... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
ملائكة الجنوب

محمد خضير

تاريخ النشر       26/11/2009 06:00 AM


يُباح لعدد من روائيي الجنوب العراقي المهاجرين أن يطرقوا السبيل الوعر لروائيي الشمال الأوربي، فينوعوا انهماكهم بصراع واقعهم، بالعودة إلى جنوب الملائكة، وتقليب سجلات معابده الإثنية. أصبح هؤلاء الروائيون أحراراً في همز الخيال الشفاهي، وتحريك الحنين من نقطة بعيدة عن الوطن، أو الاقتراب كثيراً من وجوه طفولتهم. نجم والي أحد هؤلاء الجنوبيين الذين سلكوا طريقاً طويلة متشعبة إلى قصصهم، ابتدأت بزيارة إسرائيل في 12 آذار 2007، لحضور مؤتمر حول العراق في حيفا، وأسفرت عن كتابة تقرير قصير نشرته الصحافة العراقية والعالمية. الشعبة الثانية من الطريق كانت أكثر طولاً وصعوبة، أعادت والي إلى قصته مع التنوع الإثني في العمارة والعزير، والخروج اليهودي عبر الحدود الإيرانية خلال الأعوام 1951ـ 1975. وأسفرت هذه الشعبة عن كتابة رواية (ملائكة الجنوب) الصادرة هذا العام عن دار كليم في دبي. التقت الشعبتان في نهاية المطاف لإسناد ملحمة الشتات العراقي في أنحاء العالم بقصص الخروج اليهودي، واختتام مراحل الاضطهاد السياسي بالعودة القصيرة إلى العراق بعد تحريره عام 2003. لم يثق نجم والي بالتاريخ الرسمي لمدينته (عماريا) وإنما اشتق لروايته طريقاً محفوفة بالأقاويل الشفاهية المتناثرة من رواة نسيجها الثقافي المتنوع. سارت روايته بمحاذاة روايات المدن القديمة، برشلونة واسطنبول والقاهرة والقدس، من دون الاضطرار إلى اختلاق مدينة خيالية قرينة لها. وكان والي قد لمّح في تقريره عن إسرائيل إلى نماذجه الروائية المطابقة لسجلات شخصيات يهودية حقيقية عاشت في العمارة مثل الطبيب داوود كباي وشلومو إهلليل (رئيس منظمة الهجرة الدولية ليهود العراق) وعسلة بائعة القماش الجوالة التي ستتحول في الرواية إلى (ملائكة) ماركة (دبس العروس)، إضافة إلى عدد من الشخصيات الصابئية والإنكليزية والمسلمة التي شاركت في صعود عماريا واندثارها، فكأن تقريره السابق كان تقديماً لرواية (ملائكة الجنوب) بعد أن ألهمته مقابلة شخصيات عراقية يهودية ما زالت على قيد الحياة في إسرائيل تنشيط حياة الرعيل الأول من المهاجرين. استند نجم والي في رواية متنه الحكائي إلى أقوال ثلاثة رواة محليين، مسلم وصابئي ويهودية، بينما أخذ على عاتقه تكملة تاريخ عماريا الشفاهي مهما كلفه الأمر. لم يكترث والي باختلاط الحقائق والأكاذيب في حكايات رواته، ولا بكثرة المغالطات في تفاصيلها الكثيرة، قدر انشغاله بتقليب سجل عماريا الاستعماري، والدخول إلى معابد أقلياتها المتناقصة، وعقد الخيوط المقطوعة بعد هرب أفرادها وسجنهم. بلغ بحثه الروائي أقصى درجات الادعاء والحقيقة، واكتسبت عبارته وجهين من الخشونة والنعومة، كل هذا من أجل الوصول إلى قلب المعبد الذي لم يرو أحد قصته من قبل. تجسدت عماريا بفضل عدد كبير من (التخطيطات)، وقدرة احترافية على مزج الأصلاب والأعقاب. ولولا هذه الحرفة لما فرقنا بين ذهب الممالك المندثرة وتراب العظام في مقابر غزاتها. أذاقنا والي طعماً معتقاً من مدابس غابرة، هو الذي كسا وجهه بلون الدبس العتيق، عابراً الحدود إلى غير رجعة في 28 أكتوبر 1980. إن الذهب الذي أعنيه في عبارتي السابقة، يحيلنا إلى مفهوم (السبيكة) الروائية التي تمتزج في صياغتها العناصر والذوات والأفكار بنسب دقيقة. ولا تبعد رواية والي كثيراً عن روايات غونتر غراس وأورهان باموق وعلي بدر التي تمزج وجهة النظر الشخصية بحوادث الواقع الموضوعية لتأليف نوع من السيرة الذاتية المسبوكة من ذوات وعناصر متفرقة. وما يجذبنا أكثر في هذا الخليط اشتمال الحبكة الإطارية الكبرى على تنويعات وتفاصيل وتهاويل، وعودة محفوفة بالأخطار إلى الأصول والأعراق. غدت (ملائكة الجنوب) مثالاً على عودة الروح إلى موطن الأعراق (عماريا)، المملكة الضائعة بين حدود مملكة ميسان المقدونية ومدينة العمارة العثمانية، وارتجال حكايات توقف زمنها منذ الحرب العالمية الأولى، وهاجر أبطالها أو غابوا بسبب الحروب اللاحقة. عاد مهاجر الشمال ليحرك قصة فتاة من الجنوب اسمها (ملائكة) ابنة الطبيب اليهودي كباي المفترضة، معشوقة الرواة ومحور الصياغات كلها، وقد تطلب سرد قصتها تخطيط مئة وثلاث وتسعين محاولة، حيث ((الطريق طويل للوصول إلى القصة)) كما يقول جد المهاجر العائد. عاد الملاك المهاجر المسمى (هارون والي) ليأخذ الدور من الملاك الأول في الرواية، نور الصائغ ابن شيخ طائفة الصابئة المندائيين، ومن صديقه المسلم نعيم عباس، ومن شريكتهما الجميلة (ملائكة) اليهودية، وقد اجتمعوا في نهاية الطريق في البيت الحجري للمقبرة الإنكليزية، الأثر الوحيد الباقي من عماريا القديمة، بعد دورات زمنية طويلة، وعبارات دبسية معتقة. عاد الرواة الأربعة، اثنان من المهجر، واثنان من السجن، بعد خفوت هالة عماريا، ولم يتبق منها إلا عبارة (ملائكة الجنوب) التي خطها هارون قبل سفره على قاعدة صليب المقبرة الرخامي، ونقش (ملائكة) الجميلة على علبة قديمة من (دبس العروس). ما تبقى من عماريا، وما تفرع من طرقها، وما أوصلته رواية مسبوكة من عناصر ذاتية وموضوعية، حقيقية ومخترعة، ليست في نهاية المأمول والمرتجى إلا قصة مؤلمة من قصص الملائكة المقطوعين عن أوطانهم، وحلماً من أحلامهم العتيقة. كان الجدّ والي، بستاني المقبرة الإنكليزية، يقول لحفيده: ((كل قصة لها زمانها المناسب)). وأرجو أن تكون رواية (ملائكة الجنوب) قد جاءت في زمانها المناسب، بعد أن تأخرت سنوات طويلة عن زمانها الفعلي الذي بدأت منه، عام 1951، عام تفكك النسيج الإثني العماري، أو عام 1956 الذي ولد فيه رابع الرواة العائدين، هارون والي.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد خضير


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni