... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
البحث عن «ألبينا»

علي الشوك

تاريخ النشر       08/07/2009 06:00 AM


                                    (لا علاقة للصورة بهذا الموضوع)
في صيف 1983 كنت ضيفاً عند صديقي سالم وزوجته خولة، في لندن. كانا يقيمان في شقة فاخرة في بداية شارع كوينزوي من جهة بيزووتر. كان مضيفاي موسرين، وأحبا أن يستضيفاني مدة شهرين كاملين. وكنت أُعامل بكل مظاهر الود والإكرام. (فالصديقان لا ينسيان أنهما تعارفا الى بعضهما في بيتي ببغداد، فكنت أنا بمثابة عراب لزواجهما).
في أحد أيام إقامتي عندهما أخبرتني خولة بأن صديقتها ناديا، التي كانت زميلتها في مدرسة الراهبات، ستزورها. وفي مناسبة وجودي، قررت خولة إقامة وليمة عشاء لنا. وفي يوم الزيارة تم التعارف بيني وبين ناديا. وطبعاً، أخبرتها خولة بأنني كاتب. فعلقت ناديا على الفور: «جميل، ماذا تكتب، أستاذ هشام؟».
قلت: «أنا لا أزال في طور التجريب، مع أن كتابين ونصفاً صدرا لي».
ضحكت ناديا، وقالت: «هل نشرت نصف كتاب، حقاً؟».
«آه، إنه كتيّب صغير في واقع الحال».
«ظريف، أستاذ، وأحسب أن زيارتك الى بريطانيا لغرض ثقافي؟».
قلت لناديا: «إذا شئت الحقيقة، كان الغرض الثقافي في المرتبة الثانية».
«وما هو الغرض الآخر، أستاذ؟».
ضحكت وقلت: «غذائي، أو طعامي!».
«أنا لا أفهمك، أستاذ».
«نعم، أنت على حق. أنا جئت في الأساس لأستمتع بوجبات خولة، الشهية، في المقام الأول!».
هنا أطلق سالم ضحكته المجلجلة، وقال مخاطباً ناديا: «أنت لم تعرفي بعد هشام وألاعيبه».
«هذا شيء ظريف». قالت ناديا: «ولا بد أننا سنستمتع الليلة بوجبة عشاء لذيذة، كما عودتنا خولة».
«بالعافية». قالت خولة.
ثم سألتني ناديا: «وهل لي أن أعرف ما هو الغرض الثقافي الذي جئت من أجله، أستاذ هشام؟».
قلت لها: «إذا شئت الحقيقة، أنا جئت أبحث عن الإلاهة البيضاء».
التمعت عينا ناديا، الزرقاوان بالمناسبة، وقالت: «هذا مثير للاهتمام جداً، أستاذ. وهل عثرت عليها؟».
«نعم».
قالت ناديا: «هل يمكن أن تنورنا، أستاذ، أين، وكيف؟».
قلت: في واقع الحال، كنت قد وقفت على خبر عن الإلاهة البيضاء، في مصدر فقدته، أفاد بأن الإلاهة البيضاء كانت قد حطت رحالها أخيراً في بريطانيا. وبعد البحث والتحري، اكتشفت أن اسم بريطانيا القديم كان يُدعى ألبيون. وهذا الاسم (ألبيون) مشتق من (ألبينا)، أي الإلاهة البيضاء. فبريطانيا كانت بلد الإلاهة البيضاء. وهذا حل الكثير من الألغاز التي كانت غير واضحة في ذهني.
سألتني ناديا: «كيف، أستاذ... أنا ممتنة جداً لصديقتي العزيزة خولة، التي أتاحت لي الفرصة بالتعرف إليك. فأنا أرجو أن أستفيد منك، لأنني أُعدّ أطروحة للماجستير في جامعة ردنغ، هنا، عن الهكسوس، بما في ذلك هجرتهم العكسية من مصر، بعد أن طُردوا منها، ونزوحهم الى بلاد الشام، وإيجة، واليونان، ويقال إن فلولاً منهم وصلت الى بريطانيا. فهل سأطمح في أن نتحاور حول هذا الموضوع... مع الاعتذار، لأنني قاطعتك عند حكايتك عن الإلاهة البيضاء».
قلت: «أنت دخلت في صلب الموضوع. فلا بد من أنك معنية بالبحث عن أصل الدانيين، أيضاً، المرتبطين بالهكسوس».
تهللت أسارير ناديا، وقالت: «بالضبط، أستاذ. حقاً إنني سعيدة جداً بهذا اللقاء».
قلت لناديا: «ويا لها من صدفة، فألبينا، أي الإلاهة البيضاء، كانت من أقدم النساء الدانيات اللواتي خرجن من مصر. وطبعاً، نحن نتحدث بلغة هي مزيج من الأسطورة والتأريخ».
قالت: «أنا أحب الأسطورة، أستاذ».
«وأنا كذلك».
«وسيسعدني أن نتعاون في هذا الإطار. هل زرت مكتبة SOAS (معهد الدراسات الشرقية والأفريقية)؟».
«للأسف، لم أزرها بعد».
«سنذهب إليها سوية، إن لم يكن لديك مانع. أنا مشتركة فيها».
«سيسعدني ذلك».
«إنها منجم من المصادر، كما تعلم... لكننـي قـاطعـتـك أكثــر مـن مـرة. نـعم، مـا حكايـة الإلاهة البيضاء وتشعباتها؟».
قلت لناديا: علمت هنا، بعد التحري، أن (التلة البيضاء)، وانتبهي الى الاسم، أو (تلة القلعة)، في لندن، لا تزال تحتفظ بذكرى «ألبينا». وقد بُنيت هذه القلعة في عام 1078 على يد الأسقف غندلف.
«هل أقدم الطعام الآن؟». قالت خولة: «على أن لا تدعا شيئاً يفوتني من حديثكما. أنا أعرف أن هذا اللقاء سيكون شيقاً ومفيداً».
بعد أن قدمت خولة الطعام، وكان فاخراً كالعادة، قلت وأنا أخاطب الجميع: قد لا تعلمون أن الإلاهة البيضاء كان لها حضور واسع النطاق، من لبنان حتى بريطانيا. وفي اليونان كان يقال لها (ألفيتو)، التي كانت في الحقبة الكلاسيكية تُعتبر إلاهة الشعير الدانية في أرغوس. وها نحن نعود الى الدانيين (الخارجين من مصر). وحتى مدينة ارغوس اسمها يقترن بالساميين، الذين كان لهم حضور في اليونان. لكنني لا أريد أن أتشعب كثيراً.
قاطعتني ناديا: «لكننا نريد لك أن تتشعب، أستاذ».
«لا! لن آخذ حريتي، فأنا بحاجة الى من يصفدني عندما استطرد!».
«آه، أستاذ، ما أظرفك!».
«طيب، أعود الى إلاهتنا البيضاء، وأقول إن اسم نهر Elba في إيطاليا جاء منها، وكذلك اسم إله النهر Alpheius اليوناني، أي (الأبيض)، الذي جرؤ على مطارحة الإلاهة أرتميس الغرام، كما تقول الأسطورة، ولاحقها من أقصى اليونان الى أقصاها، وهي كناية عن جريان النهر... آه، لكنني سأستطرد هنا، فأنا مولع بالأسطورة، كما قلت، وأقول: في مصب النهر عمدت أرتميس الى تجصيص وجهها، ووجوه صويحباتها الحوريات، بالطين الأبيض، لكي تستعصي على ألفيوس معرفتها من بين زميلاتها. وكما ترون أن كل شيء هنا أصبح أبيض، بفضل الإلاهة البيضاء، (ألبينا). وأنا إنما استطردت هنا لأن ظاهرة تجصيص وجوه النساء في اليونان، ذكرتني بالطين خاوة (الأبيض)، الذي كانت نساؤنا في العراق يجصصن به شعورهن عند الاستحمام. هل تذكرين ذلك، خولة؟».
«وكيف لا أذكره، وكانت أمي تجصص شعري به؟».
«طيب»، قلت لجلسائي: «ولا ينبغي أن يفوتنا اسم (لبنان)، الذي يعني البياض. أما لماذا، فلأن جزءاً من السلسلة الشرقية من جبال لبنان مكسو بثلج دائم، أي أبيض. وبالعربية كان يقال للبنان أيضاً جبل الثلج. وهكذا، ان اسم لبنان، واسم بريطانيا القديم، ألبيون، واحد، ويرجع كلاهما الى مادة (لبن) المشتركة بين اللغات السامية واللغات الهندية - الأوروبية. وكلمة (لبن) لها عدد من المعاني في اللغات السامية، منها: «الحليب»، و «الطين»، و «الآجر»، و «اللون الأبيض». لكن الكلمة في معظم هذه اللغات تذهب الى معنى البياض. وكلمة (لون) في اللغة اليمنية القديمة هي المقابل لكلمة (لبن) في بقية اللغات السامية، وتعني (أبيض) أيضاً. وأنا أعتقد أن هذه اللفظة هي أصل كلمة «اللون» في العربية الحالية».
ثم قلت: «كما ان اسم جبال الألب مشتق من هذه المادة أيضاً، وهو باللاتينية Albos. وقد سميت جبال الألب بذلك على غرار جبال لبنان... وسأتوقف الآن، لئلا يبرد الطعام!».
لكن نادية عقبت بلهفة: «ولن تنسى، أستاذ، حديث الهكسوس والدانيين. وسأدعوك أنا لاصطحابي الى مكتبة SOAS، والكافتيريا المقابلة لها. هل لديك مانع؟».
«على العكس، سأكون في غاية السرور».

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي الشوك


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni