... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الصـور

لؤي حمزة عباس

تاريخ النشر       04/11/2009 06:00 AM


(1)

ثمة نوع من الأصدقاء يظل محافظاً على حضوره الواهن، مثل خيط لا يكاد يُرى، في حياة الجماعة، مثل بطانة ستارة، شفيفة مخرّمة، لا يمنع ضوءاً ولا يصدّ ريحا بانتظار لحظة ما تنقله إلى موقع جديد. كان يوسف حنش من هذا النوع. إنه بطانة الجماعة بحضوره المخرّم، وخيطها الرفيع. ربما ما قرّبه إلينا أول مرّة هو صوته الغريب. صوته الذي يعلو بنبرة عميقة واضحة مثل أصوات مدرسي التربية الدينية، لكنه سريعاً ما ينكسر بنعومة مفاجئة تضطره لأن يبتلع كلماته. يصمت قليلاً ويفرك مقدمة حذائه على الأرض كأنه ينشغل بسحق عقب سيجارة لا يراه غيره. يسحب حذاءه ويجرّب أن يقول. لكنه يظل محافظاً على صمته. محتمياً من عيون التلاميذ. خجلاً من البنت التي تنام في حنجرته. في نهاية الدرس ومن بين ضجيج الأولاد ناداه ياسين: حنش. لم يكن في متوسطة الرشيد حنش غيره. إلتفت سريعاً فتحركت ممحاته المعلّقة بخيط على رقبته مثل جرس الماعز وعلى شفتيه شبح ابتسامة. ربما لأنها المرّة الأولى التي يناديه فيها أحد باسم أبيه. اسم أبيه الذي لا معنى له. فما معنى أن يُسمى رجل باسم حية عظيمة سوداء ليست من ذوات السموم. فتح ياسين معجم الصحاح بطبعته المدرسية المجلّدة ووضع خطاً بقلم الرصاص تحت التعريف. خطاً متعرّجاً مثل أثر حية على الورقة. لم يكن صوت يوسف هو ما وطّد حضوره بيننا، كما لم يكن اسم أبيه أو ممحاته المثقوبة المعلقة بخيط على رقبته. كانت مسروقاته من جنة أخيه هي ما غيّرت موقعه في حياتنا. رفعته من مكانه في آخر الصفوف حيث بالكاد تبدو لمّةُ شعره لتضعه في قلب الصورة. بمواجهة الكاميرا. مكان أقرب إلى الحلم والمستحيل.


(2)
كان سعود، أكبر أخوة يوسف، يعمل ميكانيكاً على إحدى ساحبات ميناء المعقل. بقامته القصيرة الممتلئة وشعره الكثيف الواقف كأنه زُرع على رأسه شعرةً شعرة. لم يكن يعود آخر النهار بالدهن وحده وقد لوث يديه وطمر لون بدلته، ولا برائحة عرقه الفائحة، كان يخبئ تحت البدلة، على الجلد مباشرة، ما يأخذه من البحارة الهنود والباكستانيين من مجلات مقابل أرباع العرق التي يخبؤها في جيب بدلته الداخلي بانتظار اللحظة التي تدخل فيها إحدى الناقلات إلى الميناء. مع ضجيج المكائن واقتراب الناقلات يتسارع تلويح البحارة وهم ينحنون على المساند، ويتعالى تصايحهم بفصاحة مضحكة وتنغيم: زحلاوي.. زحلاوي.

(3)
بعد حوالي خمس سنوات، مع أول قذيفة تطلقها إيران على ميناء المعقل سيموت سعود ولما يكن قد تزوج بعد أو أكمل الثلاثين. ستتشظى قامته القصيرة، وقد نزلت القذيفة عليه مباشرة كأنها قذيفته، ولا يُستدل على جثته إلا من فروة رأسه التي عُثر عليها ملتصقة على الجدار.

(4)
أسند يوسف دراجته الهوائية الصفراء إلى حافة الجسر وسبقنا متقافزاً إلى الضفة. كان يفتح رجليه مع كل قفزة متجنباً الأشواك. أمسك ياسين بيدي واندفعنا نحوه. كانت قدميّ تتخبطان فأحسُّ الأشواك تتكسر تحت حذائي. رفع يوسف ذيل قميصه وسحب بيدين خفيفتين مجلة أجنبية من خلف حزامه. لم نكن قد رأينا جسداً نسوياً عارياً حتى تلك اللحظة. كانت أجساد النسوة تقفز من شاشة سينما نادي الميناء الرياضي إلى رؤوسنا. أجساد عامرة تلمع تحت بريق الشهوة. تتأوه تحت سياطها. أجساد الراقصات في كثافة دخان المراقص. أجساد البطلات على الشواطيء. بالأبيض والأسود أو بالألوان يحرّكن دفق دمائنا كلما وصل الفلم إلى لحظته الذهبية. اللحظة التي تلبط البطلة فيها مثل سمكة بين يدي البطل. اللحظة التي لم نكن نراها أبداً. فحالما تتلاقى الشفاه وتبدأ الأجساد بالتلوي ينقطع المشهد. كأن فماً جباراً يبتلع اللقطة بأبطالها وبطلاتها ويتركنا نتقلب على الجمر. كان يوسف يتصفح أوراق مجلته. يقلّب طبقات عوالمه. طبقة بعد طبقة تنفتح العوالم، وتضيء المشاهد السينمائية المحذوفة أمام أعيننا دفعة واحدة. ساطعة بأجسادها البضة، وجلودها اللامعة، وزغبها الناعم المبتل. أقسى من قدرتنا على التخيل وأمضى من أحلامنا. أجساد تصيبنا بالدوار. وتحشرج الكلام في حناجرنا.

(5)
كانت الصور تعيش في ذاكرتي حيةً. نظرةً. لها رائحة وطعم. لها ملمسٌ دافئ غريب. لا تستقر نساؤها على حال. إنهن يتقلبن في ليل وفي نهار. أفتح المجلة وقد استأجرتها من يوسف يوماً أو يومين فأرى النساء أنفسهن الشقراء الرشيقة والسمراء الممتلئة، لكنهن يتخذن وضعيات مختلفة. أغلق المجلة ثم أفتحها على الفور فأتأكد أنهن يعبثن بي كما يعبث بي البحر الذي يتبدل لونه خلفهن، والرمال التي يستلقين مسترخيات فوقها. الصور تكذب. والمجلات تكذب. والأجساد تكذب. أمسك عضوي وأضربه على الحائط بعد أن باغتني فأطلق قذيفته اللزجة ولوّث المجلة.

(6)
انطلق صوت يوسف مثل أصوات معلمي التربية الدينية وقد هالته رؤية أكثر من صفحة من صفحات المجلة مكرمشة حالت ألوانها بعد أن حاولت مسح القذيفة عنها بالماء. عرفت أنها لن تعود إلى أول حالها، وأنني لن أتمكن من تأجير مجلة مرة أخرى فسخّنت المكواة ومررتها حذراً على الصفحات. لم تكن تبدو على أجساد النسوة المبللات طيةٌ واحدة، لكنني واصلت الكيَّ حتى انتبهت لألوان الصور التي أخذت تبهت كأنما كنت أحثو عليها التراب. سكت يوسف وهو يحدّق مشمئزاً. إنه يتصورني وقد فعلتها على الصور مباشرة. بعد أن مررت عضوي على الأجساد. لمستها جسداً بعد آخر. وتوقفت طويلاً عند مغاورها اللدنة. حاولت أن أفهمه بأن القذيفة انطلقت رغماً عني. وأنني كنت أفكر بالصور وهي تكذب والأجساد وهي تتبدل. تغيّر وضعياتها. لا تشبه أنفسها. ضحك ياسين. من بلاهة ضحكته عرفت بأنه يفكر مثلي بالأيام التي ستمرُّ من دون أن يُسمح لنا فيها بتأجير مجلة أو رؤية صورة. بصوت البنت التي تنام في حنجرته أسدل يوسف الستار على جنة الصور، وأطفأ الضوء عن مشاهد اللحظات الذهبية. لن تروا مجلة مرة أخرى. قالت البنت. حدجنا بنظرة معلّم التربية الدينية من دون أن يعبأ كعادته بصوته وهو يخونه. وضع المجلة تحت حزامه، على الجلد مباشرة، وأنزل القميص، صعد الضفة متحاشياً الأشواك ثم ركب الدرّاجة وانطلق بعيداً. بقيت مع ياسين. ننظر إلى الجهة التي غاب فيها. بانتظار اللحظة التي يغيّر رأيه فيها ويعود. ولما طال انتظارنا وضع ياسين يديه على فمه وصاح بأعلى صوته: حنش.(عن كيكا)

كاتب عراقي، البصرة
loai65@hotmail.com


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  لؤي حمزة عباس


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni