... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
عري

لانا عبد الستار

تاريخ النشر       25/10/2009 06:00 AM


لم يستطع اخفاء فرحته الغامرة يوم أن رأها تطل من النافذة المقابلة لغرفته، فمنذ ايام قليلة كان اخوها يحتل تلك الغرفة، ولم تكن له فرصة لرؤيتها الا في الصباح والمساء، اثناء خروجها من بيتها وعودتها اليه.
كان الشارع المؤدي الى بيتها ينحدر بشكل ملفت نحو الشارع الرئيسي، وكان يحلو له، كل يوم، أن يتأملها في طلوعها ونزولها، ورغم أن ثيابها تتسم بالحشمة إلا ان اناقتها كانت تشد انتباهه، وتثيره بالوانها الجاذبة، فيستوحي من الفستان الأخضر جمال الربيع، ومن التنورة الزرقاء غموض البحر، ومن البلوزة الصفراء دفء الشمس، ومن البنطال البني سحر الصحراء، لينثرها بعد ذلك على لوحاته بتكوينات وتفاصيل شتى.                                                            
 بات يستمع، مع انشقاق كل فجر، الى صوت النافذة وهي تفتح، ويلتقط انفه رائحة الرياحين والزنابق التي زرعتها في اصص صغيرة على نافذتها. كانت تلك الدقائق مفتاح ايامه، وصوت فيروز المنبعث صباحا، وام كلثوم مساء كانا يحركان الوانه بشكل غريب بعد ان ماتت طوال ايام دراسته في كلية الصيدلة التي دخلها بسبب رغبة ابوه الصيدلاني الذي طالما حلم بان يورثه صيدليته وخوفه من ان يصاب ابيه بجلطة قلبية على حد قول والدته إن هو اختار كلية الفنون الجميلة.
انتقل الى تلك الغرفة العلوية بعد ان بدأت والدته تضوج من انتهاكه لنظافة البيت وبعد ان ضاق ابيه من نزق الفنان وغروره الذي بداخله. اصبح يجالس الوانه وفرشاته ولوحاتها غير المكتملة. كان قد بدا يؤذيه احساسه بان ابداعه يموت يوما بعد يوم امام عينيه.
مع كل اشتمام لريحانة من رياحينها، ومع كل صوت ينبعث من نافذتها تبدأ فرشاته تتحرك بطاقة عالية تثير استغرابه. كان يتمنى ان ترفع رأسها يوما وهي تسقي النباتات لتراه. كان يؤلمه انها لا تحس به . افكار كثيرة راودته لكي يلفت . كان يتعمد احيانا ان يتواجد في خط سيرها الصباحي او المسائي مرددا بصوت خافت: صباح الخير، او مساء الخير. كانت تمشي مصوبة نظرها نحو الارض. لم تمنحه يوما التفاتة ولم ترد على تحيته.
بقيت ثلاثة ايام غائبة لم تفتح نافذتها ولم يسمع موسيقى غرفتها، ولم يرها ذاهبة او عائدة. جن جنونه لم تتحرك اي من الوانه. تجمدت فرشاته وتوقف زمنه. في اليوم الرابع قفز من سريره وقد ترامى الى مسمعه صوت نافذتها وهي تفتح. لمحها من بعيد تلف كتفيها بشال صوفي وجهها به شحوب واثار مرض. انتباتها نوبة سعال قوية وهي تسقي نباتاتها. احس بقلبه يتفتت. تمنى لو كان الى جانبها يمسح على شعرها بحنان، يراعيها في مرضها ويسهر عند قدميها. صلى ليالي لتشفى وعندما اخذت تتعافى يوما بعد يوم استعادت الوانه بريقها معها وصارت اكثر توهجا.
يوجعه انها لا تحس بوجوده ولا تكترث لما تفعله قدسيتها والوهيتها في انفعالاته الملونة. كان يكسر نظراته ويلطخ القماش باصباغ تعبر عنها وهو يسمع النغمة التي تحبها تنزل من شباكها.
اخذت لوحاته تكتمل شيئا فشيئا وبدا يعد لمعرضه الذي سيقيمه في الصيف. كان يسرح بمخيلته ويراها معه يختاران معا مكان اقامة المعرض. تصمم معه بطاقات الدعوة. ينسقان معا اللوحات. تستقبل معه الزوار كان يعيش في دنيا الحلم معها ويحزن ما ان يستفيق ليتذكر انها لا تعرفه ولم تكلمه ولا تدري عن كل هذا شيئا.
لوحته الكبرى لازالت لم تكتمل، ينصبها امامه والخوف يتلبسه. ايام طوال يجلس امامها ساكنا ينظر لوجه المرأة التي بدأ برسمها وللجسد الذي لم يستطع انجازه. كل لوحاته الاخريات حركتها الرياحين وموسيقاها ووقع خطواتها الا هذه اللوحة بقيت عاصية. كان يتعمد ان يجلس امامها يغمض عينيه يستحضر بانفه كل روائح الزنابق وباذنه فيروز وزعلي طول انا وياك، وام كلثوم وسيرة الحب. كل ذلك كان يبوء بالفشل.
بدأت ازمته تتفاقم مع اقتراب موعد افتتاح المعرض وبدأ يساوم نفسه على الغاء اللوحة الكبرى والاكتفاء بما انجز الا ان ذلك كان يشكل غصة في قلبه الى ان جاء ذلك الصباح. كان ينام في سريره ومع بزوغ الفجر سمع صرير النافذة اليومي واخترق اذنه صوت ارتطام حصى صغيرة بجدارغرفته نهض من السرير نظر حيث نافذتها.
كانت تطل من بعيد تنظر اليه بعينين مليئتين بالرغبة وبعري يظهر نهديها المتوثبين بحلمتين ورديتين رفعت ذراعيها للاعلى وهي تعقص شعرها للخلف اثار المنظر جنونه راح يمزج الوانا بسرعة. جلس امام لوحته الكبرى، يرسم بلا حدود، بينما كانت هي تنتحب بصمت.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  لانا عبد الستار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni