... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الكـتـابـــة الـنـسـائيــة في خــصــائــص الــزمـــان والـمـكــان

سميرة المانع

تاريخ النشر       09/08/2009 06:00 AM


ابتعدنا كثيراً عن الروائية البريطانية جين اوستن ، التي عاشت قبل مائتي سنة تقريبا ، حين كانت تسرع ، لإخفاء أوراقها تحت منضدة المطبخ ، أثناء دخول زائر ما ، لتعاود تقشير البطاطس . إلا أن هذا لم يمنع كاهناً معاصرا لها يُدعى لويس ، من التذمر حول لجوء المرأة  إلى الكتابة قائلا متبرما :
" لدي مقت ورثاء وازدراء لكل النساء المخربشات، إن ابرة الخياطة لا القلم هي الآلة التي يجب أن يتعاملن معها ، وهي الوحيدة التي هن قادرات على استعمالها ." ليس صعبا علينا الآن معرفة من بقي من الاثنين خالدا. مَن بقي في الأرض نافعاً ومَن ذهب جفاءً .على ِغراره ، عندما شعر ابو الثناء الآلوسي ببغداد في نهاية القرن التاسع عشر، برغبة المرأة في الكتابة، انبرى ،مؤكداً في إحدى مخطوطاته  المعنونة ( الإصابة في منع النساء من الكتابة) وهي موجودة ، كما يُذكر ، في مديرية الأوقاف العامة ببغداد، محذرا من النساء وتعلّم الكتابة بما يلي :" فأما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله  إذ لا أرى شيئا أضَّر منه لهن ، فإنهن لما كنّ مجبولات على الغدر ، كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشر والفساد .

وأما الكتابة ، فأول ما تقدر المرأة على تأليف كلام بها ، فإنه يكون رسالة إلى زيد أو رقعة إلى عمر وبيتاً من الشعر إلى عزب وشيئاً آخر إلى رجل آخر ، فمَثل النساء والكتب والكتابة كمَثل شرير سفيه تُهدي إليه سيفا أو سكير تعطيه زجاجة خمر ، فاللبيب من الرجال من ترك زوجتَه في حالة من الجهل والعمى فهو أصلح لهن وانفع".
اتفق الرجال في الماضي، على مايبدو ، وهم قلما يتفقون ، على الرغبة في حرمان المرأة من الكتابة . بالرغم من ذلك ، شقت المرأة طريقها بصبر ودأب، وبدرجات متفاوتة، في كل أنحاء العالم، وكأنها جذر نبات حي مثمر، لتتحرر من قيودها تدريجيا، ومن الضغوط والحواجز التي خلقها البشر فيما بينهم ، اولئك الذين انهمكوا طيلة العصور المدونة  في التأريخ ، على قتل أولادها وهم لا ريب أولادُهم، من أجل كلمات أو بضعة كيلومترات من الأرض أو من أجل أشياء أخرى وجدت لتزيد من نزاعاتهم واختلافاتهم .
القرن العشرون هو قرن المرأة عن جدارة، متزامناً مع دخول العلم الحديث لبيوت بعض النسوة  للتخفيف عن أعبائهن المنـزلية التي نادراً ما تنساها ذاكرتُهن . تبارت بعضهن في طرح أفكارهن وتصوراتهن عن طريق الكتابة، مندهشات ،أحيانا ، من الكيفية التي  وجدن بها هذا العالم المضطرب ، اللاعابىء ، الذي يقاسي فيه الإنسان من ظلم اخيه الانسان،  والأخير مجنون مغرم بالحروب بسبب الصراعات على أنواعها، ولاسيما الدينيةُ والعقائدية، المتوجه لدور البغاء واشباهها، الساعي لتدمير البيئة الطبيعية ، المتكالب على السلطة والمال . استعملت المرأة ، كما الرجل من قبل ، شتى أنواع الكتابة عندما تعلمتها، فمن الشعر إلى القصص  والروايات ومن السير الذاتية إلى البحوث في المواضيع المحرمة والخطرة. صار العنصر النسائي ، في أحيان كثيرة ، يشدّ أزرَ الرجال المنصفين الحكماء ، المنادين بضرورة التآلف بين البشر والمحبين للعالم أجمع . وبينما روايات جين اوستن ، التي امتعت أجيالا واغنت الصور المرئية والمسموعة إلى الوقت الحالي ، لم تتطرق إلى حروب نابليون الدائرة رحاها باوربا زمانَها ، لكنها استطاعت البحث عن السلوك الممكن المعقول للإنسان ،ساعية في الوقت نفسه كي  تجعله يحس بالجمال والقبح، بأسلوب ذي خلطة كوميدية  درامية ماهرة ، رغم أنها تحكي عن بيئة بيتية ضيقة ، وعلاقات عاطفية بين الجنسين . وعلى منوالها، بعدئذ ، استطاعت الكاتبتان اميلي برونتي البريطانية وكوليت الفرنسية هزّ أعمدة المنازل المنخورة بالبلاد الاوربية على الرغم من اللامبالاة في ادبهما. فالأخيرة ،كما يقول بعض النقاد، استعملت  البيت كقلب  في انبساطه وانقباضه ، تحاول دقاته إرواء العالم .
تظهر شكوى بعض النسوة ،في أحيان أخرى،  باسلوب خفي، إذا حرمن من أوطانهن واهلهن، لتفرض الغربة والوحدة عليهن بسبب النـزاعات اللادخل لهن بها، كما حصل في القرن العشرين، أنهن يصفن قسوة الحياة العصرية في العالم بكل تشذرها واقتلاعاتها وملصقاتها ، جاعلاتٍ الفن وسيلة شاملة لتوضيح مناطق الشعور والأحاسيس عند الإنسان عموما وليس لتصوير اشياء  شخصية خاصة، البعد عن أوطانهن عدسة يرينه فيها بصورة أشمل واكثر وضوحا . هذا الشمول في الرؤية استطاعت فيه، على سبيل المثال، عفاف كنفاني ، اللبنانية الأصل المتزوجة من فلسطيني ، وهي في الثمانين من العمر الساكنة في كاليفورنيا ، أن ترى وطنها والعالم حوله عن طريق سيرة حياتها .تلك الحياة الباذخة بالتضحية والإقدام ، بالإرادة الحرة وروح الأمل فعلا! لا عجب إذا كان عنوان الكتاب ( نادية : أسيرة الأمل ). لم تكتب هذه المرأة بأنانية لإثبات وجودها فقط، وانما لإثبات وجود الآخرين ايضاً . أدركت بثاقب غريزتها الأنثوية، أن مصير البشرية واحد، وهي كإنسانة نموذج مؤلم للصراعات التي ذكرتها. ولدت ، كما ذكرتْ في الكتاب ، بعد سنة واحدة من صدور وعد (بلفور ) سنة 1917، حيث أدت مغبة الإساءة في تطبيقه حتى هذه اللحظة، ليحصد الظلم أجيالا من شعبها وعموم أبناء المنطقة العربية .
 بدورها، تدلنا راشيل كارسون  Rachel Carson، في كتابها : (ربـيع صامت)  ، عما حلّ ببقعةٍ واعدة خضراءَ بوسط وطنها في الولايات المتحدة الأميركية ، لقد اسُتغلتْ تلك البقعة لدرجة الإنهاك ، بعد أن ُسلطت عليها أنواع الأسمدة الكيمياوية ومبيدات مكافحة الآفات الزراعية المستعملة بلا تحفظ.  صمتت تلك البقعة وأمثالها في موسم الربيع وحُرمت من أغاريد طيورها المقيمة والمهاجرة وأسماكها السابحة  بمياهها العذبة ليصبح ربيعها صامتاً للابد. إن نظرة المرأة الشمولية للكون لا تخفى بالنسبة لهذه العالمة ، المؤسسة الأولى لحركة الحفاظ على البيئة الطبيعية من التلوث بالعالم أجمع ، هداها تفكيرها العميق إلى ما ينفع الناسَ جميعاً دون مصلحة شخصية لها ،  فاسرع أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرون في الشركات الكبرى لإسكاتها محاولين منع نشر كتابها سنة 1963خائفين من الفضيحة المدوية .لقد دعتْ ، آنذاك ، إلى  طريقة جديدة في  التفكير ، ليس في عدم استخدام المبيدات الكيمياوية العشوائي فقط، ولكن إلى علم وفلسفة جديدين للبشر، مؤكدةً : "أن إضافة المبيدات الكيمياوية للمياه في اية بقعة من العالم ستلوث المياه في المناطق الأخرى حتماً ، ومن يدعي العكس هراء في هراء ".      
على أية حال ، لحسن الحظ لم يستطع الكاهن لويس ولا الآلوسي منع المراة من الكتابة في القرن العشرين ، والا لما سمعنا إلا قليلا عما يجري في بعض الاوطان ، الذي بعضهم قلما يتطرق اليه من كثرة  الانهماك في التستر والتخفي وغض النظر . ولو كان الآلوسي وامثاله أحياء، أيضا ، لما ظهرت أمثال الشاعرتين نازك الملائكة وفدوى طوقان ، وبالتأكيد لن يتسلم أحد من الرجال رسالة غرامية ! 
وكما كان القرن العشرون الفترة التي استطاعت فيها المرأة تحقيق احترام وجودها الفكري ،فلا يجرؤ أحد ، الآن ، على الآستخفاف بعقلها ، إلا في المجتمعات المتخلفة الجاهلة التي ما زالت متشبثة بقرونها الوسطى ، كانت نهاياته ، أي في التسعينيات منه على وجه التقريب ، فترة الإكثار من آستدراجها مرة اخرى ليكون جسدُها أداة تسلية ، مهملة الجانب العقلي فيها . إنه قَرن الآستهلاك والأسواق  المغرية، عصر الفضائيات الهوائية المرئية الداخلة على البيوت كالادمان .لم تبعد القارئ عن المطالعة فقط، بل أخذت والهتْ الكاتب معه. لم يعد الأخير منـزويا في صومعته ، كما يقال ، يتأمل العالم بمفرده مع من يرغب من زواره ، كلاً من وجهة نظره واجتهاده . صارت الساحة مفتوحة لجميع الآراء ، من النادر التخلص من تأثير الأضواء والضوضاء وهو/ هي في حالة مقاطعة دائمة من قبل وسائل الإعلام، تقتحم العزلة في غرف الجلوس والنوم  بالبيانات والقرارات العشوائية والأخبار المريعة المفزعة.
عدو الكتابة اليوم، بشكل خاص ، متربص بالكاتبة العربية ، لاسيما عندما تتسطح بعض برامج الفضائيات الأدبية ، حيث يديرها أناس لا علاقة لهم بموضوع الكتابة الفنية ،  فيلتجئون إلى تقييم الفن بالعلاقات الشخصية العامة أو لجمال المرأة وملابسها ، العادة التي لم يتخلص منها الجنس البشري بعدُ . هنا تفوت اللعبة على بعضهن ويستولي هلع حب الظهور والشهرة،  لتمتد رغبتهن إلى مجرد إظهار صورهن على الشاشة أو في المجلات وأغلفة الكتب الملونة ، مكتفيات بالقارئ العابر على الواجهات  الزجاجية من أجل النجاح السريع.
  في عالم اليوم المملوء باللغط والصياح، بالقلق والعنف وضيق الصدر،  لاندري ماذا يدفع المرأة والرجل الى الخوض في لحظة فضاء الكتابة والتزاماتها. حين يُمسك القلم – قبل الحاسوب -  ليبدأ بتسطير أفكاره/ أفكارها .أيظل التعاطف الشديد والرغبة في المشاركة الروحية بشكل خافت وهادئ سبباً وجيهاً للكتابة ؟ لمَ لا يكتفي البعض بالسكوت بعد أن يسمع ما يشبه هذا البيت  لشاعرنا المتنبي حين يقول :
                   فليت هوى الأحبة كان عدلاً     فحمّل كل قلب ما أطاقا
  فيُظهر انفعاله باللاعدالة في بيت شاعري رومانتيكي حسب ؟!.
الاحتمال أن يكون الساعي/ الساعية، لفهم هذا النص وأمثالِه، المتأثر به، المتعاطف معه ، على الرغم من صغر السن أو عدم الوقوع في تجربة الحب بعدُ، الأقدر على الاحتجاج والاستغراب والدهشة ، في المستقبل، عما يجري له أو لغيره من أمور لا يقبل السكوت عنها صامتا . هؤلاء الحالمون/ الحالمات ُيسمون بالمشاغبين/ المشاغبات، في نظر المنتفعين الأنانيين  اللآعابئين من بؤس البشرية وآلامها. يظلون المعذبين  بسبب الدجل والقسوة والظلم ، الساعين إلى عالم اكثر نقاءً وعدلا، لا يستطيعون أن يصمتوا  صمتا تاما ، ولو حاولوا تكميمهم .يظل هؤلاء غرباء عن هذا  الكون ، على الرغم من شعورهم بالحاجة للمشاركة في معاناة الأنسان والحيوان والنبات والجماد .

* نص المداخلة التي أُلقيت في  الدورة الثانية للملتقى الدولي الثاني ،بتنظيم من اتحاد كتاب المغرب ، تحت عنوان "المرأة والكتابة : ذاكرة المكان " المنعقد في مدينة آسفي بالمغرب.

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سميرة المانع


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni