... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
حمار في سجن بوكا

محمد الحمراني

تاريخ النشر       04/10/2009 06:00 AM


حين خرج حمار هزيل من سجن بوكا الأميركي، كنت انا أول من صادفه في الطريق. كانت دموعه تنهمر وكان وجهه متجهماً وهو يكلمني بحزن: الأميركان لا يرحمون الحمير. استغربت هذا الكلام ولم أكن أنوي فتح حوار مع حمار هزيل وجبان: كانت هذه هي المرة الأولى اشاهد فيها حمارا يتكلم بخوف، ففي مدينتنا، اعتاد الحمير ألا يهابوا أحدا وأن يفصحوا دائما عن أفكارهم ومشاريعهم بأصوات مرتفعة وخصوصاً حين يرتدون بذلاتهم الأنيقة في الندوات والمقابلات التلفزيونية. ولكن من أجل معرفة ما يدور في عقل الحمار الهزيل، قلت له: ماذا فعل الأميركيون بك لتحقد عليهم؟ فتحسّر وتعرّقت جبهته وقال: حصل ما حصل عام 5005. كان الرجل الذي يملكني، يستعملني لبيع الغاز. وفكّر في الهرب من البلاد الى دولة الكويت بعدما انتشرت حروب بين فرق عدة من البشر أدت الى موت غالبيتهم فقلّت نسبة البشر في بلادنا وزادت نسبة الحمير. ولأن مالكي اعتقد انه المواطن العراقي الأخير الذي نجا من الفتن، وخوفا منه على سلالات السومريين والأكديين والبابليين من الانقراض، ولأنه تذكر جده الأعلى جلجامش الذي جاب العالم يبحث عن عشبة الخلود، قال: أنا أيضا سأغامر مثله. فساقني في اتجاه حدود دولة الكويت وهو يردد اناشيد وطنية ويقول بين حين وآخر: "أنا من سيحافظ على نسلك يا جلجامش". وقبل أن نصل الحدود، وفي أرض رملية كان يصعب عليَّ السير فيها، حامت فوقنا طائرة أميركية ثم أنزلت شبكة كبيرة رفعتني أنا ومالكي ثم جعلتنا في سجن كبير. عرفت بعد ذلك انه سجن بوكا. الضباط الأميركان اندهشوا لوجود مواطن عراقي لا يزال على قيد الحياة، ولأنني كنت أجيد التكلم بالانكليزية فقد فهمت ما دار حولنا من حوار، وعرفت في نهاية المطاف أن مالكي ستأخذه طائرة الى واشنطن ليحنَّط ويوضع في متحف الكائنات المنقرضة ويشرَّح مخّه لغرض معرفة أسباب نزعة العنف التي أدّت الى أبادة واحد من أقدم شعوب العالم.
أنا أستغربت حكاية الحمار الهزيل، وقلت ربما يعاني أمراضاً نفسية أو انه كذّاب ويمثّل هذا الدور. لكن فضولي المعرفي كباحث في سلوك أبناء جنسي من الحمير، جعلني أصبر على كلامه وأتركه يسترسل في حديثه. وضعتُ نظاراتي المكبرة فاتضحت تجاعيد وجهه وطلبت منه أن يكمل حكايته فقال: حين شاهدت المارينز يقيّدون مالكي ويسحبونه الى الطائرة اشتد غضبي وصرخت بالانكليزية: Is this occupation or disaster?
اندهش الضباط الأميركان. فهذه المرة الأولى يشاهدون فيها حمارا يتكلم ويشتمهم بالانكليزية. ومن تلك اللحظة أعتبرني الأميركان مناهضا لاحتلالهم بلدي. وحين طلب مني جنرال اسمه جون شوهيل أن أعرّفه بنفسي، ارتفعت نرجسيتي وقلت "حمار عراقي". توقف عن الكلام ومسح دموعه ثم أكمل: منذ ذلك اليوم البعيد وأنا مرميّ في سجن انفرادي، ولكنني كنت اسمع أخبار بلدي من خلال مذياع صغير أعطوني اياه، فعرفت أن الحمير بدأوا يزاولون مهن البشر الذين انقرضوا، وان الحمير حين يتجولون في الأسواق تصادفهم الكلاب والقطط والأرانب فيشعرون بعلوّ قاماتهم بين الحيوانات.
 سألته: ولكن لماذا احتجزوك؟ فأجاب: منذ سنوات بعيدة كانوا الضباط الأميركان يجرون معي حوارات مطولة يرغبون من خلالها التعرف الى أسباب حبي المفرط للوطن واعتزازي بمالكي بائع الغاز الفقير وصبري على الألم والهموم طوال السنوات الماضية. وبعدما أحسست بالإذلال من هذه الأسئلة، بكيت أمام الجنرال جون شوهيل وطلبت منه ان يكشف لي أسباب أسئلتهم الكثيرة والمقرفة وأسباب سجني وتعذيبي، فقال: أن مالكك أطلق سراحه في واشنطن بعدما أصبح مواطناً أميركيا وان خوفنا الجديد من الحمير، فاضطررنا الى فتح حوارات معك لعلنا ندرس أنماط تفكير الحمير لنسعى الى ترويضها ضمن بوتقة العولمة.
قبل أن أودعه قلت له: ما النصيحة التي تريد ان تقولها لي؟ فقال الحمار الهزيل: ربما أموت بعد لحظات أو بعد يوم، ولكن أريدك أن تخبر الحمير من جميع الملل ان الأميركان لا يرحمون الحمير.  


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد الحمراني


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni