... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
فخ التيه

عدنان الدراجي

تاريخ النشر       27/10/2009 06:00 AM


عجيب أمري, أين وضعت الشيء الذي كان للتو في يدي؟ لم أغادر مقعدي منذ كان يحتل راحة يدي اليمنى فأين ذهب؟ سأعيد تفتيش طيات ملابسي للمرة العاشرة, لا, لعله سقط من يدي خلال استغراقي بقراءة رواية إيريك ماريا ريمارك (كل شيء هادئ في الميدان الغربي).
أزحت مقعدي ثم أدنيت رأسي تحت المنضدة متفحصا المكان لعلي أجد ذلك الشيء مختبئا بين الجدار وقوائم المنضدة الخشبية لكني لم أرَ غير قصاصات ورقية تكسوها طبقة كثيفة من الغبار وشبكة عنكبوت مترهلة.
تصفحت القصاصات التي أثارت فضولي فوجدت ورقة فحص مختبري أجريَ لدمي قبل سنتين وعددا من القصاصات كُتبَ فيها أرقام هواتف لبعض أصدقائي ولأشخاص لم اعد أتذكرهم وبطاقة صديقي المرحوم طبيب الأسنان, وصورة باهتة الألوان تضمني مع عدد من زملائي الجنود التقطت لنا في منطقة صفوان إثناء التحاقنا بجبهة الكويت, استطعت تمييز وجوه خمسة منهم, احدهم الشاب الأسمر (مقلد الأصوات), الذي أذهل الجميع لنجاته من الموت الأكيد ولتملصه من الأسر بعد انهيار فرقتنا المدرعة وتوغل جيوش الحلفاء خلف خطوطنا الدفاعية, كان ذلك الشهم رفيقي في رحلة عودتي المريرة إلى بغداد في مسيرة شاقة مهولة إلا أن أخباره انقطعت عني تماما بعد أن تجاوزنا الحاجز الأمني الأول على أعتاب بغداد, ليت ذاكرتي تسعفني باسمه ليتسنى لي البحث عنه في قوائم المعدومين بسبب تهمة التخاذل أو الاشتراك بالانتفاضة التي تلت الحرب.
أعادتني كومة الأوراق المتربة إلى ذكريات حميمة مضت، فقمت مسرعا لأودعها في ملف خاص فأرتطم رأسي بحافة المنضدة العلوية الحادة, انبثق ألم هائل أسفل صلعتي الناشئة فانكببت على وجهي لبرهة قبل أن استفيق من هول الارتطام لأنهض بتمهل واضعا يدي اليسرى على موضع الألم ولما تزل اليمنى تمسك برزمة قصاصات ذكرياتي المهملة.
ارتفع صوت المنشاوي صادحا من مكبرات المسجد الكبير مرددا قوله تعالى {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} فنظرت إلى ساعتي وراح قلبي يخفق بشدة إذ أن الوقت مبكر على الموعد المعتاد لفتح المسجد يوم الخميس الذي لا يتغير إلا لإقامة مجالس التأبين وما أكثرها بعد أن فغرت وحوش الظلام فاها, ارتجت النافذة المفتوحة وارتفعت الستارة كشراع في مهب عاصفة فقدرت أن اتجاه الريح قد تغير إلى جنوبي شرقي, أرهفت السمع متتبعا التلاوة إلا أني سرعان ما تذكرت ذلك الشيء الذي افتقدته فانصب همي على البحث الدقيق عنه معتمدا على نفسي.
كم تمنيت أن استعين بزوجتي وأولادي لكن بماذا سأجيبهم لو سألوني عن ماهية الشيء الذي سيشاركونني البحث عنه, بالتأكيد سأبدو كالمعتوه وسأثير سخرية زوجتي وضحكات أبنائي لو علموا أني اجهل ما ابحث عنه. تملكني شعور بالهزيمة فبحثت عن علبة الدخان في (جيوب الجاكيت) ثم في البنطلون من غير جدوى فألقيت بجسدي على المقعد خائر القوى ناقما على الفوضى التي غرقت فيها, أدرت الرواية المنكفئة على سطح المنضدة الأملس لتواجهني فوجدت علبة الدخان تحتها فتنهدت بارتياح وأشعلت لفافتي وبدأت ابتلع دخانها بنهم.
كنت أجاهد لتنظيم شتات أفكاري حين انزلق بصري على الرواية المنفرجة الدفتين فانشغلت حالا بتوسلات (بول) بجثة عدوه الفرنسي الذي همد للتو ليشاركه استنشاق الهواء, حيرني فزع بول من صمت الجثة بعد ضيقه الشديد من حشرجة الاحتضار التي كانت تصدر من القتيل التعيس منذ أن أصابه بول حتى لحظة وفاته, ترى هل كان بول مشوشا إلى حد جعله عاجزا عن معرفة ما يريد, سرقت هذه اللمحة رغبتي في متابعة بحثي عن حاجتي المجهولة ومضيت أتخيل الصور التي وجدها بول في محفظة القتيل إلا أن محاولاتي لم تفلح لامتلاء مخيلتي بملايين الصور التي يتناسب حجمها مع  المحافظ التي عادة ما يعثر عليها في ملابس القتلى.
لم اعد أطيق الفراغ الذي اخذ ينهش راحة يدي اليمنى فقررت معاودة البحث بأسلوب منهجي إذ استفززت ذاكرتي لاسترجع منظر سطح منضدتي المعتاد منقبا عن أي تغيير أو اختلاف في ترتيب أشيائي لاعتبره الخيط الذي سيوصلني إلى حاجتي المفقودة.
بدأت بعلبة أقلامي التي اعتدت على رؤيتها في الجهة الأمامية للمنضدة, أفرغتها من محتوياتها وقلبتها رأسا على عقب وحيث لم أر فيها أي شيء ألقمتها مجموعة الأقلام واعدتها إلى حيث كانت, تفحصت حافظة أورقي الجاثمة في ركنها العتيد, ثم رفعت مجموعة المجلات القديمة من طرف المنضدة البعيد واعدت ترتيبها ثم حركت كومة الكتب من قاعدته فارتجفت يدي تحت وطأة ثقلها غير المتوقع فانهارت المجموعة وهوت نحو الأرض محدثة ضجة كالدوي المكتوم (لقنابر) مدافع الهاون ذات العيار الكبير, افترشت الأرض بمحاذاة المنضدة وأسرعت لالتقاطها وإعادتها إلى سطح المنضدة, كان احدها قد انفتح من جراء السقوط على صفحة كتب في أعلاها (البحث عن الذات) فضحكت وخاطبت المؤلف: أغبطك يا رجل لأنك تعي ما تبحث عنه بخلاف بحثي عن المجهول.
اتجهت بيّ ظنوني إلى درج المنضدة فوجدت فيه مناديلي الورقية وقنينة عطر ودفتر الملاحظات الأزرق وعلبة عيدان لتنظيف الأسنان وعلبة تحتوي على أدوات الحلاقة فأمسكت بمرآتي الصغيرة وتأملت صفحة وجهي المتغضنة وعينيَّ الذابلتين بأسى, كدت أغلق الدرج لكني تمهلت وسحبته إلى أقصى حد فبرز كيس ورقي كبير كان منزويا في قعر الدرج, أخرجته وأفرغت محتوياته على أرضية الغرفة فشكل هرم ذكريات محا الزمن اغلب تفاصيلها, ساعات يدوية شُلت عقاربها وبطاقات وحدات عسكرية ألًصقت بها صور متباينة السحن لوجهي و عدد من العوينات المحطمة ورزمة صور التقطتها في مراحل دراستي المختلفة حتى تخرجي في كلية التربية وعدد من الميداليات الصدئة من بقايا الحرب العراقية الإيرانية ومسبحات متعددة الأطوال والألوان وأقلام حبر مذهبة الأطراف وبوصلة صغيرة علقت أبرتها المكسورة بشظايا سطحها الزجاجي وعدسة مكبرة, كنت أتأمل حاجاتي واحدة بعد أخرى وأعود مع كل واحدة إلى أريج الماضي بما حمل من سعادة وألم ورجاء وخوف وغضب قبل إيداعها الكيس الورقي.
احتضنت الكيس بحرص واعدته إلى موقعه في جوف الدرج ثم ألقيت بثقل جسدي على مقعدي الأثير والتقطت لفافة أخرى من علبة الدخان ومضيت أتأمل حلقات الدخان المتصاعدة بتؤدة في فضاء الغرفة حتى لحظة تلاشيها, أفقت على نداء ابنتي الصغيرة المحموم:
-بابا, هل أنت نائم؟
- مشاجرة أخرى مع أخوتك, أليس كذلك؟
-لا يا بابا, أخبرتنا المعلمة أن علينا إنجاز بحوثنا المدرسية خلال أسبوع.
-وما شأني أنا؟
-بابا, أنا قرأت الموضوع وفهمته جيدا لكن لا اعرف كيف أُجري البحث.
-اذهبِي الآن, سوف أساعدك لاحقا.
مضت الصغيرة فرحة فأسرعت إلى لفافتي وشفطت منها نفسا عميقا مغمغما بأسى: من يدري, لعل هذا الجيل لا يرث تيهنا.                        
                                                     
adnanaldarraji@yahoo.com


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عدنان الدراجي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni