... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
اصطناع الأزمة وإدارتها

د. يحيى الكبيسي

تاريخ النشر       14/10/2009 06:00 AM


تعرف الأزمة بأنها لحظة تحول جذرية في مسار حدث ما،  تنتج، بالضرورة، تغيرا نوعيا وكميا في طبيعة الحدث نفسه، وعلاقاته. أما إدارة الأزمة crisis Management، وهو أسلوب جديد في إدارة العلاقات والنزاعات الدولية ظهر بعد الأزمة الكوبية في ستينيات القرن الماضي، فيعني الطريقة التي تدار بها الأزمة، تصعيدا أو مساومة، للحصول على أفضل النتائج الممكنة، وبما يحقق أهداف الدولة ومصالحها الوطنية العليا. مع الحرص على أن لا يصل الأمر إلى الصراع، أو القطيعة، أو التضحية بقيم أو مصالح جوهرية.
من هنا فان إدارة الأزمة تتطلب تحليلا دقيقا للمواقف والاستراتيجيات، وكثيرا ما يتم اللجوء إلى استخدام النماذج الرياضية لقياس حالة الأزمة وتحليلها. فيتم تحليل العلاقات والثوابت والمتغيرات الخاصة بالحالة، والتأثيرات المتبادلة بينها، وتحليل أسباب الأزمة، ومراحلها، ومستوياتها، وتحليل مواطن القوى والضعف لدى طرفي الأزمة، وتحليل طبيعة الأخطار المترتبة عن الأزمة، وتكاليف استمرارها، وأخيرا القراءة الدقيقة للعلاقات الدولية لحظتها، ومدى إمكانية الإفادة منها في تعزيز المواقف المتبناة. واعتمادا على النتائج الخاصة بهذه التحليلات، يتم تحديد الخيارات المختلفة التي يمكن اللجوء إلى احدها للتعامل مع الأزمة، والتي تضمن، نظريا، النجاح في إدارة الأزمة، أو التقليل إلى أقصى حد من الخسائر الممكنة. والسؤال هنا هل وصلت العلاقة العراقية ـ السورية إلى لحظة أزمة حقيقية؟
إن متابعة أداء الدولة/ السلطة (حيث ما زلنا في العراق لم نفك الاشتباك بينهما بعد)، بسلطتيها التشريعية والتنفيذية (تنص المادة 66 على أن السلطة التنفيذية في العراق تتكون من رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء معا)، تكشف بوضوح عدم وجود قناعة، أو اعتراف بوصول العلاقة إلى مستوى الأزمة، ومن ثم وجدنا اختلافا جذريا في طبيعة المواقف التي اتخذتها ، أو عبرت عنها ، أو صمتت عليها الأطراف المختلفة (مجلس الوزراء، ومجلس الرئاسة، ومجلس النواب بصفته- وليس بمواقف أعضاءه كأفراد-، على التوالي).
وإذا كان الأمر هكذا، فهذا يعني اننا  بإزاء محاولة متعمدة لاصطناع أزمة، أي ما يطلق عليه "الإدارة بالأزمة"، من أجل الوصول إلى مكاسب محددة على المستوى السياسي. وان جهة واحدة حصرا من الجهات الثلاثة المتقدمة، قد أخذت على عاتقها هذه المسؤولية. ولسنا هنا بصدد تقييم مدى صحة أو خطأ هذا الإجراء، أو توقيته، أو حتى مدى دستوريته، ولكننا سنحاول تحليل طبيعة أداء هذه الجهة، وهي هنا مجلس الوزراء والوزراء المعنيين.
بداية يفترض أن من أهم مبادئ إدارة الأزمة هو تحديد الأهداف، وكان الهدف المعلن، تبعا للقرار الصادر عن مجلس الوزراء في جلسته رقم 31 في 25/8/2009 ، هو " مطالبة مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب الذين خططوا ونفذوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد المدنيين العراقيين على غرار المحاكم الجنائية الدولية التي شكلت في أكثر من منطقة في العالم". وواضح أن المجلس الموقر لم يعرض هذا الطلب الارتجالي على مستشاريه القانونيين، لأنه من المعروف أن هذه الجرائم تقع ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، والتي تعرف بنظام روما الأساسي المشكلة العام 1998، فقد نصت المادة 5 على أن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية،  تدخل في اختصاصات المحكمة، فضلا عن جرائم الإبادة الجماعية وجريمة العدوان. ولكن السؤال المهم هنا: هل يمكن توصيف ما حدث يوم الأربعاء 19/8/2009 بأنه جريمة حرب؟ أو يمكن أن يصدق هذا الوصف على أية حالة من حالات العنف التي وقعت في العراق بعد نيسان 2003؟ تعرف المحكمة الجنائية الدولية جريمة الحرب في المادة (8/2 أ)  بأنها: " الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 آب / أغسطس 1949"، ونحن نعرف أن اتفاقية جنيف  وبروتوكوليها الملحقين المؤرخين في 8 حزيران 1977 إنما تنطبق، كما جاء في المادة 2 منها  "في حالة الحرب المعلنة أو أي اشتباك مسلح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة، حتى لو لم يعترف أحدها بحالة الحرب.
تنطبق الاتفاقية أيضاً على جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة، حتى لو لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلحة". فهل ينطبق هذا الوضع على الحالات التي عناها قرار مجلس الوزراء؟ 
الملاحظة الثانية تتعلق بطلب تشكيل محكمة جنائية خاصة " على غرار المحاكم الجنائية الدولية التي شكلت في أكثر من منطقة في العالم". لقد شكلت في العقدين الأخيرين محكمتين جنائيتين دوليتين، الأولى المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة في العام 1993 (قرار مجلس الأمن رقم 827)، والتي كان من اختصاصها:  الانتهاكات الجسيمة لمعاهدات جنيف، ومخالفات قوانين أو أعراف الحرب، والإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية. والثانية المحكمة الدولية الجنائية الخاصة براوندا في العام 1994 ( قرار مجلس الأمن رقم 935)، وهي الوحيدة التي اختصت بنظر جرائم الحرب التي ارتكبت خلال نزاع مسلح غير دولي. ولكن كلا المحكمتين كانتا قبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي يفترض أنها ستتولى اختصاصات هذه المحاكم الجنائية الخاصة كافة. وهذا يعني ببساطة أنه لا وجه لطلب مجلس الوزراء بتشكيل المحكمة الخاصة المفترضة!
والسؤال الذي يطرح هنا، لماذا لم يلجأ مجلس الوزراء إلى اعتماد المحكمة الجنائية الدولية (نظام روما الأساسي)؟ صحيح أن العراق ليس طرفا في هذا النظام الأساسي (لم يصادق العراق إلى اليوم عليها)، إلا انه يمكن اللجوء إلى المادة 13 منها، والتي تتيح لمجلس الأمن الدولي إحالة  حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت، متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ولكن هذا الطلب كان سيصطدم بالمادة 17/1 من النظام الأساسي نفسه التي تنص على انه "تقرر المحكمة أن الدعوى غير مقبولة في حالة ... إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها ولاية عليها، ما لم تكن الدولة حقاً غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك". ونحن نعرف أنه قد تم إجراء التحقيقات الخاصة بحادثة يوم الأربعاء، بل وتم عرض "المسؤول الأول عن التفجيرات" على شاشات التلفزيون علنا، وتم تسمية المتهمين الآخرين (بل إن قرار جلسة مجلس الوزراء تحدثت عن "مجرمين" وليس متهمين!!!)، من جهة أخرى هل يمكن تصور إعلان رسمي عن مجلس الوزراء العراقي، يعلن أن العراق غير قادر على الاضطلاع بالتحقيق والمقاضاة، والناطق الرسمي باسم خطة فرض القانون تحدث في 21/8/2009 عن "تشكيل خلية أمنية خاصة بتوجيه مباشر من دولة رئيس الوزراء نوري المالكي وتم جمع المعلومات بأقصى سرعة ومسكت الخيوط الصحيحة، وبعد مرور ساعتين أو أقل، تم إلقاء القبض على الخلية الإرهابية المنفذة للعملية". وهو ما تعجز عنه أفضل القوى الأمنية في العالم!
ويبدو أن وزارة الخارجية تنبهت إلى المشكلات الكثيرة التي تضمنها قرار مجلس الوزراء، فصرنا أمام طلب مختلف تماما، فقد أعلن هوشيار زيباري يوم 29/8 أن وزارته تسعى لتأسيس "محكمة دولية لمحاكمة المتهمين بقضايا الإرهاب والتفجيرات في العراق كما هي المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري". أي ببساطة نحن أمام طلب يختلف جملة وتفصيلا!!! فليس هناك حديث عن مجرمي حرب، أو جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية كما جاء في قرار مجلس الوزراء، وإنما أمام محكمة دولية لمتهمين في قضايا الإرهاب والتفجيرات. ولكن الطلب كما هو واضح لم ينتبه أيضا إلى أن ما تشكل أولا في قضية الحريري هي "لجنة تحقيق دولية" وليس محكمة دولية، وأن المحكمة كانت طلبا متأخرا، وبنيت على أساس النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق في المقام الأول؛ فقد تقدمت  كل من فرنسا والمملكة المتحدة لبريطانيا وايرلندا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية، بطلب لتشكيل لجنة تحقيق دولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري، وصدر قرار رقم 1595  في 7 نيسان 2005 حيث صوتت عليه 10 دول مقابل امتناع 5 دول عن التصويت. وجاء في نص القرار: انه بعد دراسة تقرير بعثة تقصي الحقائق الموفدة إلى لبنان للتحقيق في ملابسات هذا الحادث وأسبابه وعواقبه، والذي خلص إلى "أن عملية التحقيق اللبنانية تشوبها عيوب جسيمة وانه لا تتوفر لها القدرة ولا الالتزام الضروريان للوصول إلى نتيجة مرضية ومعقولة"، ومن ثم ضرورة "إجراء تحقيق مستقل دولي" لمساعدة الحكومة اللبنانية في التحقيق الذي يجريه. وطلب القرار إلى جميع الدول وجميع الأطراف "أن تتعاون تعاونا تاما مع اللجنة وعلى وجه الخصوص أن تزودها بأية معلومات ذات صلة تكون في حوزتها فيما يتعلق بالعمل الإرهابي المذكور".  
أما المحكمة الخاصة بلبنان، التي أنشأت بموجب اتفاق بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية عملا بقرار مجلس الأمن رقم 1664 الصادر في 29 آذار 2006،  فقد جاءت استجابة لطلب الحكومة اللبنانية بإنشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع المسؤولين عن الجريمة التي أودت بحياة الحريري وآخرين، وجاء في نظامها الأساسي أنها تختص بمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن اغتيال الحريري، وفي حال وجدت المحكمة ارتباط الاعتداءات الأخرى التي حصلت في لبنان بين 1/10/2004 و12/12/2005 هي مرتبطة بعضها ببعض. وقد نصت المادة4/1 على أن تكون للمحكمة الخاصة، من ضمن اختصاصاتها، أسبقية على المحاكم الوطنية اللبنانية. كما نصت المادة 4/3ب على أن تتنازل السلطة الوطنية عن اختصاصاتها لمصلحة المحكمة الخاصة.
وبعيدا عن هذين الطلبين المختلفين شكلا ومضمونا، فإن مجلس الوزراء، ووزارة الخارجية نسيا كما يبدو أنهما في الحقيقة لا يطالبان بمحكمة دولية خاصة، وإنما بمتعهد تنفيذ أحكام! فقد جرت التحقيقات، وتم تحديد المتهمين، أو المجرمين تبعا للخطاب الرسمي، والقبض على المسؤول الرئيس عن التفجيرات، وعلى 14 متهما آخر متورطا في العملية، وتم توثيق الاعترافات، ولم يبق سوى تسليم سوريا للمطلوبين من أجل حسم القضية.
في الحديث عن المبادئ الأساسية الأخرى الخاصة بإدارة الأزمة، مثل التطبيق التدريجي، أو البحث عن الدعم، أو الحفاظ على شعرة معاوية، فقد بدا واضحا أيضا اننا أبعد ما نكون عن تخطيط استراتيجي مدروس بدقة لإدارة الأزمة، فقد بدا الأمر مستعجلا وارتجاليا إلى حد بعيد، ولم يتم دراسته سياسيا أو قانونيا بشكل جدي، وبدأنا من الأعلى، مجلس الأمن، ثم تحولنا عنه إلى الجامعة العربية والتفاوض الثنائي بحضور الوسطاء. ولم يتم دراسة المتغيرات في العلاقات الدولية، أو دراسة وضع سوريا اليوم الذي يختلف عنه في 2005، وأن موضوعات تسليم المتهمين ما زالت من الموضوعات المعقدة دوليا. هكذا وجدنا الطرف الأمريكي، الذي كان على مدى سنوات يتحدث عن دعم سوريا للإرهاب يقف موقف الحياد، ووجدنا المجتمع الدولي لا يأخذ الطلب العراقي مأخذ الجد.
مرة أخرى نجد أنفسنا في ظل خلط شديد بين استحقاقات الدولة، واستحقاقات السلطة والقائمين عليها، وأمام ترحيل للأزمات الحقيقية المتمثلة في الصراع الداخلي على السلطة والثروة، وإشكاليات النظام السياسي المنتج للصراع، والسياسات المنهجية لاحتكار السلطة، وسياسات الإقصاء والتهميش، وإشكاليات بناء الدولة، وإشكالية العلاقة بين المركز والإقليم، والفساد، والمياه، والبنى التحتية ... الخ من خلال اصطناع أزمة تمت إدارتها بشكل فاشل تماما. 


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. يحيى الكبيسي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni