" أعطوني نظارتي"
ـ العبارة الأخيرة للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا على فراش الموت.

جدل طويل دار حول مفهوم الشخصية الروائية والشخصية الواقعية: كيف يمكن التعامل مع الشخص الواقعي حين يتحول في النص الى شخصية روائية؟ هل يمكن البحث خارج النص الروائي عن امتدادات أم انها مهمة عبثية تماما؟ في نظام الشخصيات الروائية، وتحديدا في مفهوم اقتصاد الشخصية الروائية، لا يوجد أي امتداد للشخص الروائي خارج العمل، ومن يبحث عن ذلك لا يجد شيئاً الا اذا كان الأمر بدافع التسلية والهواية وربما بسبب كون هذا الصنف من القراء يقرأ لأغراض لا علاقة لها بالرواية.

الشخص الروائي كائن مستقل، هو مخلوق نصي، حتى لو كان يحمل اسما واقعيا أو شخصا حقيقيا، وكان الروائي غالب هلسا قد دخل في ثمانينات القرن الماضي في حوار طويل حول رواية له تحدثت عن شخصية جمال عبد الناصر ـ قد تكون رواية الضحك ـ وكان رده دائما: ان عبد الناصر في الرواية هو ليس عبد الناصر الواقعي، انه رؤيا الروائي للشخص وليس الشخص نفسه، وفلوبير كان قد صرح بعبارته الشهيرة حول روايته" مدام بوفاري" قائلا: ان مدام بوفاري هي فلوبير نفسه، ولكن بعد أن تمت صياغته حسب جماليات الفن الروائي، بل حتى الروائي ألان روب غرييه وهو من موجة الرواية الجديدة التي تنفي الشخصية بين الاشياء حسب الرؤية الظاهراتية ـ منهج الفيلسوف الظاهراتي هوسرل ـ صرح في ايامه الأخيرة ان رواياته كانت سيرته الشخصية.

ولذلك فإن الدمج بين الواقعي والروائي هو دمج غير صحيح وأخرق الى أبعد، لأن الفن ليس الواقع بل رؤيا فنية له، وليس نسخا للواقع بل خلقا، وهذا ما يفسر عبارة الرسام ماتيس: ما حاجتنا الى تكرار ما تقوم به الطبيعة كل لحظة، وبافراط؟

الواقع العراقي اليوم، وقبل اليوم، هو واقع أغرب من الخيال، اي ان الروائي العراقي لا يحتاج الى خلق موجة واقعية سحرية لكي يكتب، لأن الواقع نفسه من شدة غرابته يصبح سحريا وغرائبيا وفوق الواقع الأصلي، اي الحقيقة لشدة غرابتها تصبح أكثر غرابة من الحقيقة نفسها، ولسنا بحاجة الى تقليد موجة الواقعية السحرية في امريكا اللاتينية كما تأسست على يد غابريل ماركيز بصورة خاصة، لأن الواقع العراقي وصل الى أقصى مديات الغرائبية.

في أي واقع في العالم، مثلا، يتم ذبح الناس علنا، أمام جمهور متفرج، والضحية في حلقة دائرية مربوطة، ويُقرأ على الجمهور بيان القتل على مسمع من الضحية نفسها، ثم يذبح على أصوات احتفالية مهللة وأمام عدسات الكاميرات؟ أو: اين يمكن أن نعثر على ابن يشارك في خطف الأب مع عصابة من أجل الفدية؟ أو: يستيقظ أحد الجيران ـ حادثة حصلت أيام الحصار ـ ويجد جار العمر يفتح عجلات سيارته لسرقتها ولا يرفع رأسه وكل ما يقوله دون أن يتوقف عن فك العجلات هو:" اذا لم أسرقك، أموت مع عائلتي من الجوع؟" أو: يتم العثور في المزابل على جثث، أو: تشكل مجاميع من أصحاب الزوارق للبحث عن جثث طافية والبحث عن عناوين الأهل والاتصال بهم مقابل الحصول على مال؟ أو: كثير من الناس في الجنوب وجدوا داخل السمك أعضاءً بشرية، وحوادث أكثر غرابة من كل ذلك وابعد.

في نظام الشخصيات يكون الشخص الروائي حرا وربما أكثر حرية من خالقه، وحكاية التمرد على الكاتب هي مسألة واردة ومعروفة لدى الروائيين، ولكن كما تمتلك الشخصيات الروائية حريتها في الولادة والنمو والتصرف، تمتلك قدرتها على الخيارات ايضا، بما في ذلك خيار الموت، أو القتل، ومرة دخلت زوجة الروائي غابريل ماركيز الى غرفته فوجدته دامع العينين وقال لها:" نحن نبكي على قتل الابطال الذين نحبهم "ـ موقف رواه لي الفنان المبدع يحيى الشيخ.

لكن لأول مرة في التاريخ، تاريخ الفن، وتاريخ غيره، يكون الروائي مسؤولا عن قتل الأبطال في رواياته وهناك من يطالب بالتعامل معه كمجرم وليس كخالق، وهذا من غرائبية الواقع العراقي نفسه أيضا، حيث يصبح المجرم الحقيقي بطلا، ويصبح الخالق والعاشق مجرما، وفي زمن المذبحة المستمرة، يصبح العشاق مجرمين، والمجرمون عشاقا. هذه هي لحظة أنقلاب المعايير أو تداخلها، بتعبير عالم الاجتماع دورنكهايم، حين تصبح الشطارة نجاحا، والبراءة غباءً. اليست هذه هي النهاية القصوى للتشوه؟

نحن نقتل الأبطال الذين نحبهم، ونبكي بصمت على طريقة ماركيز، وربما شكسبير وأجاثا كريستي وكامو وكافكا وغيرهم الكثير، ولكن القتل الروائي هو نوع من الخلق والتحريض على اللاقتل، اي تحويل القتل الى رغبة عارمة في الحياة بل شهوة ـ لا شهية ـ للحياة وخيار الشخصيات حتى حين تريد الذهاب الى النهاية القصوى من الموت بارادتها يجب أن يحترم، أو في الاقل يناقش داخل شروطه الاديبة ـ وبتخصص مهني وابداعي ايضا وليس من قبل قارئ يبحث في النص عن بلاغ بوليسي وهذه الخاصية لا وجود لها في العالم وهي امتداد للوضع الغرائبي العام.

هذه القراءة ليست أكاديمية، ونحن نشعر بالنفور من هذه الكلمة، قراءتنا تأخذ أحيانا منحى الانطباعات العامة والحكي والسرد الادبي وفي أحيان أخرى معززة بأمثلة من التجربة الشخصية الروائية، ومن تجربة روائية معلنة ومنشورة تحضر عدة أمثلة تستحق التوقف: عام 1994 كنت أجلس امام الشاشة واشاهد اخبار المساء والخبر الأول كان عن جريمة قتل للاجئ عراقي لزوجته ـ أعرفه شخصيا وكان معي في سجون ايران والباكستان ثم سكنا في عمارة واحدة في بيرغن في النرويج ونحن نسكن الآن ايضا في مدينة واحدة ـ ورأيت الجثة محمولة على نقالة بغطاء ابيض وقد ترك الحادث في نفسي أثرا مثل أي شيء آخر، وحين كتبت رواية" سنوات الحريق" حاولت صياغة ذلك المشهد في اطار روائي وفي سياق سرد مطول عن مصائر يساريين ومنفيين عراقيين في أوروبا وغيرها وكيف انتهت مصائرهم.

صدرت الرواية عام 2000 من دار الكنوز في بيروت، وشاءت الأقدار أن يصادف هذا التاريخ تاريخ اطلاق سراح الزوج القاتل ـ هذه طبيعة الأحكام هنا، مخففة، وحسب الدوافع وقد رأوا انها آنية وسلوك السجين في السجن ـ ولكن منذ صدور الرواية وحتى اليوم، بل قبل اسبوع تقريبا، كتب من يقول اننا قتلنا امراة في مدينة بيرغن في النرويج وهربنا، على طريقة أفلام كارتون، الى مدينة أخرى في النرويج ايضا، ومنذ عام 2000 ( اي منذ صدور الرواية وليس تاريخ الجريمة 1994ـ صارت الرواية هي الجريمة والجريمة الحقيقية منسية) و حتى اليوم لم يصل البوليس مع أن النرويج أرسلت قبل شهر وحدة كوماندوس الى المغرب وخطفت طفلين من أم نرويجية واب مغربي في خلاف على الحضانة مما خلق أزمة دبلوماسية مستمرة حتى اللحظة؟ كيف تكون الواقعية السحرية؟ ضمن اي تقاليد ثقافية في العالم؟ بضاعة عراقية، تقول؟ يمكن قول ذلك لكنه تبسيط، ودعنا نمضي في السرد الممتع: الزوج القاتل خرج من السجن وتزوج واشتغل وتجاوز الحادثة لكن الروائي لا يزال حتى اليوم يحمل وزر جريمة ـ النص. نقبض على من؟ المحكمة أطلقت سراح القاتل، لكن من يطلق سراح الروائي؟ نوع القاضي هنا يوضح نوع القارئ هناك أيضا، ونوع القانون هنا، يعري العرف الأخلاقي هناك، الأخلاق القانونية هنا تكشف طبيعة من نوع فريد هناك، نوع الحرية هنا يفضح شكل التخلف هناك، والتخلف هو خاصية نفسية واجتماعية في آن: هي فاصلة هائلة بين قيمين، معيارين، عالمين، نظامين، تاريخين، مجتمعين الخ وتكرر الأمر نفسه في السيرة الذاتية الروائية "الأعزل" وهي أول سيرة ذاتية روائية عراقية، وعلى يد الشخص نفسه أيضا وهو معروف السيرة والسلوك ولا يحتاج الى توضيح أي الشخص المترقب والمنتظر تحويل كل رواية تصدر الى جريمة.

هذه الأيام، أصادف في كثير من الأحيان الرجل نفسه ـ لم يعد قاتلا وانتهت حكايته ـ وهو قرأ روايتي واطلع جيدا على المشهد العابر ـ لم يكن مشهدا محوريا ـ المتعلق به ولم يقل شيئاً أبدا، ربما عن تهذيب أو ألم أو حياء أو لأنني لم أذكره بالاسم أو لأنه تعامل مع الشخوص كشخصيات روائية لا تعنيه، اي قراءة أدبية راقية، وربما لسبب آخر، ولكن كان بودي دائما كلما قابلته أن أقول له" مبروك عليك خروجك من السجن وحياتك الجديدة، ولكن تعال شوف فاجعتي بك وبقضيتك، فأنا مطلوب حيا وميتا، لأن العدالة هنا أطلقت سراحك من جريمة علنية لكن الخفة الشهيرة تلاحق الروائي: هو فارق بين الانسان والمسخ بين القاتل العابر والظرفي وبين المأجور والساخر من ذكاء الناس ". لكني لم أقل ذلك لأسباب كثيرة، لكن الحدث الجديد استوجب كتابة رواية جديدة عن الأمر لأن هذا الحدث تجاوز الفارق بين القانون وبين الاستهتار الى ما هو أبعد: كيف يتحطم مجتمع كالمجتمع العراقي بنعومة وصمت متواطئ وعلنا في أجواء السخرية؟

حين شرحت ذلك للصديق والروائي النرويجي بيتر بريست، بحلق في وجهي طويلا وحين تأكد من جدية الأمر، قال:" انتم لا تحتاجون الى واقعية سحرية لأن الواقع العراقي نفسه، حتى بالاستنساخ، تجاوز الواقع".

ـ" بيتر، علّقتُ ضاحكاً، وتجاوز السحر أيضا".

منذ الحلقة الأولى من هذه القراءة وهناك أسئلة ملحة واضحة وأخرى تأتي في سياق السؤال عن المشهد العراقي العام، هذه الأسئلة تلح بالاجابة أو التوضيح عن: ما هي ملامح الجيل الروائي الجديد، وبدقة أكبر: ما هي ملامح الرواية العراقية الجديدة؟ وهو سؤال يبحث عن تصنيف، والتصنيف اختزال، والاختزال ايديولوجيا، وعرض مثل هذا السؤال هو هدف هذه القراءة الأساسي، أي التحفيز والتحريض والبحث والتقصي، وهذه العناصر جميعا تقترح البحث والسؤال بدل الركون الى الجاهز والسلفي والمنتهي، وفي المجال الروائي يكون البحث عن ملامح محددة أمر لم يعد مطروحا، وبكلام أكثر قسوة لم يعد مقبولا.

الرواية الجديدة خرجت ربما بشكل نهائي من التأطير، أو في الأقل لم يعد النموذج الروائي المحتذى مستساغا الا اذا كان نوعا من التقليد، والخروج من التقليد يعني الخروج من الملامح، والخروج من الملامح يعني الدخول في الحداثة، والدخول في الحداثة يعني الخروج من الرؤية الكلية الشاملة المتماسكة، والخروج من التماسك يعني الدخول في التشظي، والدخول في التشظي يعني الخروج من المعيارية، والخروج من هذه يعني الفصل مع النمطية في السرد وفي الزمن وفي نظام الشخصيات، والقطع مع النمطية يعني اللعب، وهذا يعني الخروج من الرصانة، والخروج من هذه يعني الدخول في البعثرة، الزمن مبعثر، مفكك، في عصر مبعثر ومفكك، وانسان ضائع في عالم متشييء والدخول في البعثرة يعني القول وداعا للملامح والصرامة في نظام الشخصيات الكلاسيكي، وهذا الوداع يعني الاقتراب من اللاملامح، وهذا الاقتراب يقود بدوره الى الابتعاد عن السرد المركزي الى الانفتاح العام، والدخول في الانفتاح يعني الخروج من الوحدة، وحدة السرد، والخروج من وحدة السرد يقود الى الدخول في وحدة الفوضى، أي الفوضى المنظمة، لكن هذه الفوضى السردية لا تعني الدخول في النسق والتراتبية والتسلسل بل تعني العكس الخروج من النسق والنموذج والملامح الى اللانسجام، اللاتساوق، أي من الرصانة الى اللعب، ومن السطح الى العمق، ومن القالب الى الخلق، ومن النموذج الى الابتكار، أي العمل بدون العودة الى " منابع" أو، بتعبير، سولير" اختراقية الكتابة" خارج النموذج والنسق، وقد يكون النموذج السابق المستلهَم نقطة تجميع وتمركز واعادة انتشار في العمل الجديد، أي يكون تناصا أو مؤثراً لكنه لن يكون دليلاً.

بهذا المعنى يصبح النموذج مُلهما، وليس سلطة، أي لا يصبح كالكتب المرجعية الكبرى السياسية والدينية والرمزية والتاريخية نموذجا مقدساً ورمزاً ومُحتَكراً وهناك من ينطق بلسانه ويصادر هذا الحق من غيره، وعلى قول غولد شليغر:" وحده الشيوعي يستطيع الكلام بشكل صحيح عن ماركس ولينين، وحده المؤمن يستطيع الكلام عن الإيمان بإطناب ودراية، وحده النازي يستطيع تحديد شخص آري بشكل مناسب". ويمكن أن نضيف: وحدها المرجعيات النقدية قادرة على تزكية الرواية. الخطاب يتعدد تبعا لتعدد سلطاته، ومفاهيمه لا تتكشف الا بالضد أو في الصراع مع خطاب آخر مضاد أو مغاير: المعرفة تُنتج في الصراع أو التوافق مع السلطات والقوى والمؤسسات والخطابات، والخطاب الروائي في صراع مع الجميع، بما في ذلك مع بنيته، أي تجاوز مستمر ضد النموذج والملامح والهوية والنسق والتصنيف.

صحيح ان هذا الاختزال الاحتكاري للحقيقة قائم على مؤسسة أو عرف عام أو تقليد، الا ان هذا الاختزال سلطة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، والرواية الجديدة خارج الاختزال، اي خارج السلطة، اي خارج التقليد والصنمية والنسق والمعيار والنظام والنمط والتحديد: بمعنى ضد "الملامح".

الأثر الأدبي، والرواية التقليدية رمزه: يمتلك النموذج والملامح والحدود والتصنيف والتقليد والخضوع والجد ويُفسّر تبعاً لمفهوم الرأي السائد وهو أحادي تأويلي ويوحي بصورة الكائن العضوي، يحترم، موضوع استهلاك، لا يلعب، فضاء تعبيري، فضاء لغة واحدة ـ أما النص فهو: خلخلة التصنيفات القديمة، وراء حدود السائد، بدعة وخروج، لعب ومراوغة، يخضع لمنطق رمزي تعددي، تشتيت، تناص، مزعج للفلسفة، مقاربات، ضد التحديد، يثور على الأدب، يهشم، لعب وعمل وممارسة، دمج القراءة والكتابة، ليس فضاء تعبير بل فضاء افتتان، متعة انتاج ذاتي لا يهدف الى الانجاب، لا أدلة ولكن كتلة من الإثارة"1".

لذلك كان تأجيل الاجابة عن سؤال الملامح ليس هروبا من الاجابة، وهو يتضمن نوعا من الهروب أيضا لكن ليس بالمعنى المتوقع، ولكنه كان هروبا من الاستعجال والاستسهال واستباق وضوح الصورة ـ والوضوح لا يعني عدم الغموض ولا يعني العمق، دائماً ـ لكي يصبح الطريق مفتوحا نحو المضي بالكلام عن القضية الكبرى في الرواية الجديدة: "الممنوع".

أمام برق الأضواء الحمراء الزاجرة بالوقوف والصادرة من خطابات المؤسسة أو المجتمع، أي من سلطات المنع، بمعنى سلطات القبول، وكل قبول يتضمن منعاً وبالعكس، وأمام علامات الصد والموافقة القادمة من عالم الخطابات والمؤسسات، وتداخل هذه بتلك، وفي مناخ توافق أو صراع الخطابات المضادة والايديولوجيات، تقف الرواية الجديدة مثل مرور عازف غيتار ليلي بمحاذاة مأتم، أو كمرور فرقة موسيقية بلصوص يتقاسمون الأسلاب، أو مرور يتيم في حفل أرستقراطي باذخ في حدائق مكشوفة مشمسة: الطقوس هنا ليست هي هناك، والنظام هنا لا يعني شيئاً هناك، والحياة هنا، في الخطاب الروائي، ليست هي الحياة هناك في نظام التماسك والانسجام والتوافق ـ غير العادل والشكلي.

الكلام في الخطاب الروائي لا يصدر من اللّسان لأن اللسان شارعي وعضو اجتماعي يقول كلام الجموع والمؤسسة والاعراف(هناك من يكتب بلسانه) لكن الخطاب الروائي يصدر من اللغة الفردية، من الذات الساردة، وهذه الذات الملغية والمطمورة تحت كل أنواع الخطابات، من اليساري الى اليميني، ومن المقدس الى البشري، هذه الذات الخارجة من بئر الحكاية تواجه في المنع المتعدد المصادر والسلطات والاكراهات، خيارين: خيار الحكاية، اي تجاوز المنع، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات خاصة في دول السرديات العقائدية الكبرى الموحدة والمفسرة كل شيء، أو:" خيار" الصمت، وهذا الصمت الى الموت أقرب.

اللسان مؤسسة سلطوية، ولغة الكتابة فردية، اللسان نشيد، ولغة الكتابة نشيج، اللسان اقرار، ولغة الكتابة سؤال، اللسان قبول، ولغة الكتابة تمرد، اللسان قاموس تشكّل عبر التاريخ، واللغة قاموس فردي تشكل في سنوات أو في منعطفات أو صدمات، القاموس جاهز، ولغة الكتابة خلق، القاموس ذاكرة، ولغة الكتابة خيال...الخ.

ليست هناك اليوم، لا في الرواية العراقية الجديدة ولا في الرواية الجديدة في العالم، ملامح محددة، وكل ما هنالك ملامح لكل كاتب روائي، بل أحيانا تتفاوت هذه الملامح من عمل الى آخر، وكل روائي يخلق ملامحه الخاصة، أي حداثته وأصالته(كما هي نصيحة الكاهنة في رباعية بحر الخصوبة لميشيما:على كل واحد منا أن يقرر الأمر كما يمليه عليه قلبه) وعلى القارئ أيضا أن يخلق قراءته الخاصة، اي قراءته الابداعية، القراءة التي تكون نوعا آخر من الكتابة، اي من التأليف، القراءة التي ترى النص داخل شروطه الأدبية وليست " القراءة/ الجماعية" التي تقرأ النص داخل شروطه الاجتماعية كنص كنسي أو بلاغ حربي أو منشور حزبي، وهي أقرب الى قراءة قارئ مقاييس الكهرباء، قراءة حرفية مطابقة، وهذه القراءة لا تنفتح على نص ولا تنفتح على غيره، فهي نوع من الانغلاق المعرفي والادبي والذوقي لا تتوفر فيها شروط القراءة الأدبية.

التجنيس الروائي، أي تصنيف العمل كرواية، لا يأتي من خلال العنوان على الغلاف الذي يعرّف به الكاتب نصه، ولم يعد التجنيس يأتي أيضا من قواعد في الكتابة الروائية المسبقة، بل التصنيف أو التجنيس يأتي من داخل العمل، وخلال الكتابة وليس قبلها أو من خارجها، اي ينمو خلال الكتابة ولا ينتهي بها، لأن الرواية الجديدة هي نص مفتوح، بمعنى السردية المتتالية المتوالدة دائما في القراءة كما في الكتابة، تبدأ من حيث ينتهي القارئ من الحكاية، أما عقد القراءة المكتوب على الغلاف من قبل الكاتب فهو لا يشكل مدخلا حقيقيا للرواية أو ما يفترض أنه رواية، لأن الرواية الجديدة تظل رواية جديدة ولو كتب عليها مؤلفها أو اي شخص غيره انها علبة تبغ، وعلى العكس تظل علبة التبغ هي نفسها ولو كتب في العقد القرائي التعريفي انها رواية: سلطة الرواية لا تأتي اليوم من العنوان او ارادة المؤلف ولا من الاعتراف والرفض والقبول العام ولا من هوية الملامح، بل من بنية النص ومن غياب الملامح ومن المنع.

1ـ لذة النص أو مغامرة الكتابة لدى رولان بارت ـ عمر أوكان، دار: أفريقيا الشرق، الدار البيضاء