... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
عزلة أورستا

حمزة الحسن

تاريخ النشر       03/12/2009 06:00 AM


 عوى ضبع ليلي صحراوي تحت الجلد، في حين كان الثلج يهطل منذ عدة أيام، وكانت شاشة التلفاز تعرض فيلما خاصا عن الحرب. كنت أستطيع رؤية الأشياء في الخارج عبر النافذة الواسعة المطلة على الشارع والخليج والغابة المجاورة.

كنت موزعا بين حضور الثلج وبين غياب الصحراء والريح تعوي في الخارج. أنا هنا إذن وجه لليل الصحراوي، لضبع الشهوة، للفراشات الميتة في حقول الألغام، الفراشات التي تقول عنها أسطورة بوذية انها تحط على صدور الميتين المهزومين وصدور النائمين المنتصرين. وجه آخر للوحة كلود مونيه وأزهار الماء.

قال لي قاسم شريف قبل ساعات عبر الهاتف من بيرغن:
ـ ماذا تفعل؟
ـ اشاهد فيلما.
ـ عن الجنس؟
ـ الحرب.
ـ أية حرب؟
ـ حربنا.
ـ أنت تهذي. قلت لك اترك هذه العزلة لأنها ستقضي عليك.

انقطع الخط لكن لوحة القنطرة( كلود مونيه) هجمت علي من الجدار مع رائحة أزهار ربيعية ونهار عذب وعشب مبلل بالضوء والنهار والسر. أما مصباح الشارع فقد بدا تحت الثلج المتساقط وداخل هذا الليل الاسكندنافي الصريح الأبيض، كفنار مضيء في متاهة ثلجية بيضاء.

قررت النزول إلى القبو أو عرين الأسد كما تسميه كاترين أو مأوى الأرواح كما يسميه قاسم شريف أو العالم السفلي كما أسميه أنا أو البرزخ كما يسميه يوسف البابلي. نزلت وأنا أردد أغنية سومرية:
 بعد أن تطفئ القمر وتسحب المزلاج:
يا حبيبي يا ذا الشعر الكثيف، انت لي
يا ذا الشعر الكثيف مثل نخلة، أنت لي
شده على حضننا، يا حبيبي.

عند النزول إلى القبو نسيت أن أشعل المصباح. تذكرت قول بورخيس: من فرط التفكير بالخلود، تركنا الغسق يطبق دون أن نشعل المصباح. كنت أهبط فعلا إلى مثوى أسطوري. لم تعد الصور واللوحات التي أضعها على جانبي السلم مرئية في هذه العتمة. صور صحارى وغابات وقناطر وطيور ونجوم وحدائق ونساء على سواحل بحار أو غرف نوم أو على خيول برية، صور اسود وفهود وثيران ومعابد وعربات ملكية تجرها أيائل أو اسود. وكانت الأغنية تتردد:
سوف أطفئ النجوم على مساراتها
أي اصهرنا، عندما يأتي الليل
أي اصهرنا، عندما يكون قد انتهى النهار
وعندما سيدخل بيتنا القمر
وعندما أطفئ القمر في الأعالي
عند ذلك، سوف اسحب المزلاج من أجلك.

كانت كاترين الهاربة هي الأخرى من العتمة والضجر وحروب العزلة والثلج، تتعرى داخل القبو أو عرين الأسد دون أن تكف عن النظر إلى قرون الأيل المتشابكة والمتوهجة تحت ضوء علوي. كان للعري مهابة الموت والضريح. كنت أقود كاترين إلى القبو بشعور صقر أو أسد أو ضبع يقود فريسته إلى عرينه الخاص، إلى جحر الموت واللذة والسقوط والجمال والجنون.

ـ أين أنت؟ صوت قاسم شريف عبر الهاتف.
ـ في القبو.
صرخ: ـ في القبو؟ من الحرب إلى القبو؟ هل أنت خفاش؟!
ـ وأنت؟
ـ أنا؟ بين غزالة برية التقطتها تحت الثلج.
ـ اين هي الآن؟
أجاب ضاحكا: ـ الآن؟ عارية في السرير كسروة تلمع تحت المطر أو عصفورة ترتعش من الحمى. هل تستطيع أن تتحمل مشهد هذا الجسد الهارب من الثوب والقانون والطقس والحرية والثورة والديمقراطية والاشتراكية والتبن يا حطب الحروب ومنفضة المدافع؟

سمعته يتحدث معها:
ـ تقول هل عندكم قمر جميل؟
ـ قل لها أضعناه.
قال: ـ أنت تريد أن تتحدث عن كل الخسارات القديمة والفادحة حتى في هذه اللحظة. هذا سرير أيها الكاهن وليس جلسة اعترافات. أقول لك أخرج من القبو.
ـ إلى أين؟
ـ كل الرعب في هذا السؤال.

يوما جلسنا، كاترين وقاسم وأنا، في مطعم  وبار تقليدي على الطراز القديم في أورستا. أكلنا وشربنا على ضوء شموع هادئة وتحدثنا كثيرا عن الحرب والصلاة والجنس والجنون والسفر والعنصرية والدين والثلج والصيف والبحر والصخور وبابل والتوراة والقران والحرية والموت وطقوس دفن الموتى وصلاة المطر والحب وجنون العرب بالخيل والخمر والنساء والحيوية والشعر. قالت تلك الليلة: ـ قاسم شريف وجهك الآخر.
ـ كيف عرفتِ؟
ـ أنت تتحدث عن الحرب وهو يتحدث عن السجن أو العكس. هو يتحدث عن عبور الحدود وأنت تتحدث عن البوليس. هو يتكلم عن العشق وانت عن السلاح. هو يتحدث عن فشل الحلم بالثورة وانت تتحدث عن الأمل في المرأة. إنه صورتك الأخرى.

رأت أصابعي الفجر يخرج من بين قمم الجبال الغارقة في الضباب والنور السماوي الشفاف. أصابعي ترى كما يسمع جلدي. ليس فجر الخطوط الأمامية المحمر، بل فجر الحافات الجليدية. من داخل القبو، على الضوء الناعم، بدأت بصعود السلم الحجري إلى السطح مرورا بصور ولوحات ومنحوتات لأسد بابل وعربات ملكية تجرها أيائل وثعابين تلتوي على أشجار وأجساد ونهود عارية، وخنادق حربية، وصور قتلى تحت الأنقاض، وشوارع من رماد، ومحطات قطارات ومطارات وحدود وجبال ومخافر وشرطة واسلحة ومراقص وثكنات وسجون وأسلاك شائكة وبحار وسواحل...مساحات الصعود الأخرى متروكة للخيال.

قررت الخروج في هذه العاصفة الثلجية والتجوال في الشوارع. كلمة تجوال ليست دقيقة. إنه تيه. هذا الضرب من التيه جربته مرات. إنه نوع من الهرب أو البحث أو الشهوة. خرجت إلى العاصفة ودخلت فيها كما يدخل دب قطبي في متاهة الثلج، أو كما يدخل درويش في حلقة نار، أو كما يدخل عربي في صحراء الغبار، أو كما يدخل المرء في عرين جسد، أو كما يرمي جواد جسده في وجه جدار ليلي تحت نجوم عريقة في القدم كصحراء سحيقة.

في البوتيك مر معطف من أمامي. مر خطفا كوهج أو برق. عندما كنا ندخل البوتيك قاسم شريف وأنا كان يقول: ـ أنظر.سرب من غزلان جهنم.

يغرق في صمت رهباني ويقول كما لو كان يحدث نفسه: ـ قضينا العمر بين أغاني الحرب وخطابات الرئيس وافتتاحيات الصحف والمنشور والسجن. هل تعرف أنني ولدت على يد قابلة عمياء؟
ـ هل يعني لك شيئا أن تكون القابلة بعيون مفتوحة؟
ـ في الأقل يشعر المرء أنه جاء إلى العالم بطريقة محترمة.
ضحك وأضاف:ـ هل صحيح أنك ولدت على كدس تبن؟
ـ صحيح.
ـ إذن انت قرمطي بالولادة. أنت تدري جيدا هذه الأيام كيف يتم تأثيث تاريخ الشخص. أنظر. جاء طائر الرخ الأسطوري!

قالت لي نرجس الفتاة التي كنت أستأجر غرفة في بيتهم في راولبندي أن اكون حذرا من عقارب المنزل لأنها تخرج على ضوء القمر في الصيف للتنزه والصيد. نرجس خليط من فتاة العائلة والعاهرة والبراءة البدائية المتوحشة. قلت لها يوما في ظهيرة صيفية مشتعلة في السرير حيث الغبار  والصمت واللهب والكلاب وحدها في الشوارع: ـ هل تعرف العائلة؟
ـ لا، لكنهم يقبلون المال الذي اجلبه لهم بصمت.
  ـ هل تحصلين على مال كثير؟
ـ ليس كثيرا ما عدا اول مرة.
ـ حدثيني عنها.
ـ رجل ثري في السبعين "أزالها" بأصابعه وأنا اصرخ في منزله في اسلام آباد. مسؤول كبير في الدولة.
ـ أنت تتكلمين الانكليزية جيدا؟
ـ تعلمت في شقق السفراء ورجال الأعمال العرب وابناء القناصل..الخ.
ـ حدثيني عن هذه الـ .. الخ..؟
ـ وفي منازل موظفي الأمم المتحدة، ورجال المخابرات الأجنبية خلال الحرب مع الاتحاد السوفيتي في افغانستان، وجنود المارينز الذين يحرسون المكاتب الأمريكية بثياب مدنية ومع اللاجئين العراقيين والبورميين والصوماليين واليمنيين والايرانيين والمجاهدين الأفغان.

قلت على غير توقع مني:ـ ومع حراس البنك الدولي، وصندوق النقد، ومنظمة التجارة العالمية ونمور التاميل وجبهة تحرير مورو ومجموعة البنوك السويسرية، ودراويش كراجي، البوليس المحلي.. هل انت آسيا؟
ـ أنا آسيا حقا.

كان شَعر عايدة الفارسية يطير على الحيطان حين تسكر. تسكن شمالي طهران وفي منطقة تجريش الأرستقراطية وتجار البازار. تخصص هذا الوعل الفارسي كما يسميها قاسم شريف بالفاريين العراقيين. قال قاسم أنه شرب في بيتها عرقا محليا سريا وبدأ يحدثها عن ايوان كسرى الموجود في المدائن، لكنها رفعت نهدها كما يرفع الانسان حجرا وتريد ضربه. قالت عايدة في الغضب والسكر والمرح: ـ قضيب عراقي أفضل عندي من كل معارك رستم!

قال قاسم مرعوبا حتى اثناء الحكي: ـ خفت أن تنزل الى الشارع وتهتف بذلك ونحن في عام الحرب الأخير. ربطتها الى السرير وكممت فمها حتى نامت وخرجت الى الشارع والثلج يسقط في تجريش ومررت  بقصر نيافران قصر الشاه الملكي ورايت اشجار السرو غاطسة تحت الثلج واضواء ناعمة تنبع من غرف القصر. شعرت بكآبة قصور ملكية مهجورة. فطنت على حقيقة أخرى للمشهد، حقيقة كوني هاربا متسكعا حزينا. شعرت مهما كلف الأمر أقل خسارة من امبراطور مهزوم ومُلك مضاع.
قلت ضاحكا: ـ هذه التقنية ضرورية لخداع النفس.

كان قاسم شريف  يصاب بنوبة حنين إلى منزل عايدة، لكني أحبط المحاولة دائما بالجملة ذاتها: ـ فكرة جيدة. لكن الجلد في ميدان عام ليس فكرة مريحة.
ـ وضعت أرنبا في الطريق؟

قلت مرة:
ـ عايدة تشرب وتمارس الجنس وهي على مقربة من الموت وحرس الثورة والشرطة السرية. خارج منزلها كانت الرايات والبنادق والشعارات. هي أكثر وضوحا في التعامل مع جسدها. نحن ندفن ونراوغ ونؤجل. صرنا غرباء ومنفيين حتى عن أجسادنا.

قاطعني: ونرجس؟
ـ نرجس حالة مختلفة. مغتصبة. جرح آسيوي في القارة الشاحبة. هل رأيت وجوه السجناء الفقراء في سجن "كويتة" الباكستاني؟ كانوا يبيعون أجسادهم مقابل سجائر  أو ورق رسائل أو رغيف. هؤلاء اخوة نرجس. من العجيب أننا لا نرى الاغتصاب إلا في شكله الجنسي.  هناك اغتصاب السلطة والحرية والثروة والمستقبل والأرض.

 سألني قاسم شريف ونحن نصل الى تقاطع طرق في مركز بيرغن: ـ ما هي حكاية الجلاد الأصلي؟ هل هناك آخر؟
قلت:ـ نعم. هل نسيت؟ من كان مسؤولا في العراق صار اليوم قائدا في حزب معارض. من كان رئيس تحرير صحيفة حكومية هو الان، في طبعته الملونة، رئيس تحرير صحيفة معارضة. من كان بوقا وممسحة مناضد وماسح أكتاف في المؤسسات الحزبية والثقافية هو الان منظر اليسار الجديد وداعية للثورة ويضع صورته القديمة في زاوية مقالاته الجديدة لأن خبرة الانتهازي واحدة. من كان مخبرا وجاسوسا على الأدباء أخرج لنفسه تاريخا مزعوما عن قمع خرافي. أما أنا وانت، في عرف هؤلاء، رغم الحدود التي عبرناها، والسجون التي عذبنا فيها هنا وهناك، مجرد عناكب ليل تسللت في غفلة من النجوم.

عطر ومطر ناعم ورائحة وجود بشري كثيف. بيرغن مدنية عريقة واضحة صريحة. تختلف عن طهران المعتمة والمتناقضة. طهران تحتضر تحت الرايات والأناشيد والصور. مخلوق يتفسخ في قلب نهار آسيوي محرق.

سألني قاسم شريف فجأة: ـ هل يمكن وضع هؤلاء الكتاب في سلة واحدة؟
ـ لا يمكن. هل نسيت حكاية اللون الرمادي؟نحن نتحدث عن محترفين لمدة ربع قرن وهذه مدة طويلة تشكل خيانة للمثقف. نحن نتحدث عن انتهازيين وحثالات. كم هي صحيحة عبارة أنسي الحاج: نريد أن نهرب،وأن نسمى منقذين، وأن نخون ونعتبر                 أبطالا!

قال قاسم: ـ لا أعتقد أن هؤلاء خرجوا احتجاجا على مبدأ الظلم، بل على مبدأ الإفلاس. لم يحتجوا على دولة ظالمة، بل على دولة مفلسة.

لا أدري أين قرأت عبارة لهنري ميشو: "في غياب الشمس، تعلم أن تنضج تحت الجليد". ظهرت المداخن. ثم ظهرت بعض الوجوه من خلف النوافذ. انا، إذن، لست في برية البياض، والغسق الجليدي الذي يذكر بنهايات التاريخ، غسق نهايات الحكاية، غسق البوم وهو ينعق على اطلال الزمن، غسق الخراب والرايات، غسق نرجس، غسق عري عايدة وهي تطحن داخل السرير قرب الرايات السود، واحتفالات الموت التاريخية، غسق قاسم شريف وهو يرقص في الكراند كوفيه كحجل هارب من الحشد، كغزال نافر ومذعور من سقوط المطر، خشخشة الأوراق في الغابة، غسق كاترين  وهي تنزل إلى القبو على ضوء الشموع وأنا أردد معها( بعد أن تطفئ القمر، وتسحب المزلاج) غسق عمر الخيام وهو ينبثق من فم عايدة ومن عينيها الرماديتين كبحيرتين مصنوعتين من النار والرماد والنهار الماطر.

نحن خرجنا يا عايدة من المنفي إلى المنفى وتلك ليست أوطانا، بل هي زرائب. تقول: لا أفهم يا خويه كلامك. كانت تجيب صامتة وهي تغرق في الخمر حتى الفجر. إلى اليوم كلما تذكرت تجريش وجبال البزر والشرطة السرية وتمثال فردوسي خطرت ببالي صورة عايدة وهي تصرخ أو تتوهج تحت النور المنبثق من لوحات العصور الغابرة.

أمام البحر وقد عادت الشمس إلى الشروق مرة أخرى، شعرنا قاسم شريف وأنا بحجم الخسارات القديمة. قلت: ـ هل جئنا لنعيش أم لنتذكر؟ لم يجب. كان غارقا في لجة داخلية. قلت: ـ بحر، حرب، سجن، هروب، عواصم، لغات، ثلوج، صحارى، عزلة، حنين، خمر، صلاة، أشعر أحيانا انني مجمع أرواح.

كان البحر مضطربا كروح نرجس وقاسم وأنا وعايدة وهذا النهار البيرغني الصريح الذي لا يشبه النهارات الآسيوية، وكانت الأجساد  تستلقي على الساحل عارية تماما. ليس في هذا المكان من يرتدي شيئا، حتى البحر والصخور والأفق، إلا قاسم وأنا. كان يرتدي معطفه الأسود، معطف الشتاء والصيف، معطف السفر والغرام والسهرات، معطف الفواتح وزيارات قبور الغرباء، معطف السينما والكاليري والصالة والبوتيك والقطار والمصطبة والرقص. أما أنا فقد كنت ارتدي سترة الشتاء والصيف والخريف والربيع والجليد والشمس والعاصفة والنوم والعتمة.

قال قاسم: ـ هذا العري رغم اثارته يبدو مطمئنا كصلاة أو ترتيل كنسي أو موسيقى دينية. أعتقد أنك قلت مثل هذا الكلام يوما؟
ـ نعم في رواية" سنوات الحريق". ذلك العري الذي يكاد لسطوعه أن يكون شكلا من الرمز أو النصب الديني لأنه مطمئن في اثارته.


فتحت النوافذ على الهواء الطلق ونثار الثلج. فكرت في أن اتصل بنتاليا أو قاسم أو كاترين أو اية عاصفة أو غابة أو بحيرة رماد أو ورد أو شريط ساحلي من الرمل والنجوم، أو أي ذئب.

مرة قال لي قاسم حول وصفي له في رواية( الأعزل) في كازينو ومرقص الكراند كوفيه: ـ خفت من هذا الوصف. كنت تقول:" لمحت قاسم شريف في قلب الحشد ضائعا، مستفزا، كحجل جبلي. كان صورة من ذاكرتي الهرمة. كان جرحا ناعما في الكراند كوفيه. كان خدشا في هذه الموسيقى" هل تعتقد أن الأمر على هذا النحو تماما؟
قلت:
ـ اسمع. الروائي من لحظة حمل القلم، كما يقول فانسان جوف، يصبح طوباويا. إن خطأ البشرية الكبير، يقول نيتشة،هو الثقة المطلقة باللغة"بعد فوات الأوان، بدأ الناس يدركون الخطأ الفادح الذي أشاعوه بإيمانهم باللغة". قاسم شريف في النص ليس هو في الكراند كوفيه. ما قيمة أن نقوم باستنساخ صور، على رأي الرسام ماتيس، تقوم الطبيعة بإنتاج كميات كبيرة منها وبافراط؟ إن صورتك وأنت ترقص ذلك اليوم كانت فعلا صورة حجل جبلي، أو هكذا رايتك.

قلت لسليم مطر عبر الهاتف من جنيف: ـ  متى نكبر سليم؟ أجاب: ـ لا أدري. صدقني لا أدري. قلت : ـ كأن قدرنا أن نظل مشردين وقدرهم أن يكونوا زعماء. هنا تكمن جذور النظام الفاشي المقبل. المستقبل في خطواتنا الآن وهؤلاء أسوأ انواع النخب السياسية في العالم. توقفت قليلا وسألته: ـ سليم هل انت معي؟  أجاب بصوت مبحوح: ـ معك تماما.

قلت :ـ هؤلاء يجب أن يحاكموا في المستقبل بتهمة المتاجرة بالعراق هنا أو هناك. ليس من المعقول أن تعود هذه الحثالات من المنفى عودة الأبطال هم الذين تاجروا بلحم الوطن والناس ومطاردة الشرفاء حتى في المنافي ونصبوا أنفسهم قضاة على هياكل وأشباح بشرية كانت تريد العيش، مجرد العيش، في منفى مقرف.

قال سليم بصوت مبحوح: ـ والحل؟
ـ ان نواصل البراءة.
ـ هل البراءة اختيار؟
ـ إنها قدر.

الثلج، الثلج.
هبط الليل كصقر فوق القمم الجبلية. صقر العزلة والغياب. عزلة الوحش أو الشفق أو المحار. عزلة الطفل الذي حوله وحوش الأزمنة الحديثة إلى ذئب يعوي في صحراء الثلج. عزلة الفراشة. عزلة نجم بعيد. هذه العزلة هي نوع من الصلاة والنشوة والخلوة المقدسة بعيدا عن ضباع شرسة جاءت لتتعقبنا بحاسة شم مدربة حتى في هذه الأراضي المهجورة من احتفالات الصيف وأعياد الفقراء في مواسم الحصاد.

ثلج، ثلج.
ثلج فوق الجبال وعلى قلبي. ثلج حتى النهاية الأخيرة للأرض أو النجوم. إنها عزلة صقر مصاب ينزف وحيدا على قمة جبل مهجور من المطر والغيوم والريح والحجر. هذا هو موت الصقور على القمم وصدرها النازف للريح والأبدية. ثلج من أقصى نهايات البحر. من النجوم المطفأة في هذا المدى العاري من الجنون الطبيعي العاصف.

ها هو جرس الباب يرن. إنه يوسف البابلي جاء في هذه العاصفة الثلجية من عزلته الجليدية البدائية. قلت: ـ في هذا الجو العاصف؟

ـ في هذا الجو العاصف. هل يضايقك؟
ـ أبدا يوسف.

يوسف البابلي رمح عراقي قديم من زمن الانقلابات والأحزاب والمظاهرات والزلازل السياسية. فر أواخر السبعينات إلى بيروت، دمشق، صنعاء،وارشو، براغ، موسكو.. قلت: ـ أنت بندقية عتيقة من الزمن العثماني.
 ـ بندقية لصيد الهواء.
قلت: ما هذه الحساسية التي يبديها جيلك الستيني ازاء اية كلمة او ملاحظة أو راي فيه؟ يضحك يوسف بامتلاء : ـ هل نسيت؟ ولدنا في أحضان العقداء الغجر.

اقول له:ـ والحداثة والشعر والتمرد الوجودي ورامبو وسارتر وكافكا وكامو وبيكاسيو وماركس والسريالية وبريتون وفرويد ومشاريع الكفاح المسلح؟

يرد علي بحدة: ـ أقول لك كنا في منفى. هل تفهم؟ مرة اتصل بي يوسف وقال بلا توقع: ـ غدا مسافر مع جثة!
ـ مع من؟
ـ أقول لك مع جثة. مات عاشور اللقلق. سآخذه إلى الأردن بناء على وصيته كي يدفن في العراق. ظهر ان اسمه عاشور علي .


كنا نلقبه باللقلق من كثرة محاولاته الهرب إلى أوربا: عبر الحدود معي من ايران، في باكستان هرب إلى الهند حتى وصل بورما مشيا على الأقدام. عاد إلى باكستان مقبوضا عليه. هرب إلى الصين وعاد بعد أن حاصرتهم الثلوج. هرب في باخرة فرنسية واقفة في ميناء بندر عباس الإيراني فتوقفت في ميناء العقبة( قال انه اهوازي هارب من الجمهورية الإسلامية خوفا من ان يسلم إلى العراق!)، أخيرا ابحر في بحر ايجه الذي صار مقبرة للعراقيين، إلى اليونان، ومن هناك بودابيست، النمسا، ثم وصل النرويج بجواز سفر اسباني.

قال يوسف بعد رحلة التابوت: ـ الموت أفضل من تلك الرحلة.
قلت: كيف؟ عيب يا رجل يموت واحد منا هنا ويدفن في الثلج؟ قال يوسف بعينيه الصقريتين المكسوتين بأهداب بيض طويلة :ـ أعرف انك تمزح. تفاصيل نقل التابوت وطقوس السفر والتسليم أكثر شراسة من الموت. إنه ليس موتا، بل إهانة. مع الوقت ستكتشف أنك لا تحمل جثة رجل، بل جثة وطن. كنت أشعر وانا في الجو ان الجثة على ظهري كصخرة "سيزيف". لكن "سيزيف" ضحية عقاب آلهة أما نحن فضحيّة رعيان.

قلت: ـ لكن المفارقة ان عاشور اللقلق يسافر لأول مرة بجواز سفر حقيقي وبطاقة سفر غير مزورة.
قال يوسف وهو يزفر نارا:ـ هذه ليست مفارقة بل اهانة. اين مشروبك يا رجل؟ هل سنظل نحكي عن الموتى وبحر ايجة والمقابر والحرب؟

قلت: ـ صحتك وصحة كل "فهود" العالم.
ـ هل بدأ الغمز؟

شرب يوسف البابلي كوعل عطشان للشراب والصداقة والكلام والدفء والعائلة والضوء والحنين. عندما يسكر تنهمر ذخيرة الموت من ساحة الميدان لأن ذكرى انقلاب 8 شباط 63 محفورة في ذاكرته كوشم. هذه ذكرى يوم موته المقترح. فر من سجن خلف السدة وترك الآخرين للرصاص والذبح والبلطات وقطار الموت والشنق والتقطيع والكلاب والوحوش. في غرف الموت الكثيرة، تلك الحقبة، التي مهدت للخراب القادم، رأى يوسف الوحش النائم فينا، الوحش الجميل، الوسيم، الناعم، الديناصور الراقد في الدم والظلام والليل الروحي العميق تحت شعارات وعناوين براقة.

قال يوسف: ـ هل يمكن أن تغلق النافذة بروح قضيب النفضك؟.
 ـ دب دبيبها؟
قلت لكي أحفزه على الحكي أكثر: ـ انتم، اقول أنتم، هل كنتم حزبا أم قبيلة؟

ضحك النمر الآسيوي الهرم. ضحك صقر براري الفراغ والفلقة:ـ كنا قبيلة كل اليسار العراقي قبيلة. أفكر الان مليا في تلك الأحداث وأسأل نفسي: ماذا كان يحدث لو كنا في السلطة؟ لن تتبدل سوى التفاصيل.

 قلت وأنا افتح النافذة مرة أخرى على الهواء: ـ لكن من لم يشترك في حرب الفئران تلك؟ الم تهتف في الشوارع تريد الحبال والمشنقة ضد المؤامرة واعداء الثورة، في حين كان الاخرون يهتفون ضد اعداء الله؟ على الجانب الآخر هتافات ضد أعداء الأمة، وضد أعداء الوطن، وضد أعداء الصورة والاطار والجريدة والكتاب والمنشور والعقيدة والحزب والرفيق والمجتمع والتاريخ والطبقة والعرق والقبيلة والمقالة والحتمية....؟

قلت يوما ليوسف البابلي: ـ قد لا نجد يوما وطنا أو حائطا  نتكئ عليه. سيحرقه ويرحل.

وفي غمرة نشاف الريق والقهر والحزن المتراكم والغضب النبيل، قال يوسف: هذا أحسن. لكي لا نجد أنفسنا يومذاك غرباء في وطن مستعار ومسروق. الجبناء على الأبواب كضباع الفطايس. هؤلاء في الانتظار. يومها بدل أن تفتح أبواب الأمل، ستفتح أبواب السجون وتحت أسماء ورايات جديدة. لن تتغير سوى العناوين والموت واحد.هذه النخب الفاسدة غير قادرة على ادارة مشروع التغيير الحقيقي. بس عاد وين العرق؟

ثلج غزير. يوسف انتهى من ارتداء معطفه الأسود كدرويش أو شبح أو أسطورة أو حكاية. لوح لي عبر النافذة. وغاص في عتمة الأبيض المتوهج. ضاع يوسف البابلي في العاصفة. وعلى وقع حوافر الريح أسمع الآن صرخات دراويش بغداد وهم يئنون على دوي الدفوف:"النار شبت، والفزع ما جانه". كنت أحترق على حافة هذا الثلج الهابط كما تحترق جثة على حافة نهر مقدس.

تذكرت قصيدة سان جون بيرس:
ضيقة هي المراكب
ضيق سريرنا
ليدخل البحر من النوافذ
للبحر وحده سنقول
كما كنا غرباء في أعياد المدينة.

عاد صوت قاسم شريف عبر البحر والمدى الأزرق:
ـ شوف عيني. لا تزعل. هؤلاء سيكتبون التاريخ مرة أخرى. بل وسيصنعونه. لقد اخذ التاريخ شكل البورديل.
ـ لكن الإنسان لا يعيش بالكذب.
رد قاسم وهو ينهض كنسر يهم بالطيران فوق البحر:
ـ وبالنفاق، والتزوير، والانتهازية، والغش والرياء. هل ستعود إلى أورستا؟
ـ طبعا واين اذهب؟

قال قاسم: ـ بدون فيلم، بدون قبو، بدون غراب. حاول أن تخرج الى المسرح.
قلت ضاحكا:المسرح تركته للكلاب والأوغاد والمخانيث وباعة الوطن والضمير والبرابرة الجدد. أنا الآن حر يا قاسم حتى منك ومن الطموح والخوف والهاجس والانتظار. شيء ما يجرني نحو الشمس. لنحدق في الآتي كما يحدق صقر في فريسته.

قال قاسم: ـ إذا لم أجد امرأة الليلة سأنام مع الخيال.
قلت:ـ سأنام مع الذاكرة.
صرخ:
ـ هذا هو الفرق بيننا: الخيال خلق والذاكرة استعادة.
ـ لا توجد استعادة حرفية يا أبو النسوان والأحلام المجهضة قرب صاحب البطة البرية( هنريك ابسن)

يوم كان كلود مونيه يرسم لوحته عن حقل في الجليد، وكان المشهد ساكنا ورماديا، جاء عقعق ووقف على باب الحقل( لوحة غلاف الرواية!) في اللحظة التي كان فيها الرسام عبر الثلج والعزلة والسكون، ينتظر قدوم شيء ما. أجمل شيء  في العزلة والسكون والترقب هو قدوم شيء غير متوقع في الوقت الذي يكون فيه العالم ساكنا، بدائيا، موحشا، والأرض تتشكل.

طار نورس في الشارع المقفر وانحدر نحو مداخن بيوت تبدو الان، في الضوء الليلي الناعم، كأكواخ مضاءة بنور عائلي حار وآسر. لم تعد أشجار الدر دار والصفصاف والزعرور  والقبقب واضحة  لأنها مكسوة بالثلج. الريح مرت من فوق القنطرة ورأيت على نور الشارع كتلا ثلجية تتطاير كأشباح بيض في هذا الليل القريب من حافة القطب. تبدو الأرض الآن كما في أول يوم خربة وخالية وعلى وجه الخليج ظلمة شفافة هي ظلمة بدايات الكون قبل انبثاق النور على اليابسة وانفصال الليل عن النهار، وقبل خلق البهائم والطيور والوحوش والثكنات والكلاب والحروب والسجون والمنافي.

على هذا الهدير المزمجر في الداخل والخارج، على صوت الريح وهي تعبر القنطرة، أو تمشي تحت الدم، أو تزحف تحت الجلد كنمر مصاب بطلق ناري قاتل، كنت انظر إلى الشارع في انتظار ظهور احد ما، على هذا النشيج الحزين والأزلي لاليوت وهو ينعى الأرض الخراب:

هذه هي الطريقة التي ينتهي بها العالم
هذه هي الطريقة التي ينتهي بها العالم
هذه هي الطريقة التي ينتهي بها العالم
ليس بالضوضاء، بل بالنشيج.

هامش:
هذه الرواية عزلة أورستا، وعنوانها الفرعي: سرقوا الوطن، سرقوا المنفى/ هي الجزء الثالث من  ثلاثية(زمن البرابيك) وتشمل الأعزل ـ 2000 ـ وسنوات الحريق ـ 2000 ـ وعزلة أورستا 2001.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  حمزة الحسن


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni