... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  منتخبات

   
«أيام كنا نحتال على الأشياء» لعلي حدّاد

لمى كحال

تاريخ النشر       28/09/2009 06:00 AM


يدوّن الروائي العراقي علي حدّاد في روايته «أيام كنا نحتال على الأشياء»، الصادرة عن «شرق غرب للنشر»، تفاصيل تجربته الذاتية المريرة في الأسر في السجون الإيرانية على أثر حرب الخليج الأولى، مسجلاً من خلالها سيرة جماعية لمئات العراقيين الذين عاشوا تجربة الأسر في زنازين الموت معه. يكتب حدّاد روايته هذه لشعور منه بالواجب في تدوين هذه المرحلة بكل تفاصيلها «للتاريخ». يحفرها بالحبر ليبرر ثلاثة عشر عاماً خسرها من عمره وهو غائب وراء الحياة، في «السجون التي تفوح منها رائحة الموت والخبث والرهبة». إن «أيام كنا نحتال على الأشياء» هي وليدة «ظرف لامعقول»، خارج عن حدود العقل والطبيعة. ولهذا فقد جاءت مدوية، وحقيقية، ومربكة.
تستمد هذه الرواية، التي تزخر بكمٍّ هائل من المشاعر الإنسانية الصادمة، قوّتها من قدرة كاتبها على الوصف العميق والحسي للوجع الجسديّ والنفسي. يعرف حدّاد كيف يحوّل الأحاسيس المجردة إلى مادة محسوسة تملأها الحياة. كما يعرف كيف يبث القوة الحياتية في الكلمات ليمنحها القدرة على ترجمة الوجع والألم والتخبط من دون مراوغة، أو من دون تحايل. لقد انبعثت بين السطور رائحة الموت، وصدح صوت الوجع، وعبق طعم الدموع، وتبدت هيئة الظلم الشرسة. وكي تحافظ هذه الرواية على مصداقيتها، لم يلجأ الكاتب إلى توصيف أسطوري أو مبالغ فيه لمعاناة الأسرى، بل حافظ على الأشياء بحجمها الحقيقي. والأهم من ذلك، اهتمام الكاتب بالتفاصيل الدقيقة التي استطاع أن يتبين دورها في تكوين بنية الأسرى النفسية والفكرية والجسدية. فقد ركز حداد على ذكر تفاصيل زادت الرواية عمقاً وإنسانية.
يصف عنوان الرواية بذكاء نمط الحياة الذي كان يعتمده الأسرى في يومياتهم في السجن. فالاحتيال على الأشياء هو أسلوب تعلّموه كي يبقى الصراع متكافئاً بينهم وبين سجاّنهم، وكي تظل لديهم الرغبة في الاستمرار بالصمود. لقد تعلموا مراوغة البرد والظلام والبرد والجوع والألم وصوت الريح والذئاب، كي يتمكنوا من الإفلات منها، وكي يمنعوها من الانقضاض عليهم. بدءاً بهذا العنوان المراوغ بدوره، يقود حداد القارئ إلى فضاء روايته المعقد والصعب والمتشعب.
الأنا والجماعة
تبدأ الرواية في حافلة تقلّ مجموعة من الأسرى العراقيين، بينهم الكاتب، إلى الحدود العراقية. هي الرحلة الحلم إلى الحرية. خلال تلك الرحلة، يسترجع حدّاد تجربته، وتجربة من عرفهم في الأسر. فتأتي الرواية وكأنها تدور في ذهن الكاتب أو في ذاكرته. يسرد يوميات الأسر، أزمة السكائر والطعام ودورة المياه. ينقل الأحاديث التي كانت تدور بين الأسرى، وبينهم وبين سجانيهم. يتناول الأزمات النفسية التي كانت تعصف بهم، وموجات التعذيب التي لم ينج أحد منها. في الواقع، يركز حدّاد اهتمامه على الآخرين. ينتقل من أسير إلى آخر، مستعرضاً ماضيه وحاضره، مخاوفه وآلامه وأحلامه.
غير أن حداد ما يلبث أن يُقحم ذاته في النص، ليتحدث عن أزمته هو ومعاناته هو وآماله هو. فتتماهى السيرة الذاتية مع السيرة الجماعية، لتبقى «الأنا» مهيمنة على النص. يذكر الكاتب، على سبيل المثال، أنه كان عند الغروب من كل يوم، حين ينظر إلى الجنود والأسرى، يراهم بعينه التي في رأسه مثل قرود أو حمير برؤوسها وآذانها وعيونها وذيولها. يرى كل من حوله حيوانات تأكل وتتكلم.. بل تنهق. تمثل هذه الحالة واحدة من الأزمات العميقة غير السوية التي خبِرها، والتي أوردها في في بعض فصول الرواية التي شكل هو الشخصية المركزية فيها.
انطلاقاً من ذلك، تبدو البنية الروائية التي نسجها حدّاد غير واضحة المسار بل ومبعثرة في بعض محطات الرواية. فالكاتب يتنطط من فكرة إلى أخرى، ومن شخصية إلى أخرى. يتنقل بين الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، منساقاً لما تفرضه عليه طبيعة التجربة الصادمة الذي هو بصددها. لا شك في أن كل ما تناوله يصب في سياقه الطبيعي، غير أن فوضى عالم الأسر قد انعكس على بنية النص الروائي، فأربكها وأربك سياقها.
من جهة ثانية، استخدم حداد لغة بسيطة بجمل طويلة تحتوي الواحدة منها كماً كبيراً من المعلومات. كما وظف نزعة السخرية في أكثر من محطة في الرواية ليرثي بها حالة الأسرى في «مملكة الأسوار الشائكة» التي دُفنوا أحياء فيها. استخدم الحوار أيضاً ليضفي شيئاً من الواقعية والمصداقية على نصه. غير أننا نجد أن حداد قد استعان بأكثر من صيغة كتابية، كي يحقق غرضه من الكتابة، بما في ذلك إقحام القارئ نفسه في النص ليكون شاهداً عما حصل في المعتقلات. وقد بدا هذا التنوع في الأسلوب مربكاً بعض الشيء.
تنتهي الرواية من حيث بدأت، من الحافلة التي تقل الأسرى إلى العراق. يصف حدّاد لحظة الحرية، لكنها تبدو أقل رهجة مما نتوقع. ربما لأن فكرة الحرية أكثر رهجة وقوة من الحرية نفسها. فكل ما عاد حداد إليه، قد تبدل أو اختفى. والأهم، أن أمه التي تمثل الوطن بالنسبة إليه قد توفيت، وهذا ما جعل من حريته منقوصة. في النهاية، فقد أفسد الأسر عليه حتى معنى الحرية، جرّدها من قيمتها. فلم يبق له سوى التمسك بسنين الأسر ليخلدها، فيخلد معها تجربة عمره. والنتيجة «أيام كنا نحتال على الأشياء» الصادمة الموجعة، لكونها وليدة زنازين الموت، بل لكونها حصاد سنين طويلة.. من الانسحاق.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  لمى كحال


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni