... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
العراقيون وتعلم التسويات

د. جابر حبيب جابر

تاريخ النشر       17/11/2009 06:00 AM


أذكر أن أحد الدبلوماسيين الأجانب العاملين في بغداد وصف حياتنا في العراق بأنها مثيرة وخالية من الرتابة، إذ أن دوماً من المحتمل أن يأتي الغد بغير المتوقع، بالطبع هو لا يعني كما باقي الشعوب ترقب تغييرات الطقس، إذ أشك أن يكون هناك عراقي يراقب الحالة الجوية كونه يعرف سلفاً أن الجو سيكون نفسه طيلة ستة شهور وهكذا، ولا أن مكمن الإثارة في الحياة الاجتماعية إذ أن العراقي ينطبق عليه القول «خسران من تساوى يوماه»، فهو خسارته مجسمة ومستديمة حيث تتساوى عنده ليس الأيام بل السنون، إذن يبقى المقصود حتماً هو المشهد السياسي، فمراقبة السياسة العراقية دائماً ما تتسم بحبس الأنفاس، وفي كل عقدة مفصلية، حيث يُظن انه لن ننجح باجتيازها، وانه سينفرط عقد تفاهمات السياسيين وما سيستتبعه ذلك من تداعيات إذ سيتلقف ذلك أجنحتهم المتوثبة للعنف وأيضا شارع لم يغادر بعيداً تخندقاته الفئوية وأجندات خارجية جاهزة للاختراق، إلا انه بشكل أو بآخر غالباً ما نجح العراقيون في عبور الخوانق التي تعترض مسيرتهم دون أن يسقطوا في هاوية المخاوف، بالقطع أن تحول دولة عاشت لنصف قرن في ظل أنظمة فردية ليس بالأمر اليسير ولا جعل مكونات عاشت المخاوف والتغابن لجهة الاستئثار بالامتيازات أو التهميش في الحقوق وقبولها الركون إلى قاعدة الإنصاف ومغادرة ارث مظالم الماضي والتوجس من المستقبل هو أيضا ليس بالسهل، لذلك تبقى مراقبة المشهد السياسي العراقي تمتلك إثارتها ليس للعراقيين فحسب بل لجزء مهم من العالم الذي ما انفك منشغلا به، فقانون انتخابات لا يعدو نظرياً أن يكون أكثر من آلية توضع لإجرائها، ما كان سيثير أو يرد في نشرة أخبار لو جرى في مكان آخر من المعمورة بل ولا حتى الانتخابات كانت سيعرف بها العالم أو يكترث بها من غير المختصين، ولكن مرد هذا الانشغال أقله لأسباب ثلاثة، كون أن القوة الرأس في العالم، وأعني بالطبع الولايات المتحدة، ترقب تطور البلد انتظاراً لوضعه على سكة وطريق النجاح لكي تسحب قواتها وتغادره، وثانياً أن نجاح العراق سينعكس وسيغير كثيراً في منطقته والتي هي الوحيدة التي ظلت بمجملها عصية على التحولات، في حين ثالثهما العكس، أن فشله سيقذف بحمم مشاكله ليس إلى جواره بل ستطال بشظاياها بلا تضخيم العالم كله، فالعراق هو شرق أوسط مصغر بمكوناته الطائفية والإثنية والدينية، بتقديمه لنموذج التعايش مع أقلياته أو بخلافه التنابذ، بنجاحه بتوزيع ثرواته وموارده بعدالة بين أبنائه أو فشله في ذلك، بقدرته بأن يجعل لأبناء شعبه مصلحة في أن يبقوا متحدين في بلد يستقوون به ويحتمون، بعبارة أخرى أن يكون العراق لهم مصير وليس قدر.
من هنا كان الترقب والقلق على قانون الانتخابات البرلمانية، لكونه من جهة أن نجاح إقراره مع نضوب السقف الزمني الحرج هو يعني الالتزام بتداولية السلطة واحترام الاستحقاقات الديمقراطية، وثانياً لاقترانه القسري بأحد أكثر مشاكل العراق حراجة وهي قضية كركوك، إذ هي إلى جانب ملفات أخرى مهمة كان غالباً ما يتم اللجوء إلى ترحيلها أو التساكن معها، لاشك انه وإن بدا ذاك منهجاً سلبياً وهروبا عن مواجهة الاستحقاقات، إلا انه في الحالة العراقية ربما للزمن فعله الإيجابي، فهو من جهة يبرد المشاكل ومن جهة أخرى تبنى بجانبه الثقة وتنخفض الهواجس والمخاوف. إلا أن الاستنتاج الأهم والذي يشكل بداية يؤمل أن يبنى عليها هي قدرة العراقيين على التساومات فيما بينهم للوصول إلى الحلول الوسطى المرضية، فقد مثل الحل التوفيقي لقضية انتخابات كركوك والتي كادت لو استمرت بأن تطيح إما بالانتخابات أو بالتوافقات، فقد تعلمت الأطراف ضرورة التنازلات المتبادلة للوصول للتسويات، إذ أدركت بأن لا أحد يستطيع الحصول على الحد الأعلى من مطالبه على حساب تهميش الآخر والتي تعني وصفة مثالية للحرب الأهلية ولعدم الاستقرار، فالتسويات قامت على الدستور ولم تغادره مع تحفظات الكثيرين على جوانب منه، ولكنه يظل القاعدة واجبة الاحترام حتى يتم تغييرها، فبالنهاية كركوك ستجري بها الانتخابات ولن تعزل كحالة خاصة كما أراد تركمانها وعربها ولا رفض ذكرها كما أراد الكرد ولا قبلت سجلات ناخبيها مع ادعاءات الطعون بالتزوير ولا ركنت جانباً، بل ستخضع كما غيرها لمراجعات تعاد في ضوئها نتائج الانتخابات إذا ما وجد هناك زيادة تفوق النمو الطبيعي.
هذا لا يعني ادعاء بأن العراقيين وصلوا بأنفسهم لفن التسويات، ولكن أيضا هم لم يقبلوا ذلك خضوعاً وامتثالاً لإملاءات، وإلا لما تطلب الأمر تسع جلسات تصويت فاشلة لتنجح العاشرة، ولا تطلب مكوكية السفير الأميركي بين الكتل والأطراف قبل وطيلة يوم التصويت، ولا اضطرار مبعوثي الرئيس أوباما للحاق بالبرزاني إلى النمسا لإقناعه، فإذا كان العراق شرق أوسط مصغرا فإن كركوك هي عراق مصغر لذا كان بجانب الانشغال الأميركي حضور لافت لسفراء بريطانيا وتركيا وإيران بجانب الأمم المتحدة طبعاً، لنأخذ ذلك على المحمل الحسن، إنها لحظة وفاق إقليمي ـ دولي حول العراق، عاونت العراقيين، أو إذا شئت اضطرتهم، لتعلم التسويات.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. جابر حبيب جابر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni