... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
هاجس البحث عن العدالة

سميرة المانع

تاريخ النشر       14/10/2009 06:00 AM


بدايةً، جدران عالية دون شبابيك.  نوافذ مطلة على الداخل، على الداخل فحسب.  المنطقة صحراوية قاحلة منعزلة. سكانها محافظون تقليديون. تلبس الفتاة العباءة السوداء عندهم وعمرها ما بين الحادية والثانية عشرة. ماذا يُلهي فتاة صغيرة وحيدة بين بالغين  في منطقة الزبير القفراء؟! الالعاب؟  لا وجود لها.  الاصدقاء، المتنزهات أمور نادرة.

ليس أمامها سوى خرق مرمية من فضلات أقمشة يرميها الكبار، أحيانا ،  تراها فتلتقطها لتصنع منها أجساداً لدمى بمختلف الاشكال والالوان.   تصبغ وجوهها باقلام ملونة جامدة، تكلمها كبشرلهم أنواع التصرفات المتزنة والخرقاء، كمعارف وأصدقاء.  هذه هي الاخ، تلك هي الابنة، وذا هو الاب المتزمت الذي يخافه الجميع.
 تذهب ، أحيانا، مع أهلها إلى مدينة البصرة، وهي  تبعد ما يقرب من 20 دقيقة بالسيارة عن الزبير، وسرعان ما تنبسط  أمامها خضرة لا نهاية لها، حيوية مستفيضة ، مقاه ، أنهار، نساء سافرات سائرات ، فتحسب التناقض بين المنطقتين سنّة الحياة، جزءا من الطبيعة الكونية. تعود إلى دارهم الصامتة في الناحية القاحلة ، مذعنة ، صابرة ، كشيء لا بدّ منه.
التناقض في  الكون يدهشها. اكتشفت عن طريقه التسلية والمفاجأة والمغامرة.  فكيف إذا ما تسنى  العثور على كتب منوعة مشوقة في هذه الدار المملة الخرساء. كتب متناقضة ، مؤنسة، متجهمة، ممزقة، مفرحة، مصورة . تنقل العالم إلى عقر دارها.
عالم متناقض بميوله، بسلوكياته الخطرة والمجنونة، بتعاليمه الذكية ومواقفه في الحب والاصلاح.  تزداد نهماً في التفتيش عنه ، الاطلاع عليه، خصوصا  أثناء ما يكون أهلها نائمين في قيلولة قيظ  صيف العراق وما أطوله ، بسرداب بارد مظلم خصص  لنوم الظهيرة لمن يريد أن ينام . تتسلل خارجة منه للاعلى، دون ضجة لتبحث عن العالم لتسليتها أثناء استغراقهم بالنوم  الخالي من الاحلام بتصورها.
كانت الكتب تغطي بعض جدران البيت، قسم منها عائد لابيها والبقية لاخيها الكبير.   يحتفظ الأول  بالقديم المصفر الحريص عليه  وهو يعيد قراءته مراراً وتكراراً بلا ملل أو ضجر. عناوين هذه الكتب لا تخلو من اغراء: " العقد الفريد" أو " مروج الذهب"..الخ. أما الجديد ذو الغلاف اللامع البراق  فمن مقتنيات الثاني، المولع بالتزود به بكل ادمان. ينوعه ويغيره باستمرار، يركن بعضه إلى جانب بعض، مشغولا بتقليبه والتفتيش بين صفحاته  بين حين وآخر  مسرورا جذلان.
 قسم من هذه الكتب وتلك  تتحدث عن الماضي السحيق، عن آخر تطورات الحرب العالمية الثانية، ما فعله هؤلاء بهؤلاء.  كتب تتحدث عن الحب والغرام، عن الرسائل الزرق والمخدع، عن الشخص الآخر الذي يحتاط الجميع، كي لا تحتك به أو أن يلامس أذيالها في القادم من الايام. بعد أن اتمت الثانية عشرة تنبهوا لها بجد، غلفوها بالعباءة كطريدة صيدت فلتغلق دونها الابواب. هل هناك اعتراض؟ ! لا ، لماذا؟   تركتهم يمارسون صنوف الخوف عليها وبظنون مختلفة. تنظر لهم فلا تقول شيئا . إنها متفرجة فقط.  تراهم كاشباح، مقارنة مع اصحابها الحقيقيين بين طيات الورق.  فلان تزوج من فلانة ، لا يعنيها، ما أهمية هذا اللغو والضوضاء؟!
 أمّا أن تذهب " زنوبة" بطلة رواية " عودة الروح" لتوفيق الحكيم إلى الساحر كي يجد لها وصفة للزواج عن طريق الهدهد ، هذا هو الواقع بعينه.
وكما لو كان هناك من يراقبها بعناية ورأفة  رأت  مجتمعها ، في مدى قصير، يتطورنادما منتبها  لسلوكه. استطاع أن ينفض العباءة السوداء عنه بمحض إرادته . يسير للامام بخطى حثيثة مقدام دون تدخل أوعنف قسري من أي كان.
وكأن المرأة العراقية، التي سُمح لها بدخول المدارس جيلا قبلها، اقنعت رجاله بذكاء كي تفتح النوافذ أخيرا ، تشرّعها كي يدخل الهواء النقي للامكنة العفنة الفاسدة المظلمة فتتغيرالاوضاع.  سارعت هذه المرأة إلى إنهاض نفسها من جثوتها بوصفة سحرية عن طريق " العلم".  تقدمت  برغبة عارمة  من دون بكاء أو صياح بتظاهرات صاخبة أو أن تعلن التمرد والعصيان . وجدت في التعليم العلاج الباهرالشافي لانقاذها من الجب كما انقذت جدتها شهرزاد نفسها من مخالب شهريار.
وسرعان ما خلعت عباءتها بهدوء ومن دون ضجة في معظم شوارع ومدن العراق الكبرى.. قبلت بعدها في الدراسة بكلية مختلطة ببغداد. زاملت  شبابا، بعفوية، من دون شدّ عصائب وأوهام.  صارت الضغوط التي مارسها البعض عليها خلال سنيها الاولى بمدينة الزبير محض ترهات مضحكة  سخيفة.
 أخيرا،  في الصف الثاني بدار المعلمين العالية، في جامعة بغداد ، وجدت شيئا تقوله.  كان محبوسا في صدرها طيلة هذه الفترة. حانت الفرصة فجأة.  الوقت الذي اختيرهو اختبار نصف السنة بمادة الانشاء وكان في سطور قلائل :
( كنت عمياء ، وحيدة ، واجمة كنتُ... هذا ما حدثتني به زهرة الليمون وأنا أهمّ بقطفها لاشبكها مع أخواتها من الزهيرات النديات عقدا أزين بهن عنقي هذا المساء.. فوجئت وعقدت الدهشة اطرافي عندما نطقت برجائها المتوسل كي أدعها يوما واحدا ، يوم مولدها إلى النور والضياء.
تماهلت ورفعت يدي عن غصنها الطري وقد اطربني اريجها العطر وتاقت نفسي إلى التريث بجانبها لاستملي عبيرها المدهش. بابتسامة مشرقة زانها تلألؤ الندى على وجنتيها الرقيقتين كانت تقول : " العالم !! أعرف كل شيء عن العالم ، الحب والخير، الكراهية والشح، الأمل واليأس، أجل، أعرف هذا ولم اتعلمه اليوم والآن عندما تفتحت وريقاتي وفاض عبيري. كلا، عرفته منذ أيام خلت، أيام طويلة قضيتها خلف جدران غلافي السميك، أتسمع وأتململ، أتسمع أخواتي الزهيرات في الليالي المقمرة، وهن يتسامرن ويتجاذبن أطراف أحاديثهن الممتعة ، وكم تضاحكن وتمازحن، ويعلم الله كم كنت متلهفة للقائهن  والمسامرة معهن، لكن اليوم تريدين أن تقطفيني، واليوم ولدتُ فكيف أموت؟! ).   
أمسك استاذها المختص في حصة الدرس بورقتها وكان كريما. أطنب في الثناء عليها ، مهتما متحمسا كي ينشر النص في المجلة الرسمية لوزارة المعارف، آنذاك.  لم يدر بخلده،  أنه يتعامل  مع اسطر  قليلة مقطرة لما دار بخلدها منذ سنوات، ستجد صداها ، دائما، في رواياتها وأقاصيصها في السنين المقبلة   بطريقة أو بأخرى.
هنا وجدت نفسها خارج مجتمع الصابرات، الصامتات، المولولات، اللاحول لهن ولا قوة.  خارج غناء المغنية العراقية في المذياع  أثناء ما تطرب الحي باغنية:
زوجي تزوج عليّ بنية   وأنا لسه الحنا بيدي
أو تسليه وتضحكه وتداعبه بأغنية:
يضربني طول الليل بالخيزرانة
روحوا اسألوا الجيران شمسوية أنا
صار عالم الظلم  والقسوة  واللامبالاة يتكشف أمامها . اثناء ما كانت  تبحث عن الرحمة ، التفاهم، العدالة ، نكران الذات.
تلفتت حولها.  بدأت تقلق، القلق الرائع المفتن. بدأت تتجرأ، تكابد الحرمان.
فجأة تشعر أنها حزينة ، لا تستطيع أن تكون فرحة إلا إذا كتبت ما تريد قوله، ولم تكتف  بما قاله غيرها. كانت قانعة بالذي  يتصدق به عليها، مكتفيــــــــة بما يكتبونه لها ، وجلّ الكتاب من الرجال.  ادركت أن  الآخرين يظلون آخرين عندما يتحدثون عنها. لا تريد أن تلتقط من فتات موائدهم. تريـــــــد أن يكون لها رأي، تلك هي،  تقول ما يخصهــــــــا ، ما يهمهـــا.
تقدم أمرا وتؤخر ذاك. الاولويات عندها غير ما يعتقدون. الشر لدى المرأة غيره عند الرجل والا لما دارت الحروب وقتلوا أولادها الشباب. ليست أمرأة من يقتل الحياة ويعتدي على مولد برعم زهرة.. قالت احداهن مرة:
 " عندما كنت صغيرة، أخشى أن أكون كاتبة ، ولم أكن كذلك حتى سن العشرين، الحادية، الثانية والعشرين.
كنت أعيش معتمدة على الكتّاب الذين أعرفهم، آملة أنهم سيكتبون عني ما أريد قوله. تركتهم يثورون من أجلي،  يكتبون عني.
فجأة أدركت أن من الخطأ أن اتوقع منهم ذلك. أعتقد أن الرجال سيتحررون من ذلك الحمل الذي فُرض عليهم من قبل طرف آخر. إنها وظيفتي أنا كي أتكلم عن النساء"  هذا ما قالته ( أناييس نن Anais  Nin) احدى رائدات الكتابة النسائيــــــة منذ أكثر من خمســين سنة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سميرة المانع


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni