... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
بغـــداد النهر والصـــور والــذكــريـــات : أيها النهر لا تسرْ انتظرْني لأتبعك

فاروق يوسف

تاريخ النشر       10/10/2009 06:00 AM


تَذَكّرُها يشبه الاعتراف. لبغداد طقوسها السرية الغامضة. لقد ولدتُ هناك في منتصف الخمسينات. وعشتُ طفولتي كلها هناك. ولكن مفردة "هناك" لا تقنعها ولا تصفها. فهي كانت بالنسبة الى بغدادييها كل الجهات الممكنة على خريطة الخيال. ولأني كنت واحدا من أولئك الذين أهلكهم حبّها، واكتشفوا متأخرين أن الحياة غير ممكنة إلا إذا كانت موجودة، فإني أحاول أن أكون موجودا في فضائها. ذلك الفضاء الذي أعرف أنه سينكرني. أكتب عنها لأتذكر أني عشت في قلب الجمال ذات مرة.
لم يكن النهر قريبا من بيتنا. احتجت إلى عشر سنين من أجل أن اجتاز ذلك الكيلومتر الذي يفصل بين محلة الصنم حيث بيت جدي وبين نهر دجلة، الذي يقسم بغداد نصفين: الكرخ والرصافة. لم يكن ذلك الاجتياز العظيم يسيرا. كانت بغداد كلها تقيم في تلك المسافة. أن يصل ذلك الصبي إلى ضفة النهر معناه أن يخترق وحيداً، كوناً من الأصوات والأضواء والأشياء والروائح والكائنات الغريبة. سيكون عليه في ما بعد أن يتشبه بمن صرخ ذات فجر "هي ذي مانهاتن".
كان العالم يومذاك كبيرا بالنسبة الى صبي تعلم لتوّه كيف يحفظ الطريق من البيت إلى مدرسة البتاوين بعد أن يعبر شارع النضال إلى الرصيف الآخر. كنتُ حين أصلُ إلى ذلك الرصيف التفت فأرى كنيسة الأرمن الشامخة ببياضها وقد صارت بعيدة. تلك الكنيسة التي التصق شيء من ظلي بجدرانها لكثرة الأوقات التي أمضيتها مستندا بظهري الى تلك الجدران. ارى برجها من بعيد وأشعر أني أمشي على يابسة أخرى فيما كان وطني يبتعد ويصغر. كانت تلك الكنيسة هي الميزان الذي يستقر به الوقت. كان جرس الكنيسة يُعلمني أن النهار انتصف وفي أوقات متفرقة أخرى يعلن أن الحياة كلها قد انتهت. هناك من يغادر الدنيا إلى الأبد. الموتى الاليفون كانوا لا يبتعدون كثيرا. تقع المقبرة خلف الكنيسة. القبور الانيقة تصلح أن تكون مخابئ. ما بين زهرة يابسة هنا وزهرة هناك هي الأخرى يابسة، أنقل يدي لأبعثر هشيم الأوراق.

الخيّاط الباكستاني وصاحبة المكتبة البدينة
كان الخيّاط الباكستاني يستقبلني على اليابسة بضحكة تقطعها عربيته المرحة: تشبه أباك في تلفّته. ستكون ضائعا مثله. ابتسم له فيرفع يده محييا ويعود إلى قطعة القماش التي فرشها أمامه على المنضدة. كانت صاحبة المكتبة البدينة تخرج كل صباح لترشّ الدرب الترابية المجاورة لمكتبتها ماء وحين تراني تقول لي مرحّبةً: سوف تشتري أول كتاب مني. وسأخفض لك السعر. إنه وعد. وهو الوعد الذي وفت به بعد سنوات يوم أقبلت عليها بدرهم واشتريت "روبنسون كروزوي". كان سعر ذلك الكتاب مئة فلس. أتذكر أن الجانب الذي يقع فيه بيت جدي كان مشمسا دائما، لذلك لم أر الكنيسة إلا مغمورة بالضوء. الفيء كله كان هناك. على اليابسة التي أعدّ خطواتي عليها وأنا أسير على حافاتها ذاهبا إلى المدرسة. مئتا متر، أقل أو أكثر قليلا، تفصل بين لحظة وصولي الى الجانب الآخر من الشارع حيث الخياط الباكستاني وبين سلّم المدرسة المزدوج هي المسافة التي كنت أمشيها يوميا جيئة وذهابا من غير أن تفارق عيناي جدار الكنيسة الذي يمتد في الجانب الآخر من الشارع. كان مرأى ذلك الجدار الناصع البياض يُشعرني بنوع عجيب من الحماية. الحبل الذي يعيدني إلى البيت لم ينقطع. في السنوات اللاحقة اكتشفت أنني وبسبب انهماكي البصري المبالغ فيه في صورة الكنيسة خيالياً، أهملت جزءاً ساحرا من المكان كنت أعطيه ظهري. بعدها صارت سينما النصر الصيفية تنافس الكنيسة في صياغة شكل المكان الذي تأسرني فكرة العودة إليه دائما. كانت تلك السينما التي تحتل ركن الشارع المؤدي إلى بيتنا لا تعمل إلا في الليل ولا تعرض إلا الأفلام الاميركية. فرهاد، الشيخ الذي كنت أراه جالسا على كرسي في باب المدرسة التابعة للكنيسة ما إن أغادر محلة الصنم، هو الذي كشف لي سر ذلك المكان حين أهدى اليَّ صورة لبرت لانكستر وهو يقول: يمكنك أن ترى فيلمه من الشرفة هناك من غير أن تشتري بطاقة دخول إلى السينما. كان لفرهاد ولد في مثل سني، حين أخبرته بعد أيام بما قاله والده لي وأنا أريه تلك الصورة ضحك وقال: يمكنك أن ترافقنا مساء الخميس لترى معنا الفيلم من الشرفة. في ذلك الخميس اكتشفت ان هناك عالما مجاورا للعالم الذي نعيشه، عالما يتكون من كل الأشياء التي نعرفها غير أنه يقيم في مكان لا يمكن الوصول إليه. لا تزال تلك الفكرة البسيطة تتحكم بعلاقتي بالفن حتى اليوم. في أسوأ الأعمال الفنية الواقعية لن يكون الواقع موجودا إلا باعتباره مرجعاً متخيلا. فالواقع شيء والفن شيء آخر. اكتشافي تلك السينما، مكانا ووظيفة، أحدث تعديلاً مهماً في فكرتي عن المكان. لقد اتسع المكان من حولي قليلا ليصل إلى ساحة الطيران التي كانت دار السينما تقع في إحدى زواياها. حين وصلت إلى تلك الزاوية شعرت بالدوار. هو ذا مكان لا يصح أن يقف فيه المرء. السيارات التي تدور من حوله تذهب إلى شوارع مختلفة ولا تسير في الاتجاه نفسه كما أن الأفق الذي رأيته بعيني الطفل الذي كنته كان يعج بالفوضى. بشر بأجنحة لا مرئية تحيط بهم الألوان فيما الحمام يطير من حولهم.

عبد المسيح ينتظرنا
جدارية فائق حسن التي نصبت لتوها في الجانب الجنوبي من حديقة الأمة كانت المتر الأول في مسيرة الكيلومتر الذي مشيته في اتجاه نهر دجلة. ما الذي يفعله الناس هناك في الاعالي؟ بشر مثلنا غير أنهم ليسوا كذلك تماما. صرت اختلس النظر إليهم من بعيد وأنا أخشى أن يلمحني أحدهم متلصصاً عليهم. لم أسأل أحدا عنهم لأني كنت متأكدا أن المدينة كلها تخشى النظر بعينين واثقتين إلى اولئك البشر الذين هبطوا فجأة ولم يغادروا المكان الذي هبطوا فيه، من غير أن يجرؤ أحد من سكان المدينة أن يختلط بهم أو يشاركهم حياتهم. كانوا فتية يمارسون أعمالهم بصمت فيما كانت النافورة على الارض القريبة منهم تسلّيهم بموسيقى المياه. أمسك أبي ذات جمعة بيدي وقال: اليوم سنذهب إلى حديقة الأمة من اجل التقاط صورة. يومذاك تمنيت أن أذهب حافياً، فالحذاء كان يذكّرني بالمدرسة، لذلك خشيت أن ينحرف بقدمي في اتجاهها ما إن نصل إلى محل الخياط الباكستاني. حين رآني والدي وأنا أرتدي بدلتي من غير حذاء، جاهزا للخروج قال لي ضاحكا: كيف يمكن أن تكون جمهوريا من غير حذاء؟. وبما أني جمهوري وأحب الزعيم منذ أن رأيته في قاعة الشعب، فقد سارعت إلى انتعال حذائي. عبرنا شارع النضال ولم نذهب يسارا كما أعتدت بل انحرفنا إلى اليمين. سمعنا أحدهم يصرخ: يا به رفيق وين رايحين؟ التفت أبي وصار يومئ بيديه وهو يقول مبتسما: عبد المسيح ينتظرنا. فوجئت باسم صديق والدي الذي ينتظرنا. إذاً هناك عبد المسيح مثلما هناك عبد الله. في مدرستي كان لديَّ الكثير من الاصدقاء المسيحيين الذين كانوا يغادرون غرفة الدرس ما إن يبدأ درس الدين وكنت أتمنى لو أني كنت واحدا منهم. ليس سيئا أن يكون المرء في منجى من الخطب الدينية التي لا تقول شيئا في عينه. ولكن لم يكن هناك واحد منهم يحمل اسم صديق والدي الذي هو في انتظارنا. ما هذا القمر؟ سأل عبد المسيح وهو يشير إليَّ بعينيه. كأنك تزوجت عجمية يا عودة أو كانت أمك عجمية. ضحك والدي وقال: ما خدعكم ناظم الغزالي حين قال "سمراء من قوم عيسى" ولكنكم ظننتم أن الجمال حكر عليكم. يا الله سيكون الولد بطلا في أفلام السينما، بل دكتوراً. الجملة الأخيرة التي قالها أبي جرحتني. فأنا الحالم بعينين كليلتين وبشعر منفوش لا أقبل بأقل من أن اكون مؤلفا لكتب تبيعها أم علي، صاحبة المكتبة البدينة. لقد وعدتها بذلك. ومثلما وفت بوعدها ينبغي لي أن أفي بوعدي. عبد المسيح أدخل رأسه في كيس أسود بعدما أجلسني وصار يلتقط لي الصور وهو يطلب مني أن لا أرمش. كان وقتا عصيبا أمضيته من أجل أن أحصل على أجمل صورة شخصية التقطتها في حياتي وهي ذكرى المتر السادس الذي مشيته في اتجاه دجلة، ذلك النهر الذي صرت أعرف مجراه على الخرائط المدرسية. حين خرجنا من محل المصور واجهنا عبر الشارع سور حديقة الامة. عبر بي والدي الشارع وهبطنا معا سلّما جانبيا. أدهشتني معرفة والدي بجغرافيا المكان. لم تكن بوابة ذلك السلّم مرئية ومع ذلك فقد اهتدى إليها بيسر. مرمر أبيض تحت اقدامنا فيما كانت أصوات الطيور تصلنا كما لو أنها تحتفي بقدومنا. جوقات حمام تمشي على العشب الأخضر وكانت هناك بركة يسبح فيها البط. أردت أن أسأل والدي: هل البط جمهوري مثلنا؟ غير أنني لم أجد الكلمات المناسبة لسؤالي. كان البط يلهو فيما كان جمهور يلقي إليه حبّات الذرة المشوية والفستق من أعلى جسر صغير يصل طرفي البحيرة أحدهما بالآخر. البط مترف وأنا مترف أيضا بسببه. ولكن ألا يمكن أن يكون كل ما يحدث من حولي جزءاً من فيلم، هو في حقيقته حياة مجاورة يمكنها أن تختفي في كل لحظة؟ فلن يكون هناك بط ولن أكون أنا هناك. لن أسمح للنعاس أن يحرمني من النظر. كنت موجودا في لحظة قد لا تتكرر. لذلك حرصت على أن أرى بعمق وبقوة. حين عدت إلى البيت ذهبت إلى الفراش مباشرة. لم يكن في إمكاني أن أروي ما شاهدته. لم تكن تلك المشاهد لتصلح موضوعا للكلام. لقد رأيت بعيني النائم كيف يمكن أن أكون حيا بين الأحياء التي أنعم عليها الخالق بفتنة العيش الحر. كنا موجودين معا، في الفضاء عينه، من غير أن يمحو بعضنا البعض الآخر. بعد سنوات طويلة وأنا أتجول في غابات أفريقيا، سيطر عليَّ الشعور نفسه. الحرية الشخصية المستلهمة من حرية الكائنات الأخرى. تلك النزهة القصيرة في حديقة الأمة، حررتني من المسافة الأفقية التي كنت أمشيها في اتجاه مدرستي فقررت أن أطلق العنان لقدمي في السير عموديا. لو ضعت سأهتدي إلى محل المصور عبد المسيح. يقيناً، الرجل سيعيدني إلى البيت. ربما سيسألني من أنت؟ لا بأس. سأقول له من أنا. الأمر يسير.

حين ودّعنا ناظم الغزالي
حين قال لنا معلّم العربية وقد دخل الى قاعة الدرس دامع العينين: اليوم ستقومون بمهمة وطنية سيذكرها التاريخ. ستودعون عراقيا عظيما. أدركنا أن هناك مزاجا مختلفا لا علاقة له بالدراسة سيكون علينا أن نحتاط له. على بعد أمتار من المدرسة وقفنا على هيئة صف طويل محاذ لرصيف شارع النضال وكنا نحمل الورود والاعلام العراقية الورقية. حين مرّت الجنازة كان العازفون قد سبقوها بسياراتهم بعدما ملأت الأبواق الفضاء بحزنها. حين هدأ الشارع ظهر معلّم العربية وقال: شكرا لكم. ودّعتم ناظم الغزالي بما يليق به. أذكر دموع ذلك الرجل الآن كلما ملأت الدموع عيني وأنا استمع الى الغزالي وهو يغنّي "ميحانه ميحانه غابت شمسنا الحلو ما جاناه". الا يزال جدار كنيسة الارمن الابيض مغمورا بالشمس؟ ذات ضحى فيما كنت خارجا من باب المحلة رأيت حشودا من البشر، نساء ورجالا وصبية، وهم يهرولون، فيما كانت الجملة الوحيدة التي سمعتها تتكرر بينهم بوضوح: "لقد احترق اورزدي باك". كان في خيالي شيء ما عن ذلك المكان الغامض الذي يرتاده الأثرياء فقط، أصحاب السيارات الفارهة. شيء تجريدي لم أكن استطيع تجسيده واقعيا. لم يكن في إمكان عائلتي المتوسطة الحال سوى أن تنظر بلا اكتراث إلى سوق من ذلك النوع. أخذتني تلك الحشود معها. اللهاث قبل الأقدام. الأنفاس قبل العيون. دشاديش وأقدام حافية وسلال فارغة. كانت الطريق طويلة. لم أكن أبصر غير الأقدام. في لحظة من لحظات المسيرة غيّرت الحشود مسارها أفقيا. بعد ربع ساعة شعرت أن المسيرة تتباطأ، وفجأةً وقفت. حدث تدافع. ركض البعض. سقط البعض الآخر على الأرض. انكشف أمامي فراغ. كنت أقف وحدي على الرصيف. عبر الشارع كانت هناك واجهات زجاجية محطمة وجدران علاها السخام وتلال من الرماد وبرك مياه سوداء. وسط ذلك الركام البشع رأيت جزءاً من دمية توهمتها انسانا ميتا فشعرت بالفزع. صرت أبكي. شعرت أن يدا تمسك بكتفي، التفتّ فرأيت امرأة تشبه أمي بعباءتها السوداء: هل فقدت أحدا في الحريق؟ أجبتُ: بل فقدت الطريق إلى بيتنا. حين هدأت، شرحت لها أين يقع بيتنا فأمسكت تلك المرأة بيدي ومشينا معا إلى أن أوصلتني إلى ساحة الطيران: والآن هل تعرف الطريق إلى بيتكم؟ أومأتُ برأسي فأفلتت يدي مبتسمة وهي تقول لي: وداعاً. مشيت بعض الامتار وحين التفتُّ لم أجدها. أخفيت ما حدث لي عن أهلي غير أن مشهد ذلك القتيل لم يفارق عيني زمنا طويلا إلى أن اكتشفت أن محال بيع الملابس تستعمل الدمى لعرض ازيائها في الواجهات الزجاجية. حتى اللحظة لا يروق لي منظر تلك الدمى وخصوصاً وقد رأيتها في عدد من البلدان العربية مقطوعة الرأس. تلك الرحلة التي وقعت بالمصادفة لم تترك في ذاكرتي سوى الفزع. لم أر اثناءها شيئا من ذلك الشارع الذي مشيته محاطا بالناس الكبار. بعد سنوات استعدتُ مشهد تلك الدمية حين صرت أرى من على شاشة التلفزيون وأنا في منفاي عشرات الجثث وهي ملقاة في المزابل في شوارع بغداد.

الشخص والصورة
طوال عقود من السنين كان العراق يمشي بالطريقة نفسها التي مشيت بها وسط تلك الحشود البشرية. لا يرى شيئا مما يجري من حوله. وحين سُمح له بأن يرى كانت تلك الجثث هي رسالة العالم البصرية إليه. أتخيله الآن وبعد سنوات من الاحتلال الكريه نوعا من ذلك الركام الأسود الذي غطى أجزاء من جثة الدمية. عدت إذاً إلى البيت بكابوس لن يفارقني أبداً. بعد تلك الحادثة صرت أنظر إلى التجمعات البشرية بحذر شديد، لذلك لم أشترك في تظاهرة يوما ما ولا مشيت في مسيرة على الرغم من أن البلد كله طوال السنوات التي عشتها في العراق كان يمشي في مسيرة انتهت إلى نقطة اللاعودة. كيلومتر يفصلني عن النهر لم اخترق إلا امتارا قليلة منه طوال سنوات. كان الخياط الباكستاني هو الذي أخبرني بأن عبد المسيح المصور قد وضع صورتي في الجامخانة (الخزانة الزجاجية في واجهة المحل). حين وقفت أمام تلك الواجهة، كانت صورتي كبيرة هناك، داخل الخزانة الزجاجية. لم يسبق لي أن رأيت صورة لي بهذا الحجم. تذكرتُ صور الممثلين على جدران سينما النصر الصيفية. تخيلتني نوعا من برت لانكستر. سحرتني فكرة أن أكون في مكانين: خلف الواجهة الزجاجية وأمامها. داخل الخزانة وخارجها. في الشارع وداخل المحل. انا اثنان. اثنان هما أنا. ولكن ذلك الشخص لم يكن يشبهني تماما. ومع ذلك فقد أحببته. أحببت نظرته وأحببت ان يكون موجودا حيث هو، منفصلا عني. بيته من زجاج فيما تمر الحياة من أمامه من غير أن تشركه في وقائعها المربكة. ذلك الشخص الذي هو ليس أنا ويشبهني، فرض وجوده في الخزانة الزجاجية عليَّ طقسا يوميا: أن أقف أمامه يوميا متأملا وأنا أشعر بالمتعة. اسمعهم يقولون: تلك هي الحياة. ولكن ماذا عن حياة ذلك الشخص الذي يسكن صورتي كما لو أنه سمكة وضعت في حوض ماء؟ شخص لا شأن له بحياة الآخرين ولا حتى بحياتي اليومية. ومع ذلك فقد كنت أتخيل ابتسامته الخفيفة وهي تسخر من الجميع. مني أيضا ومن عبد المسيح الذي قال لي ذات مرة بعدما رآني واقفا أمام واجهة محله: ستكبر فيما سيظل هو صغيرا كما رأيته أنا لا كما سيراه الآخرون ولا كما تراه أنت في المرآة. بعدذاك دخل إلى محله ضاحكا وتركني أفكر في جملته. تلك الجملة سكنتني فصرت كلما رأيت صورة أفكر في مصير الكائنات التي تسكنها. ليست الصورة إلا خرافة اليومي الذي يذهب إلى أبده. كنتُ في الصورة أنظر إلى سياج حديقة الأمة فيما كنتُ في الواقع أعطي ظهري لذلك السياج. لقد استولى ذلك الشخص المقيم في صورتي على شيء من إلهام عيني الخيالية. فهو يرى ما لم أكن قادرا على رؤيته واقعيا. بعد ثلاث سنوات وفيما كنت جالسا في مطعم تاجران، حيث أصطحبني عمي صبري معه إلى دعوة غداء أقامها أحد أصدقائه لمناسبة زواجه، أخرج صاحب الدعوة آلة تصوير وصار يلتقط لي صورا. لحظتذاك سمعتُ صوت عبد المسيح المصور وهو يقول لي: لا تتحرك. جلست ساكنا مثل تمثال فضجّ جميع الجالسين بالضحك. رغبتي في عدم إفساد الصورة جعلتني موضع تندر. يمكنك أن تتحرك. اجلس مثلما تحب، قال لي صاحب الدعوة بعدما انتبه إلى حيرتي.

هنا وهناك
يومذاك وفي ذلك المكان سمعت للمرة الأولى كلمة "نهر" حين قال أحد الجالسين معلّقا على تطور آلات التصوير: الحياة تتطور. إنها تجري مثل النهر. لم أفهم المعنى لأنني لم أكن قد رأيت نهرا بعد ولم أكن أعرف أني أجلس على مقربة خمسين مترا من النهر. لم أر تلك الصور التي اُلتقطت لي غير أنني أتخيلها الآن موجودة في مكان ما من بغداد. كما هي بغداد موجودة في مكان ما. مكان قد لا يمت بصلة الى الجغرافيا. مكان لا يقيم في الـ"هنا" والـ"هناك" كما نظن. شيء مني بقي في تلك الصور. شيء مفقود قد يمكنني تسميته لو أتيح لي أن أرى الآن تلك الصور. تركت ماريلين مونرو وراءها الاف الصور. هي الآن صورها. اما تلك المرأة التي اختفت وراء حجب الموت فإنها لن تكون واحدة من النساء اللواتي يظهرن في صورها. امرأة صارت أخرى بعدما وزعت عاطفة جسدها على أجساد كثيرة. كل جسد يرتجل شهوته بطريقة تناسب العين التي تنظر إليه. أخذت ماريلين إلى القبر معها ألمها وسعادتها وشقاءها وهفواتها ومزاجها وبكاءها وسذاجتها وغرورها وحرمانها. لم يبق شيء منها. ما بقي هو ملك تلك الشخصيات التي تظهر في الصور والتي لن تكون أبدا شخصية واحدة بالنسبة الى الجميع. غير صحيح ما يقال إن الصورة تجمد الزمن، بل هي كما أرى، تحرره من تشظيه وتبعثره. تجرده من نسبيته وتخلص إليه كيانا مطلقا. كنت أجد متعة في وقوفي اليومي المتكرر أمام تلك الصورة (صورتي). أحاول أن امتزج بخيالها واستحضر أحلامها وأمشي بين جمل أفكارها. في الليل وحيدا في غرفتي كنت أفكر في ليلها. ذات يوم مرضت فلم أذهب إلى المدرسة، لم تمنعني الحمّى من التفكير فيها، غير أنني عندما شفيت بعد أيام لم أشعر بالذنب وأنا أذهب مباشرة إلى المدرسة من غير أن أمر بها. بطريقة عفوية ذهبت بي قدماي يمينا في اتجاه المدرسة. لهفتي إلى لقاء أصحابي محت جزءاً من ذاكرتي. ينطوي النسيان على قدر عظيم من القسوة. يوم اخبرنا أبي أن صديقه عبد المسيح قد هاجر إلى ديترويت، بكيت من أجل صورتي التي هاجرت معه. قال لي إنه سيمارس مهنته هناك. لديه ابن عم يمتلك محلا كبيرا للتصوير وهو ناجح في مهنته. في تلك الليلة رأيت صورتي وهي معلقة في الواجهة الزجاجية عينها وكان هناك بشر غرباء ينظرون إليها. في اليوم التالي انحرفت قدماي بي إلى اليسار وذهبت إلى حيث محل عبد المسيج فوجدته مغلقا. ألا تزال صورتي هناك في عتمته؟ وقفت هناك. كنت أرى شبح صورتي من وراء الستار الحديد. كانت ملامح ذلك الشخص الذي صار يشبهني مرسومة بدقة على ثنيات ذلك الستار فيما كان صوت عبد المسيح يصلني ناعما: ستكبر فيما سيظل هو صغيرا كما رأيته أنا لا كما سيراه الآخرون ولا كما تراه أنت في المرآة. وهنا همست: بل سنكبر معا يا عبد المسيح. حين بدأ الشعر ينمو على وجهي، نظرت ذات مرة إلى المرآة فرأيت صورة ذلك الطفل الذي هاجر إلى ديترويت بصحبة عبد المسيح. ابتسمت بحزن وأنا أقول له: لم تكبر إذاً كما وعدتني. يومذاك لم أكن أتذكر مَن منا وعد الآخر؟ حين رآني الخياط الباكستاني واقفا بشكل ثابت أمام محله هرع مسرعا إليّ وهو يتساءل: على غير عادتك أراك واقفا كما لو أن شيئا حدث لك. ما بك؟ لا شيء، أقول، أردت فقط أن أتأكد أنني قد حفظت القصيدة قبل الذهاب إلى المدرسة. يسأل: واين هي القصيدة؟ فتحتُ الحقيبة وأخرجت كتاب اللغة العربية وفتحته على الصفحة التي كانت تضم القصيدة: هذه. ساقرأ وأنت تنظر في الكتاب. أمسك الرجل بالكتاب مقلوبا وضحك وهو يقول: فاتك أنني لا أعرف القراءة بالعربية. نظرت إليه مندهشا غير أنه هز رأسه معتذرا: ومع ذلك يمكنك أن تسمعني القصيدة. لقد سمعت الكثير من القصائد التي تعلّمها أولادي في المدرسة وقد تكون قصيدتك واحدة منها. أغمضت عيني وأخذت شهيقا عميقا ثم بدأت القراءة:
"أيها النهر لا تسر
انتظرني لأتبعك
أنا اخبرت والدي
إنني ذاهب معك"
"gooooooooooood"
قالها وهو يصفق. غير أنه لم يستمر في التصفيق حين لاحظ ان فرحته لم تنتقل إليَّ. وماذا بعد؟، قال. ولكن أين يقع النهر يا عمي؟ بهت الرجل وقرفص قريبا مني وأمسك بكتفي. نظر بعينيه المكحولتين في وجهي. حدّق مليا قبل أن يطلق ضحكته التي كنت أحبها وقال: النهر هنا. النهر قريب. الجريذية (نوع من الفئران الكبيرة) التي يمتلئ بها حيّنا يمكنها أن تقودك إليه. وقف الرجل وسار بي إلى الجهة التي يقع فيها محل عبد المسيح. أوقفني هناك وأشار إلى الأمام: هناك. على مسافة كيلومتر أو أقل في خط مستقيم يجري النهر. دجلة هناك. دجلة وبغداد شيء واحد. كيف يمكنك أن تكون بغداديا وأنت لم تر دجلة حتى الآن؟

على شاطئ دجلة
بعد سنوات حين جلست للمرة الأولى على شاطئ دجلة، قريبا من الماء، تذكرت الخياط الباكستاني الذي اختفى قبل أن يعرف أنني اهتديت إلى النهر من غير أن أسأل الجريذية. غير أن ما لا أنساه من تلك الجلسة أنني شعرت يومذاك أن ذلك الطفل الذي كان يسكن الصورة والذي هاجر إلى ديترويت قد كبر وجاء ليجلس إلى جانبي على النهر. كنا نتأمل المياه وهي تجري ونردد معا:
"أيها النهر لا تسر
انتظرني لأتبعك
أنا اخبرت والدي
إنني ذاهب معك".
كنا صديقين. كنا الشخص نفسه. كنا الرقم، اي رقم، الذي يقبل القسمة على اثنين من غير أن يخون نفسه. ولأننا كنا مفتونين بالنهر، فقد نسي الواحد منا أن يسأل صاحبه عما جرى له في ماضي ايامه. الآن بعد أربعين سنة من تلك الواقعة وبعدما التحقت بصورتي على طريق الهجرة منذ سنوات لم تعد لديَّ سوى رغبة واحدة: أن أجلس وصاحبي على شاطئ النهر، في المكان نفسه الذي جلسنا فيه منذ سنوات لنردد أبيات القصيدة التي قادتنا إليه .
                                     عن " النهار "

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni