... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
خالي.. عزيز علي

صادق الصايغ

تاريخ النشر       30/10/2009 06:00 AM


بعد اسابيع من وفاته تسلمت من قريبة لي مظروفا فيه صورة لعزيز علي، كان واضحا انها من صوره الاخيرة ، ان لم تكن آخر صورة له، مثل هذه الصور تدفع الواحد الى التمعن، واول ما يخطر بالبال انها صورة وداع او تلويحة مشوبة بحس غريزي باحتمالات موت قادم،

رغم انها ملونة ومرتشة وملتقطة في ستوديو خاص، وحسب معرفتي به فانه لم يهتم بالصور، لكنه هنا، مقاد بغريزة شائخة يجلس على كرسي، والى جانبه ابنته (مي) واقفة وهي وأختاها آخر ما تبقى له من عائلته الكبيرة، فابناء وبنات اخيه الذين تركوا برعايته بعد موت الأب، تفرقوا بمصائر متباينة، بعضهم توفي والبعض قتل، والاخر استشهد ومن تبقى فرّ الى المنافي، اما ابنتاه الاخريان، سوزاو وايفون، فتزوجتا وانجبتا، في حين استشهد عمر، وكان في الثامنة عشرة في الحرب العراقية الايرانية، حين انفجرت الحافلة التي اقلته بصاروخ اثناء عودته في اجازة وكان الابن البكر، علي قد مات هو الاخر وعمره سنتان، ولست استطيع محو هيئة عزيز علي، يقطع دربونة (عكد) النصارى الضيقة حاملا بين ذراعيه ملاكه الصغير لينقله بالتاكسي الى مثواه الاخير. انه وجه طفل، رغم الغضون. غمغمت وانا احدق في الصورة. بعض الطاعنين يراوغون الموت، بشرتهم تنكمش، وعيونهم تضيق، وجمجمتهم تتقلص، وشعرهم يشيب حتى آخره، لكنهم يكمنون دائما في ضحكة طفل، ولو تحدثوا لزاد اعتقادك بعبثية المفارقة، هل يمكر خالي اذن بضحكته هذه، ام انها فلسفته الموسومة بالتحدي حتى وهو على عتبة الموت؟ تذكرت الماحتين الاولى لسيدة تشيكية تأملته يوم كان في براغ والتفت اليّ قائلة. ابتسامته ساحرة، من اين له مثل هذه الاسنان؟ والثانية قول للروائي التشيكي ميلان كوندرا، اوه الضحك، الضحك هو العيش بعمق لا نظير له. واعتقد ان هذا ما احسته المرأة التشيكية في عزيز علي ولم تستطع التعبير عنه بدقة، وهو ايضا المضمون الذي يملأ مخيلتي كلما استذكرته وفي المضهد الزمن يقصف والاطفال يولدون ويموتون وابتسامة عزيز علي، انها تعيد الى الحياة شيئا ضروريا شيئا لاتعثر عليه حتى في الوجوه المتفائلة، انها بتركيز اكبر، متحدية وعميقة وتهتز لحساسية العصر، لذا، فان لاينتكس عزيز علي هو انتصار شخصي لي، انتصار للعائلة، لمخيلتي الشعرية وللزمن العراقي ككل. متى احسست بوجوده أول مرة؟ كان يوما ربيعيا على ما اذكر، وكنت انا في رحلة طفولة او حلم، امي سحبتني من يدي وقالت: -سنذهب لنرى خالك في السجن. هكذا وجدت نفسي الى جانبه نجلس على بطانية فرشت في باحة السجن، وحولنا اناس يروحون ويجيئون وكأنهم في (كسلة) كانت امي مشبوحة تسأله عن المصير وهو يلهو بصماخي الحليق درجة الصفر، مطلقا في حناياي نزوة الضحك الكبيرة وانا من ناحيتي كنت سعيدا لان صماخي واذني الكبيرتين كانوا من ناحية مادة الضحك، ومن ناحية ثانية، غطاء لاطفاء وساوس الوالدة، ولقد كان هذا المزاج هو (نوتة) عزيز علي الموسيقية وهو نعمته الكبرى في قراءة الاحداث والنوازل، وانا كنت منحازا له ضد امي، اما الالم فقد كان راكدا في القاع، وكلما تقدم بي العمر زادت معرفتي بمساحته وزاد اعتقادي بأن الطاقة الاوقى التي انارت طريقنا جميعا. انا واثق ان في ضحكته اصلا من الالم العميق لم يكن يريه لاحد، وكلما ادرت شريط (امان امان) وبغداد وهما من اوائل اطلاقاته الغنائية في 1929 امسك بي ذلك الوجع الداكن، ولو تمعنا فيهما مجددا لوجدنا انفسنا قريبين من قلبه، وعدا الالم فانهما ظل جمالي ازرق فيهما يتبدى السبك الموسيقي لرهافة الغريزة. ياهل العرب/ كل شي انكلب/ شفنا العجب/ من هالزمان بس يازمن/ شفنا المحن/ غازي اندفن/ جوه اللحود دنطينا حكنا/ وتجفي شرنا/ مشكل امرنا ولك يازمان وبفضلهما نتوصل الى فجائعية اوزان موسيقية يندر وجودها في الالحان المشابهة (امان امان) كانت عن مقتل الملك غازي، وهو كما نعرف- ما اقل ما نعرف عنه- مغدور على يد الانكليز، متمرد ومساق بضرامات الشباب ويبدو لي انهم قطعوا نفس العراقيين عندما اعدوا له ذلك الكمين الفاجع. ان تجربتنا في الحزن معروفة اغلبها بكائيات يائسة ومبتذلة يستوي في ذلك اللحن والكلام لذا ففي هذا السياق تبدو (امان امان) رفعة تتعدى قصر النظر الموسيقي السائد في المجالين انها جنائزية جليلة يسلخ فيها الجسد، لكن الروح تبقى معاندة ومتحدية حد القسم المغلظ، ويتم التعبير عن هذا بالموسيقى باعتبارها اداته الاساية، اداته الستراتيجية هذا التأليف يجعل من عزيز علي احد ارقى صعدات الموسيقى العراقية، وبرأيي ، وبصرف النظر عن المناسبة، فان (امان امان) تجدر باعادة نظر اوركسترالي، فمساحة الحانها واسعة ومتعددة وضرباتها تصل الى القلب العراقي، محيلة اساه الى سمو ومغيرة يأسه الى ارادة عادلة. انني ابحث في ذاكرتي عن عزيز علي الحقيقي فارى الذكرى تتحول الى دوائر مائية، ويبدو لي في بعض الاحوال انه شخصية فانتازية تثير خيالي الطفولي ولاني مسكون بشيطان التساؤل فقد كان همي ان اراه لا كما يراه الاخرون ولا كما ينقله الوصف الخارجي له، لقد كان وضعه الاخاذ يملأني بالدهشة وتأتي النتيجة بلا شيء، فأزعم انني لم اره وبأن ما مضى هو مجرد اضاءات غامضة مضت بسرعة. ها اني التقط احدى الومضات، عزيز علي يحمل طفله الميت (علي) يقطع افياء عقد النصارى في الصيف ووراءه جمع من النسوة، بينهم افراد العائلة وبعض المارة واطفال ووجوه مستطلعة اخرى، بعدئذ يصعد عزيز علي درجات عقد النصارى ويدلف الى سيارة تاكسي. واين كنت انا؟ في حلم غامض بلا شك وليتني استطيع تحرير خيالي من بدلته البيضاء، لقد كان هذا الرجل مشعا ضمن مساحة رؤياي، مرة يأتيني على شكل موجة واخرى على شكل قامة فارعة، وانا بقصر نظري حائر ومشدوه. لكن لماذا اروي هذا؟ لاقول انه يحضر من الفانتازيا الى الواقع بشكل حاد، بشكل قامة فارعة كما قلت، لقد كانت قدرته على التعامل مع الفواجع مشهودة، فهذا الرجل تعودنا كأداء يومي يمر من الالم الى البهجة وبالعكس، واظن انه لم تمض فترة طويلة على ذلك الحادث الحزين حتى ظهر في خيالي ببدلته المشعة البيضاء على قاعة سينما غازي في الباب الشرقي ليغني اغانيه السياسية امام جمهوره المشغوف فكان لم يحصل في داخله سوى تبدل فصول، وسوى ان الجرح تحول الى غناء، اما انا فقد كنت محشورا في طفولتي، روحي تبكي فرحا، وفي داخلي رغبة مكبوتة هي ان ادور على مقاعد الجالسين لاخبرهم واحدا واحدا، ان من يرونه على المنصة هو خالي.. خالي عزيز علي!. لقد كانت تلك هي حفلته الاولى والاخيرة على مسرح مفتوح، اذ لم ارَ او اسمع بأنه فعل ذلك من قبل او من بعد كان يكره ان يوصف بأنه مغن، وقد زاد نفوره بعد ان اشير اليه كمطرب في واحد من الافلام المصرية- العراقية الملفقة اسم الفلم (ابن الشرق) قام ببطولته حقي الشبلي ومديحة يسري، وظهر فيه بأدوار ثانوية فخري الزبيدي وعراقيون اخرون لا اذكرهم، وحسب تقاليد افلام ذلك الزمن حشر حضيري ابو عزيز في اغنية ترفيهية، وظهر عزيز علي هو الاخر ليغني واحدة من اسوأ اغانيه كلماتها تقول (ياعمامي ياخوالي صارت الدنيا تحلالي)! منذ وقت مبكر وانا اسمع منه في مناسبة واخرى، انه ليس مغنيا بالمعنى الشائع للغناء، وانه لايحب ان يوصف بهذا الوصف الذي ليس له اذا ماذا هو؟ وهل يتضمن الانكار احتقارا لفن الغناء الذي يجري في دمه وقال انه اسلوب رقيق للسمو الروحي؟ واضح انه كان دقيقا مع نفسه، فالطاقة التي فيه هي طاقة مركبة لها، اذا اطلقت مفعول التأسيس، وهو علانية، مؤسس مسكون بفن جديد سينضج على يديه، فن بعيد عن الابتذال والدنس اليومي وغباء الالات الادمية. في محاولة لرفع الالتباس توصل الى المونولوج، المنولوجست لكن هنا معضلة اخرى، اليس هذا هو التهريج بعينه، اهو علي الدبو في بغداد، او شكوكو في مصر او غيرهما وهناك؟ لقد دفعته ثقافة لغوية مشهودة الى البحث في القواميس الاجنبية، يقول في مقدمة دفتر اغانيه، مونو- لوج مصطلح يوناني لاتيني مركب من كلمتين (مونو) تعني (واحد – فرد) و(لوج- لوجوس) تعني الكلام وتركيبهما مع بعضهما يعني (المقال الفردي- الخطاب).. غير ان مضيه في البحث عن التباس اخر كان غير ذي بال، فما ورد في بال احد ان يصنف عزيز علي في خانة لاتسعه، فاتساعه الحقيقي هو اتساع الشارع وايقاعه المجهول الاسم، هو ايقاع الحياة العراقية بأعمق اشكالها حيوية ودفقا، وليس يهم قطعا ان ينشغل عزيز في البحث عن اوصاف لاتعني احدا، فالاهم قطعا انه اول عربي يستصلح ارضا جديدة وينتج فنا سياسيا يتطابق والحياة المعاصرة ويترك ابلغ الاثر في حياة العراقيين، اما فيما يتعلق بموقفه من الغناء فقد كان مستشارا بالرتابة والضحالة، والحشرجة والتخلف والندب والنواح الخ وكان يردد قولا محرفا اسمعني موسيقى شعب انبيك بمدى حضارته، بل حتى بموقعه الجغرافي.. وفي رأيي فان طلعاته في التلفزيون يهاجم فيها الغناء المائع والشاذ، والمقام العراقي بصيغته الجامدة كانت محببة وذكية لكنها ليست دقيقة بما يكفي لان تسمو الى موقع الاختصاص وهو لحسن الحظ، انسحب تاركا للزمن الادلاء بدلوه، وكان واضحا ان ما رآه طيشا كان تعبيرا عن انحطاط شمل الحياة العراقية ككل، ولعله احس ان رومانتيكته النقدية تخنق طبيعته الاكثر حيوية، فلماذا يهتم بأغاني الاربعة فلوس، وهو ببشاشة فنه الضاحكة يستطيع تحريك حياة؟ كانت بغداد، حتى نهاية الخمسينيات، تزدهر على سجيتها في الرصافة وعلى امتداد شارع أبي نواس اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، الطبقة المتوسطة كانت تقاوم تسلط العادات وتحاول طرد الضجر والرتابة في الاندية والبارات والملاهي الليلية، حيث تتمرد الاحزاب بطرق جارحة وتظهر الراقصات والمغنيات بأزياء بغايا وبالعكس وفي الليل تظهر اختلالات المدينة بشكل سافر ويظهر الجمهور المشاغب بمظهر المستمع الامين لفن الغناء ومن لواحق هذه الالعاب ان تعلق صور الراقصات والمغنيات على أبواب الاندية والملاهي على انهن فنانات، اما في الداخل فالاسرار تنبجس بدون قناع، ومن هنا يجري تسريب بعضهن الى دار الاذاعة التي كانت بالنسبة الى ذلك الزمن، القمر الصناعي الوحيدة الذي يبث تقاليد الغناء الى اقاصي البلاد ولم يكن عزيز علي الا اخلاقيا فميا يتعلق بثقافة الغناء البغدادي الذي يبدو ان صياغاته وتشكيلاته كانت تجري هناك، فمن منطقة البؤس هذه حيث تجري عمليات العرض والتأجير تولدت اسواق عامة للاغاني لكن الى جانبها وربما من كمها العددي ظهر النوع الثاني، ذلك الذي قدمته المجموعة اليهودية، وزكية جورج على الخصوص بالاضافة الى شوارد الفولكلور والصياغات التي تتشكل على يد اهل الله، بالصدفة او بالغواية او بفعل مواهب بدائية، لقد كان عزيز علي يحب هؤلاء ويستسلم لالحانهم كما لو كانت من قلبه. اذكر انه غنى اغنية (تاذيني) في السفارة العراقية في براغ عام 1962 امام وفد عسكري زار البلد برئاسة وصفي طاهر، وكان عزيز علي يعمل دبلوماسيا في السفارة ولشد ما تمنى عليه قاسم حسين السفير آنذاك ان يغني واحدة من اغانيه لكنه ولسبب ما لم يفعل، وبدلا من ذلك فاجأ الحاضرين بأغنيته المفضلة (تاذيني) لزكية جورج، كان شيئا غريبا ان تتحول معاني هذه الاغنية البسيطة، بأدائه وعلى فمه وبدون موسيقى الى كلمات لؤلؤية، فكأنك تسمعها لاول مرة، والسبب في رأيي هو ان عزيز علي لم يكن يغني فحسب بل كان يشعر ويشرح ويتهدج، وهذا في رأيي ايضا هو الاضافة التي تنسب لما اسميه بالغناء التعبيري. سألته بعد انفضاض المدعويين لماذا غنى تلك الاغنية فقال: لست اعرف، لكني شعرت بحزن جارف، فالبلد يحتدم والدنيا تكفهر والمستقبل يتوعد ببدء الصدام المدوي، لقد احسست بعمق الجرح فما وجدت غير تلك الاغنية على لساني، وكان احساسي عميقا بأنها ستوحدنا في تلك اللحظة. لقد كان مصيبا في تعرفه على دفين تلك الاغنية، والاغرب انه كان بمخيلته المرهفة يحول هذه الاغنية الى رمز وطني، وهو بتلقائية وبحنجرة تعرف الالم حول مخيلة الحاضرين معه، دافعا اياهم في غير الوجهة التقليدية التي يعرفها الناس عن تلك الاغنية. عند منطقة الوادي في كربلاء وقريبا من بيت المتصرف كان بيت عزيز علي وكان هذا بالنسبة لي انا الطفل الذي يأتي في العطلة الصيفية من بغداد الى كربلاء بمثابة عالم ما قبل الهبوط الى الجنة، البيت بناء شرقي تقليدي مؤلف من باحة وحديقة وغرف ذات اعمدة خشبية ومكامن لاعشاش السنونو وسرداب خالد موصول بباب الجنة وهواء بارد، وظلمة ظهيرة ساحرة واحلام تورق لتهبط بالروح الى مهاوي النوم وغفو الطفولة في هذا المكان كان عزيز يحرث مكامنه، اعني في الباحة ذات الطابوق الفرشي المرشوش عند العصر يحضر عبدالوهاب ايضا، كل صور افلامه وبطلاته معلقة على الحيطان (رصاصة في القلب) مع راقية ابراهيم (يحيا الحب) مع ليلى مراد (لست ملاكا) مع نور المهدي، كذا مع رجاء عبد والخ، اما هو فيجلس على التخت وبيده العود خلال اسبوع يتوجب ان يولد هنا مخلوق كامل يتألف من كلمات ولحن واداء، خلال اسبوع يتوجب عليه الذهاب الى بغداد لاجراء التمرينات مع الكورس والعازفين ثم اطلاق الحركة الاخيرة امام المايكرفون ببث حي، هل يحصل هذا في بلد آخر؟ وهل يعتبر ضغط الزمن آفة ام ضمانة للخصوبة، المكثفة؟ هل يذكر الناس حرقة الترقب والاثارة التي تشتعل في عيونهم عندما تعلن ساعة اذاعة بغداد السابعة عصرا كل اربعاء؟ هل يتذكرون كيف الشوارع تخلو والحركة تهدأ والكل نساء ورجالا وشيوخا لصق الراديو، الى ان ينبجس صوته ليفرض الصمت المتلهف في العيون والاحداق، وليتسلط على الوطن الكبير بهبوبه المجنح؟ نعم على ذلك التخت كنت ارقبه، العب في الباحة وهو يعزف ويدندن، يكتب ويشطب ويعيد التصحيح، الى ان تفلت منه صرخته الشهيرة (ابن الكلب!). ثم يقبل عند ذاك نحوي فيحملني بيديه، او يدور بي في الباحة ممسكا بيدي، او يقذفني الى الفضاء فأهبط، غاصا، الى ذراعيه، اما (ابن الكلب) فهو المعادل لـ(وجدتها) يقولها لي، ويطلقها في وجهي بعد استعصاء لحن او بيت، وهو في تعبيره الاثير هذا يمنحني اقصى حبه لانه انذاك كان بلا ذرية وكنت انا عنده الاحب، او على الاقل ثلثاي منه وعليه، كما يقول المثل الشعبي. يوما ما، قلت له، وكان يشرح لزائريه معنى المونولوج مصرا على انه (منشد) لامغنٍ: -الناس ياخالي لاتهتم بفروقات الالقاب، فما الضير في ان تكون مغنيا او ملقيا او منشدا او مونولوجست؟ انت ياخالي عالم خاص، انت تهز البلد، فما لك مشغول بما لايقنع احد؟ التفت الى زائره وقال: -شوف الابن الكلب، دائما اقول لو كسرت عظمه يطلع شيوعي! اما انا فأردفت: -هناك ياخالي غناء تعبيري لا يأبه بالتطريب، وانت ضمن ندرة، منهم ارمسترونغ مثلا، لست تطريبيا، صوتك طيف عريض يغطي مساحة حياة كاملة، وامتيازك ان اي انسان يستطيع ان يغنيك بمشاعره دون ان يحتاج الى صوت جميل. كان هو يستمع بذكاء يمنعه ان ينخدع بشيء، وعندما يتمتع عن المداخلة يلجأ الى جملته الاثيرة. -ابن كلب، الم اقل ذلك؟! نفس (ابن الكلب) تلك يهش بها ويبش من الباب عندما يزورني في المواقف. في العام 1956 ايام العدوان الثلاثي على مصر وقف وراء القضبان في باحة موقف الدوريين واطل على مجموعة الموقوفين المحشورين في مساحة ضيقة، هم بدورهم ما صدقوا انهم امام عزيز علي المتظاهر بأنه غير معني بغير ابن اخته وبأن السجن لم يكن يوما ما مسقط رأيه غير انه هو المعمد بالضحك، اطل من قناعة ليخاطب الجميع: -ستغيرون العالم مو؟ كانت جملته تلك فسحة للتنفس ولم تمض دقائق حتى شاع الاسترخاء المعاتب وتتالت ضحكات رنانة ومؤنسة: -مع ذلك فستلتهمكم الكبرياء. واضاف بضحكة عريضة: اعلموا ياجماعة، هنا لاتنبت شيوعية، في احسن الاحوال ينبت هنا زعرور! وفي الوداع قال: لا احب ابن الكلب هذا لانه يسبب لي مشاكل كثيرة، كما لا احب شيوعيتكم، مع ذلك (فما العمل) كما يقول المعلم لينين اذا كنت انا احب الاصالة؟. يجب الرجوع الى اخلاقيته التي تكره التناقض وفي اخلاقياته طرح الصراع على ارض مكشوفة ولقد تسبب رفضه لان يحشر ضمن الطائفة اشكالات اضافية حتى بين المقربين اليه، خاصة وانه يترجم تحدياته الى سلوك يومي، فأسماء ابنائه مثلا تدرجت كالتالي (علي، عمر ايفون، سوزان، مي ) اي تجمع لحبال الروح العراقية في وحدة تتجاوز الطائفة والعشيرة والدين والعصبيات الاخرى، وتبدو اليوم وكأنها رد على مايعصف بالعراق من رياح تتقصد فصله عن جذوره وتقطعه الى اوصال، حتى انا عجبت لما سمى ابنه الثاني عمر، ولقد عبرت بتردد لزوجته نورية عن حيرة كظيمة، فكأني نسيت انها هي الاخرى يهودية اسلمت بعد الزواج، واذكر انه بعد ان نقلت له حيرتي، خرج من السرداب بالبجاما ليقرص اذني قائلا: عليك ان تقرأ كثيرا لتعرف من هو عمر، لقد كانت تلك نقلتي الى رحاب معرفية اخرى، وعرفت بعد تنقيب في المكتبات كيف يفسر الدين الواحد بعدة السنة غريبة وشاذة وجاهلة، وكيف يتوجب النظر الى الاصالات بدون اية شروط مسبقة، والان انا اعرف انه من اجل خاصيته تلك ولكونه يحمل وجه المفكر الذي يهبط ويصعد في مجرى زمنه الحقيقي، فقد تعين عليه ان يدفع ثمن ماضيه وحاضره، لقد وجدت وانا اراجع مقاطع الزمن اننا تشردنا لاسباب متشابهة، كلانا ذاق طعم الاعتقال وتهافت السياسة لكنه هو وحده الذي واجه الموت، وهو من قضى اكثر من تسع سنين من مجموع خمس عشرة وراء القضبان، هو وحده التقى بوجه موت مجاني، فلا احد يرى ولا احد يسمع او يسأل فالجميع في جبهة وطنية وانت وحدك في اتجاه آخر، افليس عجيبا ان يختصر كل تراث عزيز علي، كل حضوره الاصيل، كل فضائه الممتد على سقف العراق، بزنزانة صغيرة، اي مجد ابقي لسارق النار، واي عراق غريب هذا الذي تحول على يد صدام حسين الى سجن له؟ يمكن لمن يعرف كيف يقرأ عزيز علي جيدا ان يتوصل الى ان منظومة افكاره قلبت العراق صفحة صفحة، اذ لا تفصيل او سياق تاريخي حبك بهذه المهارة وعولج بمعرفة صادقة للبلاد وبنبض انساني يمهد لعصر التعدديات والجماعات الانسانية العريقة، لكنه كأي متحرر ومتنور وممتنع اكل من داخله في زمن الجبهة الوطنية، اكله تخلف العشيرة والمؤسسة والدولة وبالتالي سحق صوته مع صوت الجمهور بصرير الالة الصدامية. لقد زرته في سجن ابو غريب بعد ان حكم عليه بخمسة عشر يوما، لم تدم المحاكمة اكثر من خمس دقائق، ذكر فيها الاسم والعنوان واشياء روتينية اخرى، ثم صدر الحكم الذي اعد مسبقا، كنت افكر وانا اعبر ممرات السجن الشاسع وامعائي تكاد تفرغ ما فيها من شدة الالم، وكيف تفكر هذه الروح بما اعطت وما اخذت ؟ كيف وهي التي حرثت الارض وقلبتها من اجل الزراعة؟ اكانت اذن حمقاء عندما نابت عن شعب كامل؟ هل يمكن ان تتفكك المعاني الى هذا الحد فتصبح مضحكة من شدة فجائعيتها ومن شدة استعصائها على التصديق؟ عندما التقينا تعثرت التمتمات وامحت الجمل وغاب عن ذهني ما يمكن ان يقال، رعفت بصري مرات، ثم غضضت الطرف مرات اخرى ثم سكت لي لا اتخبط في الحديث عن لاشيء. هو، بذرة ما تزال تحمل في طياتها شيئا من البشاشة القديمة تساءل: -هل تكتب هذا في الجريدة؟ لاشك انه يسخر مني، اية كتابة، واية جريدة، في (الف باء) التي كنت اعمل فيها موظفا ام في (طريق الشعب) التي كنت اعمل فيها محررا وكانت مورطة في طيرانها الحالم عن آفاق التحالف، بعيدا عن فحيح الواقع وعبثيته؟. كنت في داخلي اعرف ان لاشيء يجدي لقد ترك عزيز علي لعزلة لها الف موت، وفي غياب الجرأة، وغياب الحيلة، وغياب حساسية الاحتجاج يمكن ان يحدث اي شيء، يمكن ان تتحول المعاني آنذاك الى حروف ساكنة لاتعني احدا ولا يحتاج اليها احد. للحق، لاشيء يدحر ضحكته الحكيمة، ضحكته المبطنة الذكية، كان يعرف طبعا ان الجبهة مسخرة وان احدا لايستطيع شيئا، وان عليه، كالسابق ان يواجه مصيره وحده، او ان يكتب لصدام، كما فعل ويفعل الاخرون. وهو في السجن اخبر بموت زوجته نورية بالسرطان، وكان قبل موتها بأيام طلب من ادارة السجن ان تسمح له بالقاء نظرة وداع اخيرة، لكن طلبه رفض وبعدها استشهد ابنه عمر.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  صادق الصايغ


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni