكيا، وأن تتعرف على حقلها، واحتياجاتها، واضطراراتها، مقابل يقظة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية على نفسها ومتطلبات نموها الافقي والعمودي. هل يجب الاعتماد على تصيرات موضوعية أم نكتفي بخطب الدستوريين الفدراليين وتوضيحاتهم ودستورهم الذي لا يزال البارود يغطيه؟ لنفتح صفاً لمحو الامية فيما يتعلق بالدولة، لنذكًر بأننا نتحدث عن دولتهم، دولتنا، وليس الحكومة المركزية. الدولة الوطنية صاحبة العلم المرفرف والقوانين والمستشفيات والمدارس والجامعات والطرق والجسور والمعرفة. إنها ليست دولة صدام ولا عبد الكريم قاسم ولا الملك ولا أحد من القادة المحبوبين أوالمكروهين، بل الدولة التي بنتها عبقريات ومجهودات العمال والفلاحين والمهندسين والاطباء والتربويين والمعلمين والفنانين والكتاب والصحفيين والساسة الشرفاء وقادة الفكر والعمل الاجتماعي ، دولة المحظوظين والفقراء ، النساء والرجال والاولاد الصغار قراء الاناشيد المدرسية ، دولة التجربة ، بأخطائها ، بمعاكسات الحظ ، بالخطأ والصواب، بالصبر والالهام.    
 والآن إذا ما خفت صلابة أصحاب المشاريع بسبب كلماتي أو بسبب رحمة نزلت على قلوبهم، وإذا ما انتابهم الشك، شاعرين أن الوقت فات على التراجع، فأنصحهم بالفكرة الثانية التي يعرفونها، وهي تجربة دواءهم النيابي المجرب، دواء الكتل المتنافسة والتي تتعب من كثر التنافس فتغلق ما تحت أيديها بالتأجيل. كم مرة أجلوا اتخاذ القرارات؟ أجلوا هذه كذلك من أجل اعادة الدراسة والفهم في الاقل .. ولنر!
 أنا لا اقول أن تتقوى الدولة على الاكراد، ولا أن تتقوى الدولة على البصرة او على الجنوب. من يسيء الفهم في هذا المسألة متقصد. من لا يجيد اعادة بناء الدولة العراقية المحطومة، وغير قادر على الاخلاص لها ووضعها في خدمة الناس، لن يبني فدرالية منتجة بل هو ينشيء مشروعا تجارياً ليس الا.
لماذا يفهم البعض أن قوة الدولة تقف ضد الفيدرالية؟ الجواب : سوء النية! جواب آخر : شانتاج التجارة السياسية! والآن دعوني اؤكد الأفكار السابقة نفسها بطريقة اكثر تركيبا : أرى أن الانزلاق الى أي تنظيم فدرالي يجب ان يبدأ من دولة قوية . اعطوني مثالا واحدا لفدرالية نشأت من دولة ضعيفة؟ بل دعوني اسألكم : قدموا مثالا واحدا عن دولة اسسست فدرالية لمجرد اسباب اقتصادية وتنموية من دون ملابسات تاريخية وجمعية وثقافية – ملابسات تقترب من حيث المضمون من الوضع الكردي المعروف الذي سلمنا بحججه. وما هي الدولة القوية؟ انها الدولة الديمقراطية الحديثة التي لا يركبها النظام السياسي فتتوحد واياه. دولة القانون والمؤسسات والدستور . الدولة التي تجدد نفسها وتبني القاعدة القانونية والمؤسساتية لكل تطور لاحق ، الدولة التي تفكر وتعمل مستقلة عن النظام السياسي . 
أنا لا ألقي بالحزازير. بل أواصل الحديث بالبديهيات. فنحن حقا نتقدم بمشاريع لا أسس لها، وغير مبررة. إن الفيدراليين يعملون في محيط لا وجود لثقافة فيدرالية فيه، بل ولا ثقافة دولة بالمعنى المدني. فماذا يريدون حقا؟ إن الادب الفدرالي في العراق غير متوفر الا بدكاكين السياسة الفقيرة، حتى الفدرالية الكردية هي نتاج أمر واقع قومي مستقل ولم تنتج حتى هذه الساعة ثقافة قانونية وسوسيولوجية واضحة، ولسوف نرحب باشعاعها عندما تنتقل الى الانجاز الذي لم تنتقل اليه بعد. في الفدراليات الاخرى لم يتحدث غير السياسيين الذين نعرف دوافعهم، وكثيرا ما ( يتحدثون بما لا يعلمون). لم ينطلق رأي واحد عن فدرالية الجنوب والبصرة والوسط صادر عن رجال خبرة : فكر، اقتصاد، فلسفة، فقه، علم اجتماع، قانون. والحال أن كل الآراء أعادت انتاج ما قيل بالدستور مع بعض التوضيحات والمهارات الشخصية، والمجتهدون منهم قدموا نزعة مضللة تعتمد على مبدأ خصوصية تاريخية – مثلما فعل القاضي وائل بأمثلة ناقشناها في مقال سابق، أو خصوصية قائمة على ازدواج الغنى والفقر وهو تبرير جامع يستخدمه الجميع، أو التحرر من السلطة المركزية للدولة التي نعرف جميعنا انها فرية تستخدم الماضي الدكتاتوري في الوقت الذي يشكو الجميع من عدم وجود دولة.
كيف جرى الاتفاق بين كل هذه المؤشرات والتبريرات المتهاتفة ، ولماذا تجمعت في وقت كانت الدولة فيها منهارة، والامن مضطرب، والقاعدة القانونية في حالة انهيار، والخدمات كذلك، وفي وقت انصب فيها جهد السلطة على عملية استتباب الامن والنظام؟ لأن المشاريع الفدرالية هي الصورة المعكوسة عن كل ذلك الخراب. إنها فصاحة سياسية جديدة للاطراف التي باتت تهيمن سياسيا وثقافيا على المركز، على الرغم من انها بلا خبرة، تنخر بها تناقضات الجماعات المحلية الدينية والسياسية، وهي بالكاد تتماسك من الناحية المدنية، كما انها تفتقر الى ثقافة وتقاليد ديمقراطية. بالطبع علينا ان لا ننسى الاسهام الكردي في هذا المأزق الجنوبي، متمنيا من سياسيي الكرد أن لا يتورطوا بما ليس بهم حاجة. ففدراليتهم تنطلق من تجربة متشعبة وباتت لها سيرة زمنية، أما فدراليات الجنوب، فقد عثرت على الدستور الفدرالي ( لعلها تعثرت به) بسبب تفرع سياسي كلامي من الفدرالية الكردية، فضلا عما أدت اليه نقاشات المعارضة في الخارج قبل سقوط النظام من اتفاقات ومراهنات وتراضيات، وقد لبت بعضها احتياجات النخب والاعيان للظفر بصوتها الخاص واستقلالها عن الدولة، على الرغم من تغير الظروف وظهور صورة الواقع البشعة. لعلّ كل ما تريده هذه النخب سوف يتفكك على ايديها في النهاية، لانها بلا خبرة ادارية وثقافية ومدنية ، فضلا عن وجود تناقضات من النوع السيء تنخر فيها. 
بيد أن علينا ان نشير في هذا السياق الى بعض الحقائق المزعجة التي جعلت كل هذا التوليد المشوه ممكنا. فعندما أراد الامريكان تشكيل ادارة عراقية حاكمة لم يجدوا قوى تتحدث عن العراق، الدولة الموحدة والشعب الموحد، بل عن مصالحها المحلية المترابطة مع مظالمها السابقة. لقد شكلت صورة الدولة المحطمة الميؤوس منها والتي تركت تموت في الشوارع تاريخا جديدا راحت القوى المتنافسة على السلطة تعوضّه باللجوء الى مركزياتها الطائفية والاثنية. إن مجلس الحكم كان هو الإختراع الذي عكس هذه الصورة المفككة للواقع السياسي الجديد، وهو شكل من اشكال السلطة القائمة على تقاسم السلطة بين قوى متناقضة داخل بلد محتل.(طاسة ابطن طاسة : فولكلور قديم!) وعندما ظهرت حكومة من الانتخابات عمدت الى تلخيص هذا التقاسم بالمحاصصة. بالتأكيد كان هذا الشكل بقدر ما عكس ما تبقى من التهشيم ، لبي طموحات أكبر تاجر بالمفرد في منطقتنا، وأسوأ رسام تجريدي لصور الحل لمشاكل الشرق الاوسط المتعددة : الولايات المتحدة الامريكية!
والآن هاهي الفدرالية العراقية من دون فكر غير دستور كتب عندما كان الجميع يتفادون الرصاص والمفخخات. إنها حتى الآن من دون فقه غير فقه البؤس الذي راح السياسيون بواسطته يضرمون نار الاحقاد والتمايزات وتفكيك العراق. أعطونا كتابة واحدة تحترم نفسها تبرر فدرالية البصرة، أو فدرالية الجنوب، غير صيحات الاغنياء والأعيان عن فقر المحافظات، غير قيام الاغنياء بإثارة غرائز الفقراء . إننا لم نسمع حتى الآن غير أصوات الديماغوجيين في تحريك الشارع !
عندما غزا صدام الكويت جرى التعميم على الصحافة بشن حملة ضد القارونيين الاغنياء، وتغذية غرائز الصراع الطبقي على مستوى الأمة. كان النظام قد أفقر البلد بحماقاته العسكرية، واحتاج الآن الى حماقات لفظية مثّلت حقا شهيته في أن يستولي على ثروات الآخرين. لقد استخدم الالحاق القومي الفاشي زوج (فقر- غنى) عندما احتاج الى الموارد ومن ثم الى الغزو، واليوم تستخدم القوى المحلية في بعض المحافظات هذا الزوج نفسه للتفتيت. إن ثقافة الابتزاز والرقص على الحبال قديمة في العراق. وما يستحق التنويه هنا هو أن الزمن لم يغيّر الكثير من المهارة ومستوى الذكاء واستخدام اللغة، فلا أحد ابتكر حججا مسلية أخرى بل واصل الجميع استخدام العاب قديمة بعد أن أعادوا توجيهها.
في سياق الاستعارات من الخرج الفاشي، قرأت مقالة لأحدهم ينتقد فيها فدرالية البصرة لوائل عبد اللطيف على اسس ستراتيجية طائفية. فهو يرى أن هذا المشروع المشبوه يستهدف "فدرالية الجنوب الشيعية" عن طريق حرمانها من البحر!
إنني أخشى كثيرا من الأفكار الستراتيجية التي يحملها بعض العراقيين الذين ظهروا الى السطح بعد 9 نيسان 2003، فتحليلاتهم شفوية اتخذت من الفضائيات منابر لها، وهي أقل تماسكا مما يكتبه المحللون السياسيون الجدد ، كما أنهم يتدربون على أفكار غيرهم من دون أن يستطيعوا التحكم بغرائزهم المذهبية. فحين يفضحون أفق المشاريع التي يعارضونها يفعلون ذلك بقوة على نحو يفضحون أفق مشاريعهم هم.
في ما مضى كانت الكويت تمنع البحر عن العراق. ومن أجل الخروج الى البحر ألحقت الكويت بالعراق فجرى تدمير الأخير. الا ان فكرة المنفذ البحري، المحملة بعطور الرومانسية والتجارة، ظلت مغرية، وستراتيجية، وتمسك بأعناق الستراتيجيين المصدقين. طبعا هناك اختلاف صنعه الزمن السياسي، فبينما كانت الكويت هي التي تمنع عنّا البحر، باتت البصرة بفدراليتها التي يقودها التجار والوجهاء من أحفاد السندباد البحري هي التي تمنع البحر عن فدرالية الجنوب "الشيعية". الغريب في هذا "التحول النقدي" أن صاحبه لا يشير الى أن فدرالية القاضي تمنع البحر عن العراق كله. لقد نسي العراق تماما بعد أن وظف نفسه حارسا على حدود "الفدرالية الشيعية". وها هنا لب الفدرالية التي تعتمد على الطائفة والمصالح المناطقية الضيقة، فهي في ظروف الاحتلال والصراع تشعر بالتهديد، كما أن تذكاراتها وشعورها بالغبن يجعلها تسعى الى الاحتكاكات لتنزلق بعدها تماما الى نزعة ذاتية متعصبة، وفيما تفتخر بنفسها ستبحث عن البحر فتجد انها ظلمت ، فتطالب بالبر لأنها لا تريد أن تظلم زيادة. إن النزعة المناطقية تبحث دائما عمن تتشاجر معه، فكيف حالها إذا ما باتت طائفية وتشعر بأنها حائزة على مجد ما وعليها الحفاظ عليه ضد الآخرين؟ (اقرأوا علي الوردي!)
هل يجب ان نأخذ ذلك الرأي مأخذ الجد؟ لا ادري حقا، الا أن علينا ان ننتبه ، فهذه الافكار تطرح في بيئة غير مستقرة تغذيها قوى الاحتلال والاطماع الاقليمية، ما يجعلنا نقلق منها. لقد سمعنا أن فدرالية الجنوب هي مشروع اداري وليس طائفيا ، وسمعنا تأكيدات على ذلك. هذا يطمئننا بعض الشيء، بيد ان الواقع الديموغرافي المذهبي له ثقل ضمن التوزيع الحالي. لقد كان له ثقل في الانتخابات، أي في صلب السياسة، فلماذا سيخف ثقله ويتحول الى لون من الوان التنظيم الاداري؟ ما الضمانات في هذه العجاجة العراقية التاريخية -الاجتماعية المليئة بالمشاكل والتعاسات؟ إذا كانت المحاصصة حولت الوزارات الى نوع من الفدراليات ( هذه لك وتلك لي) فما الذي ينتظرنا عندما نتوغل في الفدراليات الاقليمية؟
إن هذه الشكوك لها محكات واقعية، فالدولة المركزية التي يراد تقليم اظافرها ليس لها أظافر بعد ، بل ليس لها أصابع ، كما انه لم تجر حتى الآن تحولات ملموسة في العراق كله على مستوى القاعدة الثقافية والقانونية والسياسية، وعلى الجملة لم تصبح الديمقراطية ولا تنظيماتها المؤسساتية هي القاعدة السياسية للمجتمع. إن دولتنا مصنفة على انها من الدول الفاشلة ، وانها من الدول الاكثر فسادا، من هنا ستبدو الفدرالية هروبا من مشكلة اعادة البناء الاساسية التي تحظى برتبة وطنية استثنائية. انها ستبدو كذلك صورة مضحكة لفرار تقوده النخب المناطقية مع الادعاء بأنها من طينة خاصة قادرة على تجاوز المحنة لأنها من هي ، وضعت مركزية المركز خلفها نحو حرياتها الفدرالية.
أخشى ما اخشاه من هؤلاء الظافرين أن يعملوا في سوق التجزئة الشعبوي، عندها علينا ان نقرأ الفاتحة على العراق الذي سيباع قطعة قطعة للاولغارشيات المحلية وعبرها الى دول الجوار وما بعد دول الجوار ناهيكم عن شركات الاستثمار النفطي وغير النفطي.
العراق في وضع لا يحسد عليه: احتلال، ادارة امريكية جديدة منزعجة مما حدث، يحتل فيها صاحب المشروع الفدرالي على اسس طائفية المستر بايدن منصب نائب الرئيس، قوى اقليمية تتآمر عليه وتريده على هواها، انقسامات طائفية وسياسية ومناطقية، تراجع اسعار النفط ، خراب اجتماعي واقتصادي، عقد سيكولوجية، عشرات الالوف من خبرائه وتقنييه ومهندسيه واطبائه ومثقفيه هاجروا أو في طريقهم، والسادة الفدراليون غاضبون على المركز ويطالبون بحصص أقاليمهم من الوليمة !                    


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  وليد الحيدري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni