... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
تأملات في المكان الغريب ..تغرق في قطرة مطر وتقول: هي ذي جنّتي

فاروق يوسف

تاريخ النشر       08/12/2009 06:00 AM


غالباً ما يشعر الغريب أن حواسه تخذله. تفجعه رغبة لا إرادية في المقارنة بين مكانين: مكان صارت الذاكرة تتخيله كما لو أنه يتشكل للتو على الرغم من أن قوة غامضة قد محته في وقت سابق، ومكان آخر ينبعث من الحاضر غير أن شيئا مفقودا يسم بالنقصان العلاقةَ به. يفتك هذا النزاع المحيّر بقدرة الغريب على التماهي مع حواسه المباشرة، مع فكرته عن الوطن البديل. أوروبا، وهي ملاذه الآمن، تزين به هوامشها، فيما بلاده الأصلية لا تزال تصدّر المنبوذين. شيء من سيرة الغريب هنا. سيرة ليست سوى مرآة واحدة من مرايا كثيرة تتشظى بينها مصائر بشر، يعيشون الفقدان في كل لحظة عيش.  

في أثر القديس
فجأةً تجد أن عليك أن تضع قدمك في الخطوة التي ألقاها قبل حوالى 900 عام، الأسقف الانكليزي اسكل الذي طوِّب في ما بعد قديساً. كانت تلك الخطوة العابرة البحار لا تزال تلمع. لا يزال زيتها يسيل. لولا المدرسة الانكليزية التي قُبلتْ فيها ابنتكَ لما كنتَ قد فكرتَ في أن تقتفي أثر رجل قرّر لأسباب غامضة أن تكون هذه البقعة النائية مركزاً لنشر تعاليمه الدينية. يومذاك لم يكن هناك فايكنغ، فصارت السفن المتروكة على الشواطئ ملعباً للملائكة التي غالباً ما يصيبها الأرق. تتبعه من غير أن يلتفت إليك. قريباً من الكنيسة القديمة الحمراء، لا تحتاج سوى أن تعبر شارعا ضيقا لتجد نفسك في حقل واسع. درب ترابي رطب يقودكَ إلى جسر خشبي تستظل به جوقات من البط، فيما كانت النوارس تحطّ على سياجه. لا تتقدم أكثر. تودّ لو أن نهاركَ الذي لا يتكرر هذا، يظل متسمرا في مكانه. مثلما تفعل أنتَ تماما. تودّ لو أن الوقت يتوقف عند هذه اللحظة، لو أن الحياة تتحوّل صورة فوتوغرافية. تظهر أنت في تلك الصورة واقفاً على الجسر الخشبي الصغير. وراءكَ يظهر جزء من برج الكنيسة، وأمامكَ تمتد جزيرة الورد، فيما على الضفة الأخرى تظهر بيوت خشبية قديمة هي ما تبقّى من القرون الوسطى. منذ أسابيع لم تر أثراً للشمس. تمشي فتشعر أن الماء يحيط بك. الهواء كلّه ماء. يخيّل إليك أن هناك أشباحاً كثيرة تشبهكَ، يضمّها النهار بضبابه. لستَ الوحيد يسمع رنين الأجراس. غير أنكَ لستَ على يقين من أن القديس سيكون في إمكانه أن يلحق بكَ ليقف إلى جانبكَ في الصورة. لقد طعن المدينة بعصفه، يوم لم يكن هناك سوى قريتين هاذيتين: واحدة على اليمين وأخرى على اليسار، وما بينهما تجري المياه. تقف مباشرة على حافة الجزيرة لتنظر إلى أعماق المياه وتتذكر أن هناك من تساءل عن الموجة التي لا تصل إلى الشاطئ مرتين. تنظر بإمعان إلى البيوت التي يتكئ بعضها على البعض الآخر بحنان على الضفة الأخرى وتتوقع أن ينفتح أحد الأبواب الخفيضة ليخرج منها فارس مدرّع حاملاً رمحاً وراية. تبتسم للحصان الذي تركته الغزوات وحيدا، ذلك الحصان القصير القامة، البطيء الحركة، الذي يقف قرب كوخ قديم حوّلته صاحبته مقهىً لم يعد لديه من عمل سوى تسلية الأطفال. كان هناك منتصرون انتهى زمانهم. اختفى النبلاء، فيما لا يزال الفلاحون ينسجون من الهواء حكايات تذكّر بحكايات الفرسان الغابرين. غريب أنتَ، مثل ذلك الحصان. لم يبق في ساعتكَ إلا قليل من الرمل، والمكان يدور بك.
"أيها السيد أربط حذاءك". أنظر إلى الأسفل فأرى قدميَّ حافيتين. أرفع رأسي فلا أرى المرأة التي كلّمتني. كان جميع زبائن المقهى حفاة، فيما كانت النادلة، نصف عارية، تتنقل بين الموائد لتوزّع أقداح الجعة الكبيرة. تحطّ نظراتي على نهديها الكبيرين. كانت هناك زهرة صغيرة من حجر أزرق تتدلى من رقبتها. تبتسم النادلة لي وتعطيني ظهرها. أسمع الصوت نفسه. المرأة التي فقدتُ أثرها، تجلس أمامي وهي تضحك. جاءت لترى أثر دعابتها. "لم أرك من قبل هنا"، تقول. "دخلتُ خطأ"، أجيب. تحرّك ذراعيها بطريقة تشمل الجميع وتقول لي بكلمات متقطعة: "كل هؤلاء دخلوا خطأ. الشيء الوحيد الذي يجمعهم أنهم حفاة. وهو شرط الدخول المكتوب على باب المقهى". كنت قد قرأت ذلك الشرط المكتوب بالنيون مرات عديدة وأنا أمر بالقرب من ذلك الكوخ. أعتقد أنها فكرة للألفة. أن يكون الجميع حفاة. يشعر المرء كما لو أنه في بيته. عري القدمين يقرّب الناس، بعضهم من البعض الآخر. اكتشاف عبقري يصدر عن تقليد يومي أسوجي: عادةً ما يترك الجميع أحذيتهم قرب الباب ويتنقلون حفاة بين أرجاء البيت.
مستشفى لا فندق
يشفّ النهار عن مدينة تخرج من أعماق الضباب. مدينة صارمة ومتجهمة البناء كما لو أنها بقايا حصن عسكري. الهواء الناعم من طرف النهر، والذي يضرب وجهكَ برذاذ أجنحة نوارسه، يخفف من شعوركَ بقسوة المشهد الذي تراه. تنظر من خلال الزجاج إلى داخل إحدى البنايات فترى مشهدا يهدئ من روعكَ. بل ويحلّق بكَ بعيدا. فتاة عارية تقف أمام مجموعة من الفتيات والفتية المنهمكين في الرسم. يدفعكَ الفضول إلى أن تستمر في النظر من خلال زجاج النوافذ الأخرى إلى الداخل فترى ماكينات للطباعة الفنية وتماثيل لم تنجز بشكل نهائي ولوحات ركنت في الزوايا، فتتأكد أنك قد اقتحمتَ مدرسة للفنون. تنحرف في مشيتكَ إلى شارع جانبي فتقرأ "متحف الفنون الحديثة". تقول لكَ موظفة الاستعلامات وهي ترى على وجهكَ علامات استغراب: "منذ سنوات كانت هذه المنطقة مدينة صناعية، غير أن البلدية استملكتها وقررت تحويلها مدينة للفنون". من الصناعة إلى الفن، طريق طويلة اجتازتها الفكرة، كانت عامرة بالخيال الذي استهلك أموالا كثيرة. ذلك الخيال لا تخطئ آثاره النظرة الأولى. تجد نفسكَ وأنتَ تدخل إلى ذلك المتحف، في مكان يبدو كما لو أنه شيِّد لتوّه ليكون متحفاً للفنون. كل ما تقع عليه عيناكَ يشي بذوق رفيع وأناقة باذخة. مكان لا يتوقع أحد وجوده في بلدة صغيرة كبلدة اسكلستونه. فهي ليست برلين ولا طوكيو ولا سواهما من مدن الفن الصاعدة. تقول لكَ الموظفة: "لدى البلدية من اموال الضرائب ما يعينها على الاهتمام بالنشاط الثقافي بأسلوب راق". تغمّكَ الفكرة أكثر مما تسرّك. تتذكر أن هناك بلداناً ثرية، ليس في وسعها أن تنشئ مكتبة عامة ولا متحفاً ولا صالة للعرض الفني ولا داراً للسينما، في الوقت الذي لا تكفّ فيه عن تشييد الأسواق الفارهة. مقارنة ليست في صالحكَ نفسياً. تهزّ رأسكَ لتطرد الأفكار السوداء بعيدا. تنزلق خطواتكَ على المرمر وتبهركَ الانارة التي صُمِّمت من أجل أن يكون لكل عمل فني وجوده اللافت. تودّ أن لا تنحرف نظرتكَ عن الأعمال الفنية في اتجاه المبنى الذي تسحركَ تفاصيل أناقته. ولكن كيف يتأتى لمتحف في بلدة صغيرة، أن يعرض اعمالاً ما بعد حداثوية؟ صحيح أن المتحف خصّص بعض قاعاته لعرض رسوم ومنحوتات تعود إلى نهايات القرن التاسع وبدايات القرن العشرين، وهي أعمال تكاد تكون اليوم تقليدية، وجزءاً من تاريخ الفن الاسوجي، غير أن قاعات العروض المتحركة تضم أعمالا تمثّل آخر النزعات الفنية في العالم: انشاءات وأفلام فيديو ومواد جاهزة ومختلفة وسواها من التجارب المعاصرة. تفكر في الميزان الحضاري الذي ينبغي له أن يظل متوازنا. في هذه البلدة الصغيرة كل شيء ينتمي إلى مزاج العصر، روحيا وماديا. تتذكر دهشتكَ حين دخلتَ إلى أحد المستشفيات هنا للمرة الأولى، وبهرتكَ نظافته وأناقة أثاثه وكمية الزهور الحية المنتشرة في أرجاء المكان ولطف العاملين فيه. بعد سنوات تأكد لكَ أن المستشفى، كل مستشفى، في كل مكان مهما يكن صغيرا أو نائيا، هو أكثر أناقة وهدوءاً من أرقى الفنادق. هذه المرة لن تخرج من المتحف مدحورا مثلما حدث لكَ يوم خرجتَ من ذلك المستشفى. الآن وبعدما تمكن منك اليأس، لن تلجأ إلى مقارناتكَ البائسة التي لا تخلو من القسوة على النفس. تخرج من المتحف لتواصل جولتكَ في مدينة الفنون التي لا تخلو بقعة من بقاعها المكشوفة من نصب تجريدي. تلك الانصاب التي صُمِّمت لتكون جزءاً من الفضاء المحيط بالمتحف، تثير في أعماقكَ عاطفة من نوع خاص. عاطفة هي مزيج من الالفة والحميمية تعيدكَ إلى زمن طفولتكَ، يوم كانت النافورات تملأ وسط الدار موسيقى.
لغة الاعزل
جارك لام، يقول لك بحزن: "لا فائدة من البحث عن عمل". لام من جنوب السودان. زوجته ماريا هي الأخرى لم تبلغ الأربعين من عمرها، غير أنها لا تزال عاطلة من العمل. تسأله: "ولكن، ألم تساعدك دائرة العمل؟". يتأملكَ ثم يقول وشبح ابتسامة على فمه: "يفضلونني عاطلا". هي الجملة نفسها التي تسمعها من الكثير من المهاجرين. غير أن المشهد ليس قاتما كله.
حين ذهبتُ إلى المركز الطبي، وجدتُ طبيبا عراقيا في انتظاري. كان غريبا عليَّ أن أتحدث العربية في مثل هذا المكان. هناك اختبرتُ تأثير المكان لغويا. أحيانا كنت أنسى فأجيب الطبيب العراقي بالأسوجية ثم أعتذر. أتذكر الآن واقعة عجيبة حدثت لي قبل سنوات. كنتُ في حوار مع كرستر، معلّم التاريخ الذي أحببته كثيرا. كنا نتحدث عن العراق الحالي حين انتبهتُ إلى أن كرستر ينظر إليَّ متعجبا من غير أن تبدو عليه أي علامة تكشف عن موقفه. قلت له: "ألم تفهم ما قلت؟"، فأجاب: "طبعا لم أفهم. أنت تتكلم بلغة لا أفهمها". يومها ضحكت وأنا أعتذر. لقد كنت طوال الوقت الذي استغرقته جملتي الأخيرة أتحدث بالعربية.
لا ترغب في أن تقول لجاركَ لام: "إنك قد تخطيت سن الشباب يا صاحبي"، ذلك لأنك ترغب في أن تبقى شابا. ولكن للعمل شروطه الصارمة في النظر إلى العمر. يمكنكَ أن تكون شابا إلى الأبد، لكن خارج حدود فكرة البحث عن عمل. أنت يا صديقي لم تأت بحثا عن العمل. جاركَ لام، هو الآخر مثلك جاء لاجئا. لا يمكنكما أن تنسيا ذلك الآن بعدما صرتما مواطنين بحكم الاقامة. تقول له: "جئت لأكتب"، فينظر إليك بدهشة: "وهل تتطلب الكتابة مشي الآف الكيلومترات؟". توهمه بأنه لم يسأل حين تهزّ رأسك مؤكدا. "التقيت عشرات العراقيين. أنت العراقي الوحيد الذي يقول ذلك". ليست لديك رغبة في الحديث على الاختلاف. لقد سمم الآخرون فكرتك عن الاختلاف بسبب غرورهم الفارغ. تشعر بأنك محاط بالعميان. فما يُرى، أي ما هو متاح للنظر، انما هو معجزة حقيقية. وحدها الفصول وهي تسلّم الأرض ارثاً، بعضها إلى البعض الآخر، تكفي سببا للشكر والعرفان. جمال مكتمل يذهب ليحل محله جمال مكتمل آخر. أتركهم في عماهم يا صديقي. يكفيك أن ترى. يكفيك أنك تعجن شظايا تلك المعجزة بدموعك كلما استمعت إلى لميعة توفيق وهي تغنّي "هذا الحلو كاتلني يا عمه". حتى الله ليس في إمكانه أن يهبك وطنا بديلا. تعرف أن صناعة الأوطان لا تدخل في اختصاصه. تتذكر أنكَ حدّثتَ كرستر بالعربية، لا لشيء إلا لأنها اللغة الوحيدة التي في إمكانها أن تنقل أحوالكَ. كل اللغات صامتة إزاء ما يجري في أعماقكَ. العربية وحدها في إمكانها أن تهبكَ وطنا. لمعت عيناه حين أشار إليكَ وهو يقول: "بيننا من يستطيع اللحاق بها وهي تعيش عصرها الذهبي". هل بكى معلّمك وهو يذكر بغداد؟ ليكن. إنك تبحث عمّن يشارككَ غصتكَ. العراقيون من حولك لا يبكون. دمرت الفضائيات حساسيتهم النبيلة. إنهم يتكلمون بلغة السياسيين الفاسدين. تنصت إلى حواراتهم في السوق ولا تعلّق، بل ولا تلتفت. أنت وحيد وأعزل يا صديقي، ولا يمكنكَ سوى أن تكون كذلك. حتى لغتهم، هي أخرى. كانت زهور حسين حين تقول "خالة شكو"، فإن سؤالها يأخذ بالنسبة الى العراقيين هيئة رمزية تذهب إلى حافات الكون. كان ذلك السؤال هو خلاصة الغرام العراقي الذي هو نوع من الفناء. عذرية خالصة ذُبحت في الطريق إلى المنافي، فكان على العراقي أن يتحول كائناً هجيناً. يضع قدما على أرض، فيما تظل قدمه الأخرى سائبة. "الأخ عراقي؟"، يسألكَ أحدهم، فتشعر بالحيرة. "نعم" تضمّكَ إلى القطيع، و"لا" تمحو معنى حياتكَ. ستنظر إليه بعينين دامعتين وتذهب في طريقكَ.
الجمال لا يشيخ
"هذا الحلو ما أريده/ ودوني لأهلي"، تقول ذلك كما لو كنتَ ثعلبا. لا ترغب في العودة مهزوما. أعرف ان فيك خيطا لا يزال شاردا، تشدّه كلمة إلى غيمة قد تمر ببلادك الضائعة. خيطا يبكّيك. غير أن جمال الفتيات النضرات هنا يبكّيكَ أيضا. تجلس على مصطبة في شارع المشاة، وسط المدينة وتتأمل حياتكَ. تمر المواكب. الأنوثة كما تخيلتها هي موضع نظركَ الحائر. هل حضرتَ متأخراً؟ شقاؤك يسيل على  السيقان والأفخاذ والمؤخرات والأثداء، من غير أن يكترث أحد لهذا العذاب. لستَ نابوكوف. أعرف انك لا تفكر في لوليتا جديدة. يشقيكَ الجمال ولستَ في حاجة إلى امرأة. لديكَ الأنثى الكاملة، في البيت كما في روحك. "ولكن الاستمتاع بالجمال شيء آخر"، تقول لي. أوافقكَ مرتابا. الأسوجيات لا يبتسمن للأجنبي إلا بعد أن يتخطين سن الخامسة والثلاثين. لقد كنتَ تحرص على أن لا تسأل صغيرات السن عن المواقع التي تريد الوصول إليها. تفضل الوقوف في انتظار امرأة اربعينية لتسألها. تعرف ان تلك المرأة ستهبكَ وقتا أكثر مما تتوقعه، بل أنها قد ترافقكَ إلى الموقع الذي ترغب في الذهاب إليه. حينها لن تكفي "شكرا" للتعبير عن امتنانكَ. هناك من يسأل من أجل أن يجد امرأة يتعرف اليها، أو على الأقل من أجل حوار موقت. ولكن ما معنى قعدتكَ فيما الحياة تمر؟ تقول: "تأمل الجمال لا يشيخ. متعته لا تهرم". قلتَ لي إنكَ تملأ خزانتكَ البصرية كل يوم بمقتنيات الجمال المباشر. لولا تلك الخزانة لما عثرت على الكلمات. تقترب منك إحدى الفتيات الصغيرات. لا يتجاوز عمرها الثامنة عشرة على الرغم من أن طولها يكسبها عمرا أكبر. تقول لك بابتسامة خانعة: "أتعيرني سيجارة؟"، وهي جملة سمعتها كثيرا. لا يطلب الفتيان هبة بل يصرّون على استعمال كلمة استعارة. لم تتأخر كثيرا حتى تخرج هويتها: "أنظرْ". "لم تصلي بعد إلى الثامنة عشرة"، أقول لها. "بعد ايام. أنظرْ"، تجيب، وتجلس إلى جانبك. لقد قبضت عليك متلبسا بالتدخين. وإلا كنت كذبت عليها بالقول انني لا ادخن. تشعر بالحيرة. الفتاة لم تكذب. حقا ستصل الى السن القانونية بعد أسبوعين. ترتبك. يحمرّ وجهك. ما من حلٍّ أمامكَ سوى أن تعير الفتاة سيجارة لتتخلص من ورطة جلوسها إلى جانبكَ. رائحة الفتاة تنبعث من كل الجهات. تخشى أن تُغرقكَ تلك الرائحة. تنظر اليك الفتاة بتوسل. تشعر أنها من خلال نظرتها تحكم الطوق عليك وتغرق في الخضرة. تلتفت يمينا ويسارا ثم تسرع بإخراج علبة سجائرك. تقدم اليها واحدة. ما إن تمسك بها الفتاة حتى تقفز بعيدا عنك. كأنها تحلّق بجناحين لا مرئيين. يضربكَ هواؤها. الآن تتمكن من رؤيتها جيدا. أيتها الزرافة بساقيكِ الطويلتين. تتذكر يوم انفتحت الغابة على ساحة خضراء مخصصة للعب الغولف. ذهبت يومذاك إلى المقهى الصيفي الذي شيِّد على تلة تطل على تلك الساحة. ما ان جلستَ ووضعتَ على المنضدة تلفونكَ النقال وعلبة سجائرك، حتى اقتربت منك سيدة بادية الاناقة. بعدما حيّتكَ، قالت لك الجملة نفسها: "هل في إمكانكَ أن تعيرني سيجارة؟". يومذاك فهمتَ المعنى، غير أن الصياغة اللغوية ظلت غامضة عليك. بعد دقائق اقتربت السيدة ثانية منك وطلبت الجلوس. "تهوى لعب الغولف؟"، تسألك، فتجيبها بضحكة: "صدّقيني لا أعرف عنها شيئا". فتردّ هي: "لذلك لم اركَ هنا من قبل"، فتعقّب انت: "المشي رياضتي الوحيدة". يومذاك عرفتَ أن تلك السيدة هي صاحبة المقهى. "بيتي لا يبعد إلا خمسين مترا من هنا"، تقول لك وهي تشير إلى شاطئ الخليج. بيت خشبي وحيد يقع مباشرة على الماء، بل يخاله المرء طالعا من الماء. لطالما وقفتَ أمامه متأملا نوافذه وشرفته. حين أوضحت لك السيدة ما تنطوي عليه جملتها الأولى من معان أخلاقية، قلتَ لها مازحا وأنتَ تودعها: "سأحرص على أن أزوركِ من أجل أن أسترد سيجارتي".
الكتب هي السر
ما أغرب خيالكَ. تغرق في قطرة مطر. "تلك بحيرة محلقة، تعج بأبواق الملائكة". كما لو أن المطر لم يسقط من قبل. كما لو أنكَ لم تلمس عذوبة من هذا النوع في مطر سابق. تفتح ذراعيكَ لتستقبل هبات السماء الناعمة. كنتَ وحدكَ تتأمل زهرة زرقاء. أمس أجهدتَ نفسكَ وأنت تفتش في القواميس لتعثر على معنى اسمها بالعربية. همستَ باسمها برقة: "الزهرة المحتشمة". كان زفيركَ نديا. هل شعرت الزهرة بالبرد بسببه فارتجفت؟ حين سقط المطر ولم تكن تحمل مظلة، بقيتَ واقفا وانت تنصت إلى ضربات البيانو. قطرة المطر وهي تضرب الورقة، هي غير القطرة التي تندسّ بين الأغصان، وهي غيرها حين تذهب مباشرة إلى الأرض. هوذا مطر غير الذي تعرف. شيء ما مختلف يجعلكَ تشعر بالنشوة فلا تخشى البلل. تعبق الموسيقى براوئح الطبيعة. تتذكر أنكَ رأيتَ مرة واحدة قطرات المطر وهي تضرب سطح مياه دجلة. مصادفة لم تتكرر، أخذها القدر معه بعيدا. لم يكن في إمكانكَ يومذاك أن ترى بحيرة في مرآة قطرة المطر. كان النهر يجري بدموعكَ فيما مرآتكَ تفقد زئبقها. تشعر أن قطرات المطر فد نفذت إلى أعماق روحكَ. صارت موسيقى خطواتها تتلمس الطريق على سلالم عظامكَ. تتذكر داستن هوفمان في "رجل المطر". لديكَ من الالغاز ما يكفي لصنع متاهة. تلتفت فترى كوخا. تهرع إليه وتحتمي بمظلته. يلهمكَ منظر منضدة وكراسٍ خشب مقلوبة من حولها أن الكوخ مسكون. لم تنتبه إلى أن باب الكوخ كان مفتوحا وأن هناك رجلاً يقف وهو يتطلع إليكَ بفضول. بعد تحية قصيرة يقول لكَ الرجل: "يمكنكَ أن تدخل إلى أن يهدأ المطر". ترفع يديكَ كما لو أنك تبشر بمعجزة. تقول له: "المنظر مدهش". "من خلال النافذة تراه أيضا، لكن بطريقة مدهشة أخرى"، يقول لكَ الرجل الستيني ويفتح باب كوخه أكثر ليسمح لكَ بالدخول. تجلس على أقرب كرسي. ليست هناك غرف. كان الكوخ عبارة عن غرفة مستطيلة واحدة قُسمت أجزاء بحسب الاستعمال: الجلوس، المطبخ والأكل، وفي النهاية النوم. غير أنك لا ترى جدرانا. لقد غطّت الكتب كلّ أثر للجدار. وهناك كتب على الأرض، وعلى الارائك وعلى منضدة الطعام وقرب السرير. خيالكَ يقول لك إن الرجل مؤلف. رجل حرفته القراءة، لا بد أن يكون مؤلفا. هو الآخر يشبه قطرة المطر التي تخفي في مرآتها بحيرة. يقترب الرجل منكَ حاملاً قدحَي قهوة. يضع واحدا منهما أمامكَ ويجلس ليضع قدحه أمامه. يبدأ كلامه من حيث انتهيت": "منذ أن تقاعدتُ وأنا أمضي الوقت في القراءة. لا أخرج إلا قليلا. من أجل المشي أو من اجل التسوق. ليس لديَّ تلفزيون. استمع إلى الأخبار في السيارة. ما الذي يمكن أن أفعله بالوقت المتبقي؟". يبتسم الرجل كأنه يعتذر. "خُيل إليَّ أنكَ مؤلف؟". يجيبكَ وهو يهزّ كتفيه بيأس: "فكرتُ أن أكتب. ولكن كل هذا الخواء الذي يحيطني لا يسمح بأفكار طازجة. مصرفيٌّ من نوعي لا يستطيع التمرد بيسر على عاداته الكئيبة". حين يهدأ المطر تشكر صاحب البيت وتغادر وأنت تلوم خيالكَ. ترى البحيرة في قطرة مطر وترى الكتابة في الكتب. تقول: "لقّنني الرجل درسا في الحياة"، وأنتَ تسخر من بلادة حواسكَ. كل حقل يفتنكَ هو جنة، وكل صبية يلفّكَ هواؤها بسحره هي حورية، وكل كلمة طيبة هي وعد بالصداقة. كما لو أن الحياة لم تعلّمكَ. أنتَ تغرق في القطرة. تلك هي معجزتكَ. لقد اخترقتَ جنّات عديدة. في كل أرض وطئتها قدماكَ كنتَ تقول: "هي ذي جنتي". ولكنكَ تعرف يا صاحبي أن جنّتكَ الوحيدة قد محيت. "كانت الأرض غير الأرض وكانت السماء غير السماء وكانت قطرة المطر لا تصنع بحيرة"، تقول لي وتبكي.

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni