... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
لطفية الدليمي: أختلق بلداناً ومنازل بعد أن فقدنا ما يسمّونه وطناً

عناية جابر

تاريخ النشر       07/09/2009 06:00 AM


لطفية الدليمي من وجوه الرواية العراقية، اعمالها تجول بين الشعر والواقع، بين الحياة والفانتازيا، عملها الأخير يوميات المدن سيناريوهات روايات عدة. اضطرت الى مغادرة العراق والتشرد في العالم قبل أن تستقر في الأردن، كان لنا معها هذا الحديث:

معروف عنك ندرة اطلالاتك الإعلامية رغم وفرة نتاجك. أين أنت؟ ولماذا البوح الآن؟ أخبرينا قليلاً عن حياتك، صداقاتك وما يحلو لك إخبارنا؟
ـ على حد البوح النرجسي تنقض الكاتبة عزلتها وتحكي، لماذا البوح المعلن ؟؟ قلت لا بأس فالكتابة هي بالأحرى دوران منغم حول النفس لاكتشاف صدى الآخرين فينا أو صدانا المطموس في لجج السكوت، أن أتحدث عن أناي المضمرة وأناي المرئية، أقف بين الإثنتين شبه ظل لهما، ظل مزدوج من صورة ومادة كالتي قال بها ابن رشد، فإن زالت واحدة إمحّت الأخرى..
كنت ارتق ثقوب الوقت بالقصص وأزاول تنظيف الذاكرة يومياً لأنسى كل ما هو جدير بالمحو. صداقاتي محدودة ومعظمها من خارج الوسط الثقافي، لي اصدقاء حقيقيون من الرجال بمعنى الصداقة المنزهة النادرة في مجتمعاتنا العربية وأنا محظوظة بهذا.
ـ صديقات من الوسط الثقافي ؟ أمر صار نادرا لفرط ماخذلتني الصديقات وقابلن كرمي ووضوحي بالجحود، بين كاتبة ورسامة وممثلة، لا فواصل بين كتابتي وبين حياتي: لطفية الكاتبة هي ذاتها الإنسانة، لا أتخفى وراء أقنعة في الحالين، من هنا يصعب عليّ التواصل مع مجتمع حاشد بالأقنعة. تسامحي الفكري وقبولي بالآخرين على ما هم عليه طريقتي الوحيدة لصنع سلام الروح ومحنتي ايضاً، أفيض محبة وحنواً على من حولي ولا أنتظر مقابلاً، أحقق كينونتي بما يفيض عني لا بما أكتنز وأقتني...
من أجل أن أتحايل على بقائي المادي في المكان صرت اختلق وطناً ومنازل وغرفاً وحدائق وأفقدها تباعاً، شفيت من شهوة اقتناء الأشياء، صرت خفيفة ومتحررة من عبء التملك، أحطّ أينما أشاء دون ان أخشى على ممتلكات وماديات زائلة، توصلت الى هذا الموقف بعد ان فقدت بيتي ومقتنياتي وما يسمونه وطناً. أغلقت الباب ورائي وخرجت في نزهة خطرة، عائمة في موج الزمن، وثمة ما يهبني ثقلاً للتلبث في أرض البشر: الكتابة، الحب، الموسيقى، الكتب، كنوز لم أرثها ولم أحصل عليها كجائزة متفق عليها أو هبة سهلة بل حزت عليها بشغفي المثابر، أجتاز مأزق الحياة بما أستمده من هذه الكنوز.. الموت؟ يخيفني احياناً واتجاهله عندما يغمرني العالم بالحب، رأيت وفرة الموت طوال ثلاثين عاماً من الحروب لذا ألوذ بالحب وأغتني به روحاً وإبداعاً، عشت وشهدت وقرأت وترحلت وكتبت وأحببت، ومازلت أفعل كل هذا ولا أتورّع عن المجازفة كل يوم..
في بغداد - قبل الحرب وبعدها كنت مهووسة بالعمل لا شيء و لا أحد يشغلني عن الكتابة ومجاورة أحبائي في حالاتهم القصوى: كاواباتا في ابداعه العالي وانتحاره ودي سانت اكسوبيري في اختفائه المأساوي وجلال الدين الرومي في عشقه ونيتشه قبل الجنون وبعده والحلاج بعد صلبه وكاتب الملاحم السومرية الذي محوا اسمه وازرا باوند في حبسه فيرجينيا وولف في رحيلها المائي ـ ترجمت بعضاً من يوميات فيرجينيا في فترات جنونها ولم أكمل مشروع ترجمتها لتنقلي بين البلدان ـ صباح الحرب المحفوف بالنار لم يكن يحول بيني وبين العناية بحديقتي وانا أجمع اغلفة الرصاص المتساقطة على ممرات الحديقة من قتال الليل، أخرج الى عملي وسط التفجيرات واطوف بغداد بلا تحسب من موت متاح، أكتب ليلاً على هدير مولدات الكهرباء ورصاص القاتلين، أكتب في رواية او نص، جاعلة من الموسيقى درعاً افتراضياً يصدّ عني هلاكا ًوشيكاً، ارتجف بين ارتباك وحدتي واشتغال المخيلة ولعنة الحرب..
بعد مغادرتي بيتي البغدادي ـ وتشردي سقطت عاداتي اليومية في الإهمال، فبدل أن اكتب شعر الطبيعة زهوراً وأحتفي بالجمال الهش لنبتة زائلة، صرت أختلق حديقة افتراضية على الحاسوب، أجمع مئات الصور لزهور ونباتات بكماء لا تستجيب للمستي، وبعد أن كنت أستغرق في سماع الموسيقى الخالصة لساعات وأواصل الكتابة معها صرت أنصت لمواويل عراقية جارحة من مغنين شعبيين لم أعبأ بسماعهم من قبل، وعوض التأمل و اليوغا، أسير وحيدة في طرقات المدن، وأعود لأكتب صفحات من الرواية او أضيف فصلاً لكتابي (رسائل الحرب والمنفى) وبين هذا وذاك اكتب مقالات ونصوصاً، أخرج احياناً لمشاهدة عرض مسرحي او معرض تشكيلي او لقاء أصدقاء في مقهى، أما ماعدا ذلك فرهبنة في الوحدة وتكريس كامل للكتابة..

 حديثنا عن سفرك في العالم؟
ـ في باريس أمضيت تسعة أشهر ضيفة على بيت الصحفيين في الحي الخامس عشر، وفي هذا البيت عشت مع صحفيين وصحفيات من كوبا وتركيا والكونغو واريتيريا واثيوبيا وباكستان وأرمينيا ـ أي من جميع الدول التي يعاني مواطنوها من عوز في حقوقهم الاولية ودونت قصصهم الفريدة التي ستظهر في كتابي الحرب والمنفى وأواصل دراسة اللغة الفرنسية في بيت الصحفيين، وكانت معلمتنا السوداء (دارلين ) الاميركية - الفرنسية من ميامي تفيض علينا بإنسانيتها ومرحها وتأخذنا في جولات ثقافية الى متحف دارسي او مركز بومبيدو او مقبرة بير لاشيز او الى كنائس تضم رفات ملوك فرنسا او نمضي نهاراً في المكتبة الوطنية او قصر فرساي. وفي كل ذلك كنت الغريبة المحزونة التي اقتلعت من حياتها ورفاهها والقيت مع الغرباء تعيش كفاف يومها لاجئة وحيدة - بعدها استأجرت غرفة - ضمن شقة مشتركة يملكها برتغالي - مع رجل كولومبي وصحفي من تنزانيا تقع في ضاحية فقيرة تعجّ بالمجرمين والعصابات وهناك تعرضت لهجوم من ثلاثة شبان سود تابعوني حتى باب العمارة وطرحوني أرضاً و سلبوني «اللاب توب» وأوراقي وضربوني، وأيقنت ساعتها انني ميتة لا محالة فقد يطعنني أحدهم، لكنهم اكتفوا بسرقتي في منتصف النهار الباريسي ولم يتقدم أحد لنجدتي، كنت قوية بشكل لا يصدق وتشبثت بحقيبة يدي التي احمل فيها الاقامة ونقودي والموبايل، وتركوني والكدمات الزرق على جسدي ووجهي، قال لي الضابط حين أبلغت عن الواقعة:
ـ مدام ماكان لك ان تسكني هنا حيث تقع يومياً نحواً من خمس عشرة جريمة في الحي..
طلبت من منظمة مراسلون بلا حدود حمايتي او يساعدونني لإيجاد سكن أمين لي او العودة الى العراق، لكنهم لم يفعلوا شيئاً غير حجز فندق لمدة اسبوع، وليس ثمة من يهتم لأمري هنا حتى لو قتلت في وضح النهار، نجوت من الميليشيات لأقتل بيد عصابات فرنسية..
عندها قررت البحث عن سبيل للخروج من فرنسا. حينها أقمت شهرين عند الصديقة العراقية الباحثة في الموسيقى الدكتورة شهرزاد قاسم حسن وانتقلت بعدها للعيش في بيت ريفي لصديق عراقي وزوجته الفرنسية في مقاطعة فونديه لثلاثة اسابيع ثم سافرت الى ابني المقيم في بيرن بعد ان حصلت على الإقامة الفرنسية، ونتيجة الهجوم من عصابة السود كنت مصابة بالهلع /افيق وانا اصرخ كل ليلة. اصبت بالتهاب العصب السابع ولبثت اتعالج ثلاثة اشهر في بيرن ثم عدت الى باريس أتنقل بين الفنادق الرخيصة وبيوت صديقات ووصلتني دعوة من (المركز الدولي للإعلام وحماية الصحفيين) في الدوحة الذي كان يرأسه مسيو مينار رئيس منظمة مراسلون بلا حدود ـ للاقامة ثلاثة اشهر في المركز وإنجاز كتاب عن اوضاع الصحفيين في العراق تحت الاحتلال، لكن السلطات القطرية رفضت منح التأشيرة لكاتبة عراقية معروفة تحمل جواز لجوء ومنحتها لصحفية صومالية صغيرة وأخرى أفغانية..
وقدمت طلب تأشيرة لزيارة مصر بدعوة من رئيس اتحاد الكتاب العرب الاستاذ محمد سلماوي، لكن طلبي رفض للسبب ذاته كوني عراقية أحمل جواز لجوء فرنسياً، عندها قررت فوراً العودة الى الاردن والتخلي عن حالة اللجوء المذلة التي أوصدت امامي سبل الحياة والنجاة، ومنحتني الاردن التأشيرة فتركت كل شيء في باريس وحملت حقيبة خفيفة وطرت الى عمان التي رحب بي أهلها ومثقفوها وحصلت على حق الاقامة في الاردن - البلد العربي الوحيد الذي أكرمني وحماني. وكانت لي محاولات اخرى للحصول على تأشيرات من تونس والمغرب دون جدوى ..
وهنا استعدت قواي ومارست آلية النسيان لكي أبدأ كل يوم من جديد..

 من هم كتّابك المفضلون؟
ـ جنبتني نزعتي التأملية في عزلتي وزهدي ـ خوض الصراعات والنزاعات والمنافسة القاتلة التي تحفل بها الأوساط الثقافية ـ لا يعنيني حضور المهرجانات والمؤتمرات واعتذر عنها دائماً وعن أي لقاء تلفزيوني، تعلمت من كاواباتا الياباني عدم الاعتداد بالشهرة التي تولد الخواء، وتعلّمت من اريك فروم ان اكون بما انجز لا بما املك، وتعلمت من هيرمان هيسه أكثر من أي كاتب آخر، وتعلمت من نيكولاي بردائيف ان اتخطى الماضي واتجه للمستقبل فحياتي زاخرة بالدراما والعاطفة، تناوبت عليها النشوات والأحزان، تأثرت كثيراً بألبير كامو في كتابه الإنسان المتمرد، وبالحلاج في جرأة بوحه بما يرى وبابن رشد في عقلانيته، أقرأ كتب علي حرب بمتعة وشغف، ويعجبني من الروائيين العرب ربيع جابر من لبنان ورجاء عالم من السعودية وعبد الحكيم حيدر من مصر، لاختلافهم وزهدهم بأضواء الإعلام التي تفسد نضارة الأدب الجميل، يمتعني تفرد أساليبهم ولغتهم التي لا تقلد أحداً، أحسني اقرب اليهم في اختفائهم واختلافهم، أقرأ لباموق وزادي سميث ودوريس ليسنغ وايزابيل الليندي وساراماغو، يسحرني الشعر الشغوف بالبساطة والجموح والحلم.

 كتابك «يوميات المدن»، مجموعة نصوص تصلح كل منها على حدة، أن تكون رواية، أو تأملّ طويل في الأشياء يبلغ حدّ الرواية المتكاملة..
ـ لعله كذلك، فقد هيمن على نصوصي خلال أعوام الكوارث والتيه الكبير ـ هاجس الكتابة المفتوحة ذات المنحى التأملي، ولكوني مشردة بلا بيت ولا مستقرّ وأجهل أين ستكون خطوتي التالية وما سيكون عليه مصيري في الصباح القادم، تحددت فعالية الكتابة حينها بهذا الطراز من النصوص التي تتخذ شكل فصول روائية عن عالمي المتشظي... لقد التقطت بذائقتك البارعة موضوعة النسق الكتابي الراهن لدي... الكتابة هي انحرافنا عن خط الموت، النص المفتوح يجسد حركية الصراع مع السائد، أن تكتب وفق قاعدة موضوعة مسبقاً معناه أن تخضع للنموذج، للأيديولوجيا، المحددات الفنية عقائد تتقرن بمرور الوقت، والكتابة ترحال فكري وفني حرٌ في المكان والزمان، لا يهمني تحديد النمط الكتابي بل حريتي في تدوين رؤيتي بأسلوب شخصي يشير إليّ، كونت رؤيتي للعالم والكتابة من جماع التأثيرات التي تعرضت لها طوال حياتي من ثقافات مختلفة وأدباء ومفكرين، ليس ثمة أدب يولد خالصاً من رحم المصادفة ولا ثقافة نقية بلا تخصيب وتنافذ مع الآخرين والا ذوت وماتت في انغلاقها، الثقافات الإنسانية هجينة ومخصّبة من ثقافات متزامنة معها أو سابقة عليها..
لعل بعض فصول الكتاب سيغذي أعمالاً روائية جديدة لي وما تنقلي بين المدن إلا ذخيرة لمشاريع كتابتي القادمة..

الموسيقى والرقص والسينما
ـ أعدُّ الموسيقى إحدى مضادات الموت، وهي أعلى مراتب التعبير الإبداعي لدى الإنسان، سواء في الثقافات البدائية أو ثقافات الشعوب المتقدمة، الموسيقى خطاب رفيع يرهف النفوس ويفتح آفاقاً شاسعة لتذوق الجمال والدنو من مفهوم السلام والتآخي بين البشر، وكلما اقترب المرء من الموسيقى - شرقية أوغربية يابانية أو هندية او غجرية - ارتقت روحه وتراجعت النزعات العدوانية وشهوة البطش لديه. لم تكن الموسيقى دوما إلا في مواجهة الحرب وفي صف الحياة والمباهج ..
تعلمين أننا في ظروف القهر الإنساني حيث يكون الموت سيد الأقاليم وحاكم البلدان، نلوذ بالفن، مع إدراكنا أن الفن لا يشكل حلا بل هو لحظة جمال ترجئ النهايات المحتومة، وهو في الأخير يمنحنا العزاء ويعيننا على تحمل المأساة إلى حين ..
كنت تعلمت البيانو في صباي على يد العازفة العراقية البارعة بياتريس أوهانيسيان ثم انشغلت بالحياة والكتابة وهجرت العزف واكتفيت بالسماع، ابني البكر عازف أوبو متخرج من كونسرفاتوار سان بطرسبورغ، زوجي الراحل المخرج السينمائي و أستاذ علم الاجتماع كان يحمل دبلوماً عالياً في الموسيقى العربية. شكلت الموسيقى تفصيلاً أساسياً في حياتي اليومية، لذا يتبدى الشغف بها في المتون القصصية والروائية وتكمن الموسيقى في مستوى جوّاني يعزّز الإيقاع في نصوصي. أما شهوة الرقص فقد حققتها لي ابنتي في دراسة فن الباليه وكذلك ابنتها الصغيرة .
السينما غرام مؤبد، منذ ثلاثين عاماً بسبب تفكك المجتمع بطغيان النزعات العسكرية وصعود خطاب الموت/ حرمنا من ارتياد دور السينما في بغداد كما كنا نفعل في السبعينيات، وعوضنا شغفنا بمشاهدة أفلام الفيديو في بيوتنا، أحب سينما المؤلف: وودي ألن واعمال المخرج ديفد لين وعباس كيا رستمي وأكيرو كيراساوا ولويس بونويل ولدي في بغداد مكتبة افلام كبيرة (لا أدري ما حل بها بعد اقتحام المارينز لبيتي) تضم افضل كلاسيكيات القرن العشرين من بينها افلام اورسون ويلز ومعظم افلام انغمار برغمان وافلام صامتة كفلم مولد امة وفلم التعصب والكلب الاندلسي والمواطن كين وافلام اكيرو كيراساوا العظيم، راهناً اشاهد فلما او اثنين في التلفزيون ويذهلني آل باتشينو وجيسيكا لانغ وميريل ستريب، ولعشقي للسينما درست فن السيناريو على يد المخرج توفيق صالح والسيناريست الزرقاني والمخرج هاشم النحاس في بغداد السبعينيات وكتبت سيناريوهات لأفلام وثائقية عن الموسيقى والحضارة الرافدينية.. السينما سحر العصر الذي لا يوازيه اي سحر..

روايات وقصص ودراسات ونصوص وترجمات ومسرحيات، هل تعيشين حياة بديلة في الكتابة؟ هل من حياة قليلة ما بين إصدار وآخر؟ كيف تعيش لطفية الدليمي حين لا تكون تكتب، وهل يكون عيش يهجس بالكتابة ويتهيأ لها؟
ـ اعيش الكتابة حياة مكتملة فهي النص – المتن وسواها الهامش، لقد صودرت حيواتنا بخاصة نحن الذين تشبثنا بالبقاء في أتون الجحيم العراقي، كنت أقتنص برهات الجمال والحب بين انغماري بالعمل، الكتابة لعبة مثيرة داخل لعبة الحياة الكبرى وكلنا نلعب لننسى حتمية الموت ووحشية البشر وننسى أننا فانون لا محالة، الكتابة والحب لعبتان سحريتان لإنقاذ الروح في برهة سلام أو جموح او هوى نستخلصها من بين براثن العالم المضطرب، الكتابة والحب ركيزتا الوجود ومن دونهما لا تحتمل الحياة..
أوهم نفسي غالباً بأن الكتابة بديل لحياة مبددة وأتعامل معها على هذا الأساس، إنما حين أفرغ من إنجاز رواية أو كتاب أجدني أطفو في فراغ الزمن ويداهم النفس سؤال الحيف: الحياة تتبدّد فماذا أنت فاعلة أيتها المرأة؟؟ يوقظني السؤال المستفز الذي تتوالد منه الأسئلة واضحك من إلحاح السؤال، وبين كتاب وآخر أقرأ ملهاة الوجود والعلاقات المستحيلة التي تكبّلنا الى آمال مبهمة، أدلل نفسي بباقة زهور او شراء مجموعة كتب جديدة، وتلك برهة لا تطول إذ سرعان ما يحاصرني هاجس الكتابة ويزلزلني فلا أراني إلا مضطربة ومحمومة، أفقد شهيتي للطعام والحوار، وتتهشم مفرداتي وأقع في أغلاط لفظية مضحكة في حالة الاستعداد للكتابة وأنا أهجس بعمل جديد، فإذا استغرقتني ملذات النص تشتعل الحياة بين يدي وأستعيد قواي وتوازني، لا أعرف كيف يمكنني العيش بلا كتابة، أصير كائناً حزيناً وصامتاً ومنسحباً وعندما اكتب تتفجر لغتي حوارات وعشقاً وأحاديث وفكاهات وغناء وزهواً بالحياة، لا أجيد الحياة دون وهج الكلمات وحفيف اللغة المغوية، الكتابة مخدر لذيذ يمنحنا القوة لمواجهة الموت والحياة معاً، مراراً أغبط نفسي عليها فمن دونها ودون الحب لا شيء ممكن في حيـاتي سـوى الصمت أو الجنون..

أيضاً في يوميات المدن، جديدك عن دار فضاءات في عمان ـ الأردن، وجدت احتفالاتك الفكرية بإبن رشد وجان كوكتو، كذلك احتفالاتك الجمالية المحضة بمدن عرفتها أو أقمت ردحاً فيها . هل من جمال خارج المعرفة والفكر أحياناً؟ جمال مجانيّ أعني، بسيط وأحمق أحياناً ؟
ـ الجمال متاح في كل ما يحيطنا، جمال الزائل والعابر من الأشياء، جمال النبتة الحمقاء والعصفور النزق والوجوه المجهولة التي تمر بنا خطفاً، لا قياس للجمال ولا معيار لانتشائنا به. نصي عن ابن رشد فعل جمالي وهو رؤيا عبرتني وانا في حمى بلغت بي تخوم الهذيان قبل رحيلي الى فرنسا، وقد فجعني وانا في الاردن سنة 2006 خبر اقتحام المارينز بيتي وتدميرهم حاسوبي والبيانو وعبثهم بمكتبتي وأوراقي وذكرياتي ونهبهم الكثير من الاشياء الثمينة، كنت مهشمة الروح محمومة الجسد ولا أعلم سبب استحضاري لإبن رشد وحواري معه في كوابيس الحمى والقهر، وما أن أفقت حتى دونت تفاصيل الرؤيا وكنت في نشوة غامرة وانا اقرا كلمات ابن رشد وأرتجف تحت الأغطية، النشوة أعلى مقامات الوصل مع الجمال سواء أكان فكرة ام صورة ام إنسانا أم موسيقى ام انحرافاً عن المألوف في صورة او جسد، الجمال كاسح وقادر على إحداث هزة النشوة مهما تنوعت مصادره وتفاوتت تجلياته، جان كوكتو المتمرد كان من الكتاب المفضلين لدي، كما هي أديث بياف بجمالها المأساوي، يسحرني صوتها الشائك وجموحها الأسود..
الجمال ليس رهناً بالمعرفة والفكر وإلا لصار نخبوياً ـ أجده في المطر والشجر وقدح الشاي و الحجر الصقيل والبزاقة الزاحفة واليراعة المضيئة والغيمة العابرة ولثغة النطق ورغوة القهوة وحز الليمون وغصن النعناع ونبرة صوت من أحب أو يتجلى لي في مفردة عامية ببلاغتها البدئية أو في قصيدة تنوء باللهب..

أيّ المدن تُشبهك أكثر، أنت التي عرفت أكثرها: باريس، ليماسول، لندن، بغداد، عمان وبيرن وسواها . هل الحب يُجمّل المدن، ام فتنتها نفسها ام فتنة الكتابة والكاتب ؟
ـ الحب يجمل كل الموجودات واولها المدن التي تسكننا ونسكنها، المدينة التي تماثلني لم أحظ بها فهي مدينة حلمت بها وما مسني سحرها هي التي تشبهني اكثر من سواها. وهي غير موجودة أساسا وقد فتنتني طويلا وكتبتها في روايتي المضادة لليوتوبيا (من يرث الفردوس) وكانت بصورة حصن أثري معزول في البراري، أقمت فيها مجتمعا هو خليط بشر نبذوا مجتمعاتهم لأسباب مختلفة/ وجعلتهم يواجهون استحالة تحقق المدن الفاضلة حين يشاء الإنسان تجريبها على الأرض فتتهاوى النظرية بسقوط التجربة، فرط غرامي بمدينة اللامكان هشم صورتها مراراً ولم تثبت لها هيئة او صفة، لعل عبوري ممرات الموت والحروب جعل من مدينة عمان على بساطتها - أقرب إلى فتنة مدينة الحلم تلك التي تبدّدت وتلاشت في الزمن، حبي لجماليات هذه المدينة يحيلها الى فردوس صغير على قياس زهدي وعزلتي، أعيش فيها انتظاراتي الملهمة، بعض المدن تجيد إغواءنا فننسحر بها وبعضها تتقن إقصاءنا عنها، باريس اجمل مدن الكون وأقساها لم تغوني في محنة المنفى بل محت كل تصوراتي الإيجابية عن الغرب، وبغداد كانت مدينة منذورة للخراب منذ الف عام وها هي تنوء بالفناء وجفاف النهرين وكثرة المقابر، لكأنها تستسلم لقدرها المحتوم، لم تعد مدينة حياة في انتحارها المعلن، فهي تطرد كل من له شهوة للبناء وإدامة الحياة، ليماسول ونيقوسيا حلمان إغريقيان غارقان في العسل وبيرن مدينة باردة بلا لهب مقدس، فيما تبقى لي من فسحة سلام صغيرة اختلق مدني في الكتابة وأعيد ابتكار الأمكنة على هواي، قد يتخذ الشخص المحبوب هيئة مدينة حلمية متحققة الوجود، نحيا فيها وتكون لنا بسعة الكون فنحب في المحبوب المكان والزمان ويصير وطننا وسلامنا.. 

هل تحضرك صورة ما، سيناريو ما عن خلاص قريب للعراق ؟ هل تعودين اليه يوماً؟
ـ سألني مراسل صحيفة لوس انجلس تايمز في بغداد ـ بعد خمسة شهور من احتلال العراق: ـ كم برأيك وحسب معرفتك بمجتمعك، ستدوم الفوضى وهيمنة التطرف الديني في العراق؟
قلت له: لو كنت متفائلة اظنها ستدوم ما بين سبع وتسع سنوات حتى تشبع نزعة الثأر وردود الافعال. ولو كنت منطقية فسوف احسبها بطريقة رياضية واراها ستمتد الى نحو خمسة عشر عاماً بناء على رؤيتي للمتغيرات السريعة التي جاء بها سقوط النظام والاحتلال، حينها كانت القوى الدينية المتطرفة ومظاهر التشدد والاحزاب الاصولية وميليشياتها من كل الاطراف تتململ وتبرز ببطء من تحت ركام الخراب وتتغذى على حرمان تاريخي ونزعات بدائية للثأر والانتقام وتتقاسم فيما بينها الإرث الدموي الذي آل اليها من النظام السابق وتتقاتل على لحم البلاد، أما الآن فإني ارى خلاص العراق قد بات أبعد من خمسة عشر عاما، بل ان تفككه هو الممكن الوحيد في تنامي نزعات التقسيم وسعي كل طائفة وقومية وعرق ودين للحصول على استقلال وحكم ذاتي في جزء من ارض العراق، لا خلاص إذن الا بحدوث معجزة تجعل مسألة المواطنة أهم الأولويات، ما أراه الآن هو تقاتل مروع على جثة بلد سقط بحراب بنيه بعد ان انهكته حروب النظام والغزو المقــبل لنــشر الديموقراطية التي تبلورت عن طائفيــة وحــرب اهلـية ونزاعات عرقية.

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عناية جابر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni