... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
العراق و(تصديرات) جيرانه

احمد السعداوي

تاريخ النشر       14/10/2009 06:00 AM


(الوقت مناسب الان لتصدير الثورة)، هذا ما قاله آية الله محمد امامي كاشاني في خطبة لصلاة الجمعة في طهران الاسبوع الماضي. وقال المتابعون للشأن الايراني، ان الرجل، الذي كان يوصف بانه محسوب على المعتدلين، يريد الآن توحيد الجبهة الايرانية الداخلية المفككة باتجاه فكرة خارجية، هي من بقايا خطاب الثورة الايرانية في ذروة انطلاقها قبل ثلاثين عاماً. الرجل يريد العبور على الانقسامات الداخلية الحادة، التي باتت تهدد الثورة الايرانية نفسها، الى الحد الذي دفع فائزة، ابنة هاشمي رفنسنجاني، الى القول بان ما يجري الآن، هو نوع من ترسيخ ديكتاتورية دينية تريد ابتلاع الجمهورية والثورة معاً.
ما يهمنا، ان العراق الآن يبدو محاذياً، بل غارقاً في محيط من (التصديرات). من داخله وفي محيطه الاقليمي. واذا بدأنا بالداخل، فلا ننسى ان الكلام المتفائل، عشية سقوط نظام صدام، كان يدور حول (تصدير) الديمقراطية العراقية، الى المنطقة التي تعاني من تصلب في الشرايين السياسية، وجمود استبدادي وغياب شبه كامل للحريات السياسية والدينية والثقافية.
كان المتفائلون منا، يعبرون، على مغارة علي بابا التي انفتحت في العراق بكل ما تحويه من عتمة وغموض، ليتحدثوا عن تصدير الديمقراطية، و(دمقرطة) الشرق الاوسط وفق سياسة احجار الدومينو، وانتهينا الان الى حال نرجو فيه ان يكف الاخرون عن (تصديراتهم) الينا، وجزنا من العنب ونريد المحافظة على السلة.
في الجارة الايرانية، مازالت تيارات سياسية مهمة تفكر بعقلية شمولية، لا تريد ان تقتنع بأن ثقافة الثورة الايرانية تعاني صراعاً حاداً مع ثقافة النظام الجمهوري في ايران، وان العقد الايراني الاخير رسخ فكرة الجمهورية، ولم يعد قادراً على استيعاب اندفاعات الثورة الشمولية، وتسخيرها للدولة في خدمة الثورة، كما هو الحال مع نظم (ثورجية) اخرى سابقة عليها ومجاورة، انتهت، في نهاية المطاف، الى خلق نظم استبدادية تكتسب شرعيتها الوحيدة من فكرة الثورة الابدية التي لا تريد ان تلد الدولة.
ما يجري في ايران، هو صراع الدولة التي اصبحت اكبر من فكرة الثورة مع (حرس الثورة) الذين يريدونها مستمرة وعابرة (للدول).
المقلق عراقياً، ان هذه الثورة، تملك حدوداً برية طويلة مع العراق، وأي تصدير للثورات سيمر عبر الارض العراقية دون شك، قبل ان يمر عبر منافذ أخرى. كما اننا لا ننسى ان تصدير الثورات، كان دائماً يترجم على الارض سلوكاً عدوانياً.
على سبيل المثال، كانت الثورة المحمولة على اكتاف الجمهورية العربية المتحدة، تفتح فمها واسعاً، وتنادي (هل من مزيد)، فظلت تصدر نفسها في ارجاء العالم العربي، دعماً عسكرياً، وتدخلاً مباشراً، او تمويلاً بالسلاح والمال، وحتى نصب اذاعات مناوئة على الحدود. ولم ترض بثورة اخرى في العراق مثلاً (نظام عبد الكريم قاسم)، ولم ترض بأقل من بلع العراق تحت حمية وحماسة تصدير الثورة القومية العربية.
ولكن، ما الذي يمكن تصديره الان، من الثورة الايرانية، الى محيطها الاقليمي؟ إن الساحة اصلاً مشبعة أيرانياً، ومعبأة بانقسامات حادة، تحمل عناوين طائفية، وتخفي صراعاً على المصالح والنفوذ. إيران متهمة اصلاً بمد نفوذها تحت عناوين التبشير الطائفي من المغرب وحتى الخليج. وهي تملك قدماً راسخة في لبنان من الصعب زحزحتها. والحضور الايراني في المنطقة بات امراً معروفاً وواضحاً، كذلك فان دورها في ادارة الصراعات في المنطقة واضح ايضاً. الامر الذي يجعل تحصن المقابل على قيم دينية وثقافية مضادة امراً سهلاً. وهذا ما تحاول بعض الدول العربية استثماره الى اقصى حد (مثل السعودية). فتهدد بخطر النفوذ والتغلغل الايراني في كل ساعة وحين، حتى وان كان الأمر مبالغاً فيه.
منفذ التصديرات الآخر، هو بعض تيارات الثقافة السلفية، التي جذبت إلينا مثل مغناطيس كل (الجهاديين) في العالم، فانتحر بين العراقيين سعوديون واردنيون وافغانيون وحتى رجال من البوسنة والهرسك. وكلهم معبأون بثقافة تعود في اصولها الى منهج الاسلام السلفي، كما ولد في ارض جزيرة العرب قبل ثلاثمئة سنة.
السلفية، او بعض اجنحتها المتطرفة، ظلت تصدر الى العراق خلال السنوات الست الماضية العديد من الجهاديين، المعبأين بفكر اقصائي احادي لا يرى الى الاختلاف والتنوع على انه رحمة، ويريد تسريع اقامة (إمارة) للمؤمنين في ارض العراق، حتى وإن عارض العراقيون هذه الامارة، وعارضوا كامل المنهج والفكر الذي تقوم عليه عقيدة هؤلاء الجهاديين.
المشكلة الاساسية ليست في هؤلاء الافراد، الذين يأتون ويذهبون، وانما بالفكر الذي يسهل انتاج المزيد منهم، وكلنا تابعنا ما جرى مع مساعد وزير الداخلية السعودي لشؤون الارهاب الامير محمد بن نايف، وهو القيم على ملف مكافحة الارهاب في السعودية، وكيف كان على شفى ان يقتل على يد احد الانتحاريين.
السجال الذي فتح بين المثقفين السعوديين انفسهم، على اثر هذه الحادثة المخيفة، يضرب في اصل عملية مكافحة الارهاب. فالسعودية متضررة من هؤلاء (الارهابيين) قبل ان يتضرر الاخرون خارج السعودية، وهي تجهد في مكافحتهم، وجهازها الامني هو الاعتى والاقوى في هذا المجال، وينافس في قوته الجهاز الامني المصري. ومع ذلك تحصل عمليات نوعية بين حين واخر، مثل عملية التفخيخ ضد الامير محمد بن نايف. إنهم يتكاثرون، ولا يمكن القضاء عليهم بشكل نهائي، ما الحل، لماذا يبرز لنا شبان صغار في العشرينيات ليفجروا انفسهم بيننا؟ هذه الاسئلة طرحها مثقفون سعوديون، وكانت الاجوبة تجمع على ان الخلل هو في مبدأ (المناصحة)، حيث الاستتابة وتقديم النصح ثم تقديم معونات مالية لبدء حياة جديدة بالنسبة لهؤلاء الجهاديين، وينتهي المطاف لاحقاً، بعودة الجهاديين الى سيرتهم السابقة.
الحل هو، كما قال احد المثقفين السعوديين، في تغيير مناهج التعليم وفتح دور للسينما، وفي لجم هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (المطاوعة) واعطاء هامش من الحريات المدنية، وفتح المجال لحرية التعبير، وتحجيم المنهج السلفي، الذي يسيطر على كافة جوانب الحياة في السعودية، ويقمع اي اختلاف اجتماعي او ديني او ثقافي. ويرفع هراوة التكفير والمروق على الفنانين والشعراء والصحفيين، ويلاحق النساء في الشارع، ويدفع المجتمع السعودي الى انغلاق اجباري، يجعل من اسهم المتطرفين دينياً أعلى وتحضى بالرواج كنوع من الانتقام غير المباشر من النظام.
الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة دينياً وسياسياً وتصديرها الى الاخر بقوة، والتثقيف بهذه الثقافة، لا يمكن ان يخرج لنا غير اجيال متلاحقة من الارهابيين، يفجرون انفسهم داخل السعودية او العراق او افغانستان او الى اي مكان اخر في ارض الله الواسعة، ويطبقون على الارض ثقافتهم التي تغذوا عليها، والتي تخبرهم ان كل الاخرين مخالفون وكفرة وملحدون ومارقون تحل دماؤهم، حتى وان لم يقل احد هذا الكلام بشكل صريح. فـ(إظهار البغض والغلظة والشدة) للمخالفين، كما تقول مناهج التعليم الثانوي السعودية، هي مقدمة طبيعية للاعتداء على هؤلاء المخالفين واسترخاص ارواحهم.
ها هنا ايضاً (المنهج الديني الصحيح!!) هو اكبر من الدولة، ويقود الدولة في مهاويه، ويتمدد على مساحة اكبر من رقعة الدولة وصلاحياتها وحدودها الطبيعية. وهذه معضلة النظام السياسي في السعودية، والتي يعيها الساسة هناك قبل غيرهم، ولكنهم لا يفعلون شيئاً إزاءها، أو لا يستطيعون.
ثالثة (التصديرات) هو ما كشفت عنه الازمة الاخيرة بين العراق وسوريا، حيث لم تساهم مغريات ربط العراق (كدولة جديدة) مع سوريا بمصالح اقتصادية متطورة، في تغيير فكرة النظام السوري حول (مصالحه) في العراق الجديد، فظلت فكرة الشراكة والتبادل المشترك للمصالح والمنافع تحضى بتفسيرين متناقضين عراقياً وسورياً.
نعم، النظام السوري، لا يريد الدخول في مواجهة مفتوحة مع العراق، ولكنه يريد نفوذاً اكثر مما يراد له عراقياً. انه يريد، من خلال باب المصالحة، التي يتحدث الكثيرون عن كونها لم تنجز بعد، على خلاف وجهة نظر الحكومة العراقية، يريد ادخال حزب البعث جناح يونس الاحمد من جديد في العملية السياسية العراقية. وهذا ما قاله وزير الخارجية السوري وليد المعلم بوضوح. حيث قرأ التصعيد العراقي ضد سوريا بانه نوع من تبرير الفشل الداخلي في استيعاب معارضين ترفض حكومة المالكي اشراكهم بالعملية السياسية.
ان الرجل يفسر المشكلة كلها، من وجهة نظر المصالح السورية، فالمشكلة، سورياً، هي عدم اشراك بعث يونس الاحمد (السوري) في العملية السياسية العراقية.
إن سوريا تريد تصدير (ثورتها) ايضاً، وتتمدد داخل المنطقة العراقية الرخوة، على الاقل، حالها حال الاخرين، الذين تمددوا واستراحوا واسترخوا كثيراً.
لم تكن سوريا راغبة في أن يصل الامر الى حدود القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، ولكنها أمّلت بأن يستمر ضغطها، لأستثمار ما يمكن استثماره من ظروف الضعف وعدم التشكل عراقياً لاحراز نجاح سياسي داخل الملعب العراقي، يتمثل بعودة مؤييدها من العراقيين الى العملية السياسية.
لكن ردة الفعل العراقية، كانت مفاجئة، وهي، حسب بعض التعليقات، أبرزت وجهاً لدولة عراقية، وليس وجهاً لعراق (ضحية) يستنجد بالآخرين، كما ان هناك من رأى وجود تناسب طردي ما بين تكون وتماسك الدولة العراقية وزيادة التشنج في العلاقة مع سوريا. بسبب ان النظام في سوريا، مازال نظاماً عابراً للوطنية، وهذا يتناقض مع مصالح بلد مثل العراق يريد نفض اليد من مناهج سياسية تتجاوز الوطن، باتجاه تأسيس خطاب سياسي معني بالداخل الوطني قبل أي شيء آخر.
إن العراق مقبل على ثلاثة خيارات، مع الضعف المرجح للدور الاميركي اكثر فاكثر، فإما ان يستمر منطقة منخفضة اقليمياً، تتجاذبها صراعات الدول المحيطة مع بعضها، وتداخل مصالحها وتعارضها، ليكون ساحة دائمة لتصفيات الحساب الاقليمية. وإما ان تبرز ارادة سياسية وطنية واضحة (تلعب) على موازين القوى الاقليمية، وتحاول ان تخلق منطقة توازن حرجة لضغوط هذه القوى الاقليمية. وهو ما يقربنا من المثال اللبناني، حيث لم يتحرج سياسي عريق مثل وليد جنبلاط من التصريح مؤخراً بان أي توافق لبناني داخلي مرهون بتوافق سوري سعودي حول الملف اللبناني.
والخيار الثالث، هو الاصعب والاقسى، حيث يحاول العراق معه البقاء على الحياد في دائرة الصراع الاقليمي الملتهبة، ولكنه سيتعرض لتدخلات متكاثرة، على غرار التدخلات عبر الاراضي السورية، وسينتهي العراق لاحقاً الى موقف مشابه من دول الجوار شبيه بموقفه الحالي من النظام السوري.
سيجبر العراق، في اطار الخيار الثالث، على ان يخوض صراعاً من اجل سيادته واستقلاله، وما هو اهم، من اجل مشروعه السياسي الغريب والشاذ على المنطقة.
ولكن، هل العراق مهيئ، اجتماعياً وثقافياً، وكنظام سياسي للتصدي لهذا الصراع وادارته بنجاح وقوة؟
هل العراق قادر على ان يضع دول الجوار امام حقيقة ازدواجية دورها في العراق، منذ سقوط نظام صدام وحتى الآن. هل هو قادر على الاستقلال اقتصادياً وامنياً عن التنسيق مع دول الجوار هذه، على الاقل ضمن الحدود التي تنبه المجاورين الى خطورة ضياع مصالحهم في العراق؟
اسئلة تفرض نفسها امام السياسيين العراقيين، وكل المعنيين بالشأن العراقي من مثقفين واكاديميين، من اجل الوصول الى استشراف مكان ما للعراق في المستقبل من دون الحاجة الى الخوف من (تصديرات) جيرانه.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  احمد السعداوي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni