... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
غائب طعمه فرمان : خمسة أصوات ..خمسة نداءات أستغاثة

وائل المرعب

تاريخ النشر       17/09/2009 06:00 AM


قراءة سريعة في ثلاثيته 
حين ألتقيته أوّل مرّة نهاية ستينات القرن الماضي , وكنتُ قد قرأتُ روايتيه (النخلة والجيران) و (خمسة أصوات) ، لم أتمالك نفسي فبكيت في سري .. أذن هذا  الكائن الأسمر النحيل الذي يختبيء خلف نظـّارته لفرط حياءه ويتحسّس كرسيه قبل الجلوس هو (غائب طعمه فرمان) , الذي أعتصر قلبي وأسرني بسحر كلماته ونقاء سريرته وترفـّعه عن صغائر الأحقاد وصدقه وتصالحه مع نفسه وما فاضت به روايتيه من المشاعر الأنسانية النبيلة التي كان عليها الكاتب وأبطاله ؟!
حينها كان قد عاد من مغتربه حاله حال الكثيرين من أصحاب المباديء الذين أختاروا المهجر هروباً من قساوة الوطن وعسفه , والذين خدعوا بالأجراءات التي أتخذتها حكومة أنقلاب تموز 1968 بأطلاق سراح السجناء السياسيين وأعادة كافة المفصولين منهم الى وظائفهم , كما أنطلت عليهم وعودها التي تؤكد رغبتها في أقامة جبهة وطنية تضم كل القوى التقدمية والديمقراطية , لكنّه بذكائه الفطري وقدرته على رؤية الأشياء بوضوح أكثر من سواه , تأكـّد من خواء وأكاذيب هذه الوعود , فلم يمكث طويلاً وعاد الى منفاه البارد مسرعاً مخلـّفاً حسرة في قلوب محبيه وأصدقائه وقبل أن يناله آذى لا يحتمله فيخسر نفسه وهذا ما كان يخيفه .
(غائب طعمه فرمان) ينتمي الى الجيل الذهبي الذي يمتد من (1920 ــ 1930) الذي شهد ولادة أهم مبدعي العراق على صعيد الشعر والقصة والتشكيل والموسيقى والمسرح , الذين رسموا الملامح الأولى للثقافة العراقية المعاصرة وأسّسوا منهجاً حداثوياً رائداً تجاوز المألوف والنقل الحكائي والمباشر في شتى المجالات المعرفية, فالسياب والملائكة والبياتي والحيدري ومردان ولميعة عمارة والبريكان وعبد الرزاق عبد الواحدوعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ونهاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر وعبد المجيد الونداوي وعبد الجبار وهبي وجواد سليم والشيخلي والجادر والرحال وفريد الله ويردي ومنير بشير وجميل بشير وسلمان شكر وسالم حسين ويوسف العاني وخليل شوقي وزينب  وبدري حسون فريد وأسعد عبد الرزاق  والعشرات غيرهم ينتمون الى نفس الجيل , وهي مفارقة غريبة تستحق التوقف والتأمل والدراسة .
(غائب طعمه فرمان) ولد في أحد أزقـّة بغداد القديمة والمثقلة دفـّتيه بالبيوتات الصغيرة المتلاصقة التي تعلوها (الشناشيل) الملوّنة , والتي توفّر ظلاًّ تتمتع ببرودته النسوة الجميلات اللاتي يتلصّصن من خلف الأبواب الخشبية لعلّهنّ يأسرن أبن الجيران أو أحد المارة فيفزن به ..ظلاً يحتضن شقاوة الأطفال وعبثهم ويتيح لهم كتابة أحلامهم على الجدران التي تآكل بعضها بفعل الهم الأنساني الذي تنفثه صدور العابرين تنفيساً لعذاباتهم .. أذن هو ينتمي الى هذه المحليّة الحميمية وهذا الدفء المجتمعي الذي أفاده كثيراً حين كتب روايته ذائعة الصيت (النخلة والجيران) التي تمثـّل مرحلة طفولته وبداية وعيه وأنتباهاته البكر الأولى , والتي اعتبرت المرآة التي عكست الصورة الحقيقية لقاع المجتمع البغدادي في الأربعينات , وأضاءت النور حتى في الزوايا المعتمة والدهاليز التي يجري فيها الكثير من العلاقات الانسانية التي تخشى العلن..انها بحق دراسة سوسيولوجية لبست رداء الرواية وكشفت طبيعة الأرهاصات الأنسانية في تلك الحقبة التي كانت تمور بالسخط السياسي والمجتمعي .
كان الوعي السياسي ل (غائب طعمة فرمان) في البدأ ديمقراطياً , يهمّه حرية الأنسان ضمن الخيمة الدستورية التي توفـّرها مؤسسّة البرلمان والتي تعطيه الحق في تحديد اختياراته الوطنية , فأنتمى الى صحيفة (الأهالي) صوت الديمقراطيين في العراق كمحرّر في شؤون الناس و وقد تعرّف من خلال عمله بالصحفي المرموق مدير تحرير الصحيفة (عبد المجيد الونداوي) الذي عرّفه بدوره بالقاص الرائد (عبد الملك نوري) والشاعر المتمرّد (حسين مردان) والشاب المصرفي (محمد حسين الهنداوي) , الذين كوّنوا معه الأصوات الخمسة التي نجح غائب في فك صلتها بالواقع المادي ليدلف بها الى باحة الخيال ومضماره الرحب ويخرج بها بروايته الشهيرة (خمسة أصوات) بعد مرور (12) عام على زمن احداثها التي دارت قبل وبعد الفيضان الذي هدّد بغداد عام 1954 .. لقد كانت (خمسة أصوات) هي بمثابة خمسة نداءات أستغاثة أطلقها هؤلاء المبتلون بهمومهم الأنسانية والأبداعية وبشغفهم بالحياة التي تخبو حماسته بسبب العوز المادي أحياناً أو بسبب المثال السياسي الذي لم يحقق ما كانوا يحلمون به أو بسبب حاجات الجسد المأزومة .
أصدر (غائب) روايته (المخاض) بداية السبعينات وهي الجزء الأخير من ثلاثيته التي أجمع النقـّاد على أعتبارها البداية الحقيقية لنشؤ الرواية العراقية المستوفية كامل الشروط الفنية , التي تؤهّلها أن تقارن بثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة بالرغم من عمق وقدِم التجربة المصرية في أنتاج المشاريع الروائية الضخمة والخبرات المتراكمة للكتاب المصريين في هذا المجال .   تدور أحداث الرواية بعد عودة الكاتب الى العراق بعد أكثر من عام على ثورة 14 تموز 1958  عندما كان الصراع السياسي على أشدّه بين قوى اليسار وتحالف قوى اليمين القومي والرجعي, وكان (غائب) قد حسم أمر أنتمائه فكريّاً الى اليسار الذي طغت مغرياته الأنسانية وتحليلاته الطبقية وشمولية نظريته العلمية والجمالية وتفسيراته المادية للتأريخ ومنطقه الجدلي على عموم الحركات الثورية في العالم أبّان تلك الحقبة , وبالمقابل شهدت تلك الفترة بروز شخصية (عبد الناصر) الذي أستقطب الكثير من القوى والحركات القومية والعروبية الحالمة بنشؤ دولة الوحدة من المحيط الى الخليج .
كشفت رواية (المخاض) تأثيرات التناحر والتصادم السياسي المصحوب بشحنات الكراهية على طبيعة العلاقات الأجتماعية وصولاً الى العلاقات بين أفراد العائلة الواحدة , وبروز نوايا ومشاعر الأنتقام من الضد الفكري لم تكن مألوفة أبان الحكم الملكي , كما أنشغلت بعض فصول الرواية بهموم الكاتب الشخصية وخيباته العاطفية خاصة عندما أشتغل محرّراً في وكالة أنباء الصين , ممّا اكسب الرواية بعداً بكائياً مصحوباً بالمرارة يحمل في أفقه البعيد نبؤة ما آل اليه العراق من كوارث أصطبغت بلون النجيع وما تركه المعادل العنفي من جروح في النفس العراقية التي حلم (غائب) وناضل طيلة حياته في أشاعة الأمل فيها .
أخيراً ..لقد أستمكن الكاتب القدير (غائب طعمه فرمان) من الأمساك حتى باللحظات الهاربة من ذاكرته طيلة عمر السرد الذي أستغرقته أزمان ثلاثيته , اضافة الى نجاحه في تطعيم حوارات أبطاله ببعض المفردات العامّية البغدادية ممّا اكسب هذا السفر الروائي العراقي المهم النكهة المحليّة المحببة , حتى أثار فضول القاريء العربي لمعرفة اسرار ومقاصد هذه المفردات التي تقرّبه من طبيعة الشخصية العراقية المتوتـّرة والمنفعلة حتى في أوقات الضحك والمرح الكذوب .


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  وائل المرعب


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni