... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
فندق العاصمة

ضياء الخالدي

تاريخ النشر       18/12/2009 06:00 AM


تنوء ممرات الفندق الكبير بالظلمة والروائح الكريهة والقلق . نادرا ما تسمع مفردات وجلبة في ساعات الضحى ، حيث يرين صمت لزج على الجدران المتقشرة ، والابواب الوسخة ، ويمتزج بالرطوبة فيتحول المكان لمن سكن للتو بانه اسير بناية مهجورة ... عند الظهيرة ينقشع السكون بهمهمات اولى ، ثم تزداد تدريجيا ، لتصل الى انتفاضة صوتية من المزاح ، او حكايات الشارع اليومية او طائفة من ذكريات انهمرت فجأة على اناس تركوا اهلهم وقدموا للعاصمة . اغلبهم استوطن الرصيف ، وكون مملكة خشبية خاصة به يعرض عليها السلع . سيجائر او عطور او حاجيات منوعة بسعر موحد ، او البسة ، او ... او ... .
ما حدث في اروقة الفندق يدعو للجنون ، والغرابة . حدث اربك العالم المنسي لهوامش بشر تسكن العاصمة ولا علم لها باي شيء سوى عالمها الرصيفي المحتقن بالوجوه ، والاقدام المتسارعة ، والسيارات وزعيقها المستمر . اختل رواد الفندق الكسبة بضربة سرية جعلت الشك يتوجه صوبي بانني من فعل ذلك ، لكوني الوحيد المختلف عنهم .
 تلك كانت البداية !
قرص مدمج وجد في الغرفة المواجهة لغرفتي . كان صاحبها منذر كعادته في الشارع ، وحين رجع للغداء استغرب من القرص الموضوع على المنضدة ، وقد كتب عليه اسمه . ظن ان رفيقه سعدون بالغرفة اشترى له البوم اغنيات ، او كولكشن من مقاطع كوميدية . لم يعره اهتماما ورماه مع الاقراص التي يمتلكها ، وتوجه صوب " الجولة " لكي يخرجها الى الممر ، ويشعل فتائلها . عليه ان يعد الغداء لصديقه الذي سياتي بعد فترة قصيرة .
اتى سعدون ، وفي غمرة تناول الطعام تحدثا عن القرص المدمج ، فاكد له انه لم يجلبه . عندها نهض منذر وكانه لدغ الى القرص ، ووضعه في جهاز السيدي وفتح التلفزيون . كانت الكارثة او الموقعة التي لا يستطيع العقل ان يصدقها هو ان يكون منذر يرتدي على صدره شريط رصاص وهو يعلن انه سيفجر نفسه فداء للوطن والدين . انهار ، وسقط على السرير ، وبهت سعدون من ذلك ، وشك بصديقه بسرعة ، او تلوث بالشك . انه منذر بشحمه ولحمه .
بقي السر عند الصديقين اسبوعا ، ثم انطلق الي محملا باتهام مخفي وراء استفسار اطلقاه . هل وضعت يا اخ جمال قرصا في غرفتنا ؟ مزحت ، تصورت قصدهما قرص رغيف خبز . ابتسمت وقلت لهما :
- ارغفة ساخنة لو باردة ؟
بقيا على التوتر ، واخذاني داخل غرفتهما المقابلة لغرفتي . كانت ممرات الفندق مقفرة لان الساعة اقتربت من الحادية عشرة ليلا . اظهرا القرص المدمج ، وبديا مرتبكين تماما ، ومذعورين . حين اجبت بالنفي ، لم يصدقا ، وطلبا مني القسم بالله وبالقرآن والاولياء . اكدت ان مفتاح الغرفة لا املكه . مدير الفندق وحده الذي يملك نسخة منه . عندها عرفت ما كان بالقرص من مشهد يتطلب قدرة خارقة لمعرفة سره . عرضا ما فيه وانصعقت من هول المفاجئة ، وتراجعت خطوة الى الوراء خوفا منهما . ارهابيان معي في غرفة قذرة جدرانها غير مدهونة ، وبلاطها يزخر ببقع لشاي دبق ، ولوساخات اخرى . قذارة العقل قربي ، وتصورت انني شممتها ، او هكذا  ما كان لانفي ان يميز بين روائح الفندق العفنة ، والكثيرة ، التي تبدأ من المرافق الصحية الغارقة بعض مقاعدها بالبول والغائط ، مرورا بغرفة الاخوين اللذين لم يذعنا ابدا لتعنيف اصحاب الغرف في الرواق عندما يضعان قمامتهما قرب الباب ، ولم يحملاها صباحا عند خروجهما للعمل . تراجعت الى الوراء اكثر ، واكثر ، للابتعاد ، والهروب حتى لو بانطلاقة سريعة ، صوب مدير الفندق .
لكن بكاء منذر جعلني اتسمر بمكاني ، وابعد هواجسي ، لاقترب من حقيقة انسان ينشج بقوة ، ويردد " انا فقير ، وعلى باب الله " تيقنت انه بريء . هذا اليقين اتى رغم اني صممت بداخلي ان لا اظن بالناس خيرا من اول وهلة . طلبت منهما ان لا يخبرا احدا بذلك ، حتى استفسر من خبير بمونتاج الفيديو عن كيفية انتحال شخصية ما وتركيبها بمشهد مصور .
الشبه ، يخلق من الشبه اربعين كما يقولون ، لكنه منذر . ارهابي في قرص مدمج . 
فندق العاصمة العتيق يحوي اكثر من ستين غرفة وبطابقين . بناء قديم متهالك يقبع وسط دكاكين تسند بعضها بعضا ، والشارع الذي يواجهه طرد السيارات وتحول منذ التسعينيات الى سوق للخضار ، واخذت الاكشاك البدائية ، التي تشبه عرازيل الاراضي الزراعية تنتشر حتى بدت حين نشاهدها من نوافذ غرفنا كأنها عناوين لفوضى تعم الكون . رواد الفندق ذكور ولا وجود لعوائل مسحوقة كالايام الماضية عندما كانت تسكن ولا تبالي بالسمعة وكلام الناس  . كسبة هاجروا من مدنهم صوب العاصمة . يبقون شهرا ، ويغادرون حاملين ما اقتطعونه من فك الاقدار المخيفة التي يحملها اليهم الشارع والسيارات الكئيبة . جنود ينتظرون بلهفة الاجازة الدورية . ارض الحرام فيها الرزق !                         
               
كما يعيش بالفندق شحاذون مسنون ، وهؤلاء لا علاقة لهم بما يجري ، ولا يؤدون التحية للاخرين . منومون مغناطيسيا . يسيرون كدرب النمل لا يحيدون ابدا عن الغرفة ومكان الاستجداء . لا حديث عن الماضي او عن السياسة او عن الواقع الذي رماهم كقشرة بطيخ ... يجب ايضا ان لا ننسى المخمورين طوال اليوم ، والذين ينافسون الشحاذين الحقيقيين بمجالهم . السكيرون لهم علاقات وطيدة بمدير الفندق السكير ايضا . حيث تسمع اواخر الليل مواويلهم الريفية ، والبغدادية ، ويصبون اللوم على الزمن الوسخ الذي لم يقدرهم حق تقدير . وساخة ، ورائحة خمر تشمها ، وضحكة عاهر تنسل بين اروقة الفندق في بعض الليالي  ، فتشعر ان عالما سفليا قد اخذ مكانته في جسد العاصمة . ينمو بعيدا عن صخب الدسائس ، وهول الافكارالمتربة ...
اكد مختص بمونتاج الفيديو زرته في دكانه لا وجود لقدرة كهذه بتركيب وجه انسان على جسد ما ويتحرك طيلة ربع ساعة . يمكن ذلك في صورة مثلا ، والا لكانت الدسائس الكيدية انتشرت بالدليل القاطع ... حين قلت للصديقين ما سمعته من الخبير واثناء وجودهما قرب بسطيتي السيجائر في الشارع ، امتعضا ، وامتقع وجه منذر وراح يقسم بهستيرية انه بريء مما اثار انتباه رفاقه الاخرين ، واتى احدهم الينا ، واراد معرفة سبب تجهم منذر ، وحزن سعدون ، ووجه كلامه لي :
-  اخ جمال . ما هي الاخبار السيئة ؟
كان الشاب اسمه عمار ويسكن في غرفة تقع ببداية رواقنا ، وحيدا . يعمل ببيع حلويات الطاطلي .
- لا يوجد شيء .
وابتسمت له ، لكنه نظر بعيني بشكل حاد وغريب ، ولم يتزحزح من مكانه . نسى صينية الحلويات فوق بسطيته الخشب . لا يلتفت اليها رغم ان السوق محتشد ، والاطفال المشاكسين السراق يدورون في المكان . كررت :
- لا شيء ، صدقني .
قال سعدون :
- عمار اذهب لمكان رزقك .
فكرت ان تكون العصبية القبلية سبب ذلك ، فالثلاثة ينحدرون من مدينة واحدة ، رغم اني من المدينة نفسها ، ولكن يبدو ان قرابة شديدة ما تجمع الاصدقاء الثلاثة . تركتهم ، وتوجهت صوب الفندق حيث غرفتي . اود الارتماء على السرير والابتعاد قليلا عن هواجس القرص المدمج . حتى محاضرات اليومين لم انشغل بها . دخت . لان الشك لا يزال موجودا بمنذر ، وباشرطة الرصاص المتقاطعة على صدره ، وبمفرداته التي اطلقها لسان لا يمكن ان يبدو كاذبا !!
سمعت سؤالا اطلقه نزلاء الفندق كثيرا حول وجودي في هذا الفندق البائس انا طالب الكلية . اعدت الجواب للجميع بان الفقر ، ولا اخجل منه هو سبب الاختيار . السكن هنا رخيص جدا ، ويمكنني ان اتحمل قذارة المكان لاخفف الحمل عن عائلتي ، واكمل التعليم في العاصمة . هذا الجواب تحول الى تبرير بنظر النزلاء ، فعمار ، بائع الطاطلي دق باب غرفتي في ساعة متاخرة من الليل . نهضت من نومي منزعجا . كان التيار الكهربائيا مختفيا والظلمة لم ابعدها الا بمصباح قداحة رخيصة . دخل عمار وكان يحمل مصباح شحن ، والارتباك يقيد ملامحه . قال دون تحية :
- سمعتك تقول لمنذر ولسعدون مفردة " فيديو " و " ومونتاج " . ماذا تقصد ؟
فركت عيني ، وخشيت ان اظهر استيائي ، فاجبته :
- لا شيء ، طلبا مني قرص حفلة لمطرب خليجي . فلم اجده !
- من اجل حفلة يحزن منذر وكأن مصيبة نزلت عليه .
واردف ساخرا :
- اجلب له اذن حفلة لمطرب ايراني . ربما سيفرح .
- عمار ، ماذا تريد ؟
اغلق باب غرفتي بقدمه ودخل . كان الوقت يشير في ساعة الجدار الى الثانية والنصف صباحا . ازحت الغطاء وجلسنا على السرير . يبدو ان وراءه مشكلة ، او تصور ، او وهم ، او مرض ، او مفردات صماء لا تعبر عن شيء ! قال بحزن :
- وقعت بمشكلة . او اتهام . احدهم دس قرصا مدمجا في غرفتي ، وفيه صورتي تتحرك وهي تفعل امورا شنيعة
!
قلت :
- كانك ارهابي مثلا .
صرخ ، وهجم علي ، لكمة بوجهي ، وصفعات ، وسحبني من السرير لاقع على البلاط . اطلب منه التوقف ، واخبره ان منذر مثله ، اتهمه احدهم ، مثلك ، قف يا برئ ! . اخفيت وجهي بيدي من لكماته ، وتكورت ، لساني يحاول فض النزاع ، ومخاطبة ذهنه الذي اقفل تماما بهستيرية تؤكد بساطته وصدقه ، وقلقه . كما وشى بحبه للحياة ، والناس . يصرخ بي مكررا :
- ارهابي ، ارهابي ، ارهابي ..
وايضا :
- قذر ، قذر ، قذر .
يبدو ان زعيقه انسل من تحت الباب ، ليدلف الى الغرفة المقابلة ، ويسحب منذر وسعدون من دثاريهما . فقد اتيا ، ودفعا الباب بقوة ، وسحبا جسدي من قبضته . كان وجهي يسيل منه الدم ، وظهري يؤلمني من الركلات . عمار منفعل جدا الى درجة مسك فيها منذر ، واخذ يهزه ويؤكد له انني ارهابي .
قلت له ومازلت جالسا على الارض :
- يا عمار ، منذر مثلك جاءه قرص مدمج ، وفيه يصرح انه سيفجر نفسه !
بهت عمار ، وراح يحدق بصديقيه . هز سعدون راسه مؤكدا ، وبكى منذر معه . فقال عمار :
- هيئتي في القرص لا انوي تفجير نفسي ، انما وجدت صورتي وهي تذبح بشرا . نعم بشر . ليس دجاجة او خروفا .
جلس الثلاثة على الارض معي ، ورحت احلف بالمقدسات انني احاول المساعدة ، وبرئ مثلهم . هناك من يتلاعب بنزلاء الفندق البسطاء . من يدري ، ربما الشحاذون والسكارى ايضا وصلتهم الاقراص اللعينة ، وربما ايضا وصلت للعاهرات خارج هذه البناية ، والشاذين جنسيا في هذا الفندق . علينا ان نخبر مدير الفندق الان . لكنه كالعادة مخمور ونائم كالميت .
ضعف مصباح الشحن المرمي على المنضدة ، وذهني يحاول تأكيد حقيقة امكانية المونتاج ، ووصوله الى  هذه الدرجة المخيفة . لكنني حتى اللحظة لا اؤمن بوجود هذه الامكانية ، كما لا اؤمن بالاصدقاء الثلاثة ارهابيون . بقى امر واحد ، متيقن منه بالكامل ، ان نزلاء الفندق يمكن لبعضهم ان يكون متجسدا ودون مونتاج في اقراص المخابئ السرية ! 

*  القصة الفائزة بالجائزة الثالثة في مسابقة قناة الديار الفضائية
  deyaairaq@yahoo.com      


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  ضياء الخالدي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni