... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الشيء الوحيد الشفاف في العراق: العراقي أمام دار العدل

حسين الموزاني

تاريخ النشر       18/12/2009 06:00 AM


«نحن نبجّل ما لا نفقهه مثل العادات القديمة والخطابات الرنّانة وما إلى ذلك. بيد أنّ علينا التحفّظ في إطلاق إحكامنا على الأشياء التي لا ندرك معناها، لكي لا ينتشر التبجيل الخالي من المعنى في جميع أصقاع الأرض: فانظروا إلى عالمنا الروحي الذي مازال مصريّاً خالصاًً، فهو صحراء تنتصب فيها أهرامات عملاقة - وفي هذه الأهرامات، التي يتعذر التوغّل فيها عادة،ً ترقد جثّةٌ مهترئة».
                                        (فريدريش نيتشه)

 
 سمع صديقيّ الشاعر أحمد جابر، الذي غيّرت اسمه هنا لضرورات أمنية، سمِعَ بأنّ الحكومة العراقية عقدت العزم أخيراً على تعويض بعض المنفيين العراقيين الذين أصابهم حيف في ظلّ نظام البعث العراقي السابق. ولعلّ التعويض يشمل قطعة أرض، لم يحدد موقعها الجغرافي بعد، لكنّها ستكون في العراق نفسه. فسألت هذا الصديق فيما إذا كان الأمر يتعلق بنكتة جديدة من نكات الوضع العراقي الشامل، بما فيه الحكومة العراقية وأحزابها التي لا تعدّ ولا تحصى. فقال كلا، بلّ إنّ المصدر موثوق منه تماماً وأن الأرض لا تكون بالتأكيد في مقبرة النجف الأشرف. ورغم قناعتي ببهتان ثقافة السمع التي مازلنا نتمسّك بها ومنذ زمن الجاهلية الأوّلى إلى اليوم، فقد أسقط في يدي، لا سيما وأنني لم أرفض مرّة واحدة في حياتي طلباً لصديق. وبما أن أحمد جابر يحتل منزلة خاصة في قلبي منذ أكثر من ثلاثين عاماً فقد عملت فوراً على تنفيذ رغبته.
كان قد خاطبني في رسالة قصيرة موقعة بتاريخ 24/8/2009، أي قبل حوالي ثلاثة أشهر، قائلاً: «وضعت لك الورقة طيّاً، لغرض تصديقها من السفارة العراقية. وإذا كانوا يحتاجون إلى ترجمة عربية مصدّقة، لكي يصادقوا عليها، فأرجو القيام بها».
كانت الورقة عبارة عن وثيقة صادرة عن مكتب تسجيل النفوس دوّنت فيها أماكن إقامة أحمد جابر خلال العقود الثلاثة الماضية بتفصيل دقيق. والغرض منها بالطبع هو أن صديقيّ سيثبت من خلال الوثيقة بأنّه كان معارضاً قديماً قارع نظام صدّام منذ عقود طويلة، في حين البعض، ومنهم وزراء ومسؤولون كبار في الدولة العراقية الحالية، كانوا من أعوان هذا النظام والمتعاونين معه.
وأدركت منذ البداية، وليس عبر التجربة وحدها، بل بالغريزة أيضاً، بأنّ مهمتي لن تكون يسيرة. وإذا كان مجرد الاعتذار من قبل خصومنا السياسيين الذين حرمونا ليس فقط من قطع الأرض المجانية التي كانوا يتصرفون بها بالهكتارات، إنما حتى من رؤية أرض العراق، فكيف إذاً يا إلهي يمنّ علينا من ورثهم وأخلاقهم بقطعة أرض تعويضاً عن آلام منفانا!
ولأنني اعتدت في أيّام الشدة اللجوء إلى أصحابي في الملمّات ومنهم نيتشه وريلكه وكافكا، فقد خطرت في ذهني قصة كافكا «أمام دار العدل» أو «أمام باب القانون»، حيث أراد رجل قرويّ دخول مبنى العدالة الذي رأى ناره تتوهج ساطعةً في أعماق المبنى. فطمع القروي بأنّ يقبس من نور العدل والصفاء هذا. وبدلاً من أن يدخل البوّابة المخصصة له حتى قبل مجيئه، سأل حارسها فيما إذا كان بإمكانه الدخول. فأجاب البوّاب الذي بدا وكأنه يجسّد الظلم التاريخي بحقّ الإنسانية كلّها:
«إذا كان يغريك الدخول، فحاول أن تدخل رغم منعي لك. لكنّ عليك أن تعلم بأنني شديد البأس، وأنني أقلّ البوابين شأناً. ثمّ إنّ أمام كلّ بواّبة يقف حرّاس آخرون كلّ واحد منهم أقوى من الآخر. وأنا نفسيّ لا يمكن أن أتحمل مجرد نظرة البوّاب الثالث!» وبعدما تأمل القروي هذا البواب المتين البناء وذا الأنف المدبب الضخم والشارب التتري الأسود والمتلفع بمعطف الفراء، قرر الانتظار بدلاً من المغامرة بحياته، فكان هذا هو خطأه القاتل. إذ أنّ الفلاح المسكين فارق الحياة أمام بوابة القضاء الإلهي دون أن يجازف بالدخول، خوفاً من نظرات الحرّاس الشريرين وتصرفاتهم، رغم أن الباب كان مشرعاً أمامه وحده، بابه الشخصي الذي أفردته له العدالة السماوية والأرضية معاً.

حراس المقابر
فهل طلب أحمد جابر الكثير من حرّاس المقابر العراقية؟
حين اتصلت بالسفارة العراقية لغرض تصديق الوثيقة طلبوا منيّ ترجمتها إلى العربية، ثمّ تصديق الترجمة والتأكّد من هوية المترجم وصحّة تسجيله لدى المحكمة المحليّة قبل أن تُرسل الوثيقة المصدقة بصورة أوّلية إلى المكتب الإداري الاتحادي لغرض تصديق التصديق. وبعد الانتهاء من هذه الإجراءات، يمكن حينئذ المصادقة الختامية على الوثيقة من قبل السفارة العراقية؛ وبما أنني لست مترجماً محلّفاً فقد بعثت بها إلى مترجم محلّف يجيد اللغة العربية. وحملت الوثيقتين المترجمة والأصلية لغرض التصديق الأوّلي وذهبت إلى المحكمة المختصة، فقيل لي إنّ هذه المحكمة لم تعد تصدّق الوثائق، فاذهب إلى المحكمة المحلية الأخرى في مركز المدينة.
وبعد المصادقة أرسلت الوثيقة إلى مكتب الإدارة الاتحادي لمصادقة التصديق. والآن وبعد أن امتلأت ورقة أحمد جابر بالدمغات والخيوط الرسمية، عقدتُ العزم أخيراً على زيارة السفارة العراقية.
وفي تلك الأثناء أوردت وكالات الأنباء العالمية أخباراً كان وقعها على نفسي سيئاً فعلاً، ومفادها أنّ الحكومة العراقية قررت منح الوزراء جميعهم قطع أراض تقع مباشرة على ضفة نهر دجلة ببغداد، وتصل مساحة القطعة الواحدة منها إلى ستمئة متر، وأنّ البرلمان العراقي منح من ناحيته جميع أعضائه وذويهم جوازات سفر دبلوماسية لمدة عشر سنوات كاملة، بغض النظر عن إعادة انتخابهم أو عدمها.
وورد في الأخبار أيضاً بأنّ منظمة الشفافية العالمية نشرت تقريرها الخاص بالنزاهة لعام 2009، فجاء العراق في الموقع 176 من جملة 180 دولةً، ويليه السودان ثم بورما فأفغانستان فالصومال. وإذا ما وضعنا ما يسمّى بمقدرات العراق الاقتصادية وتاريخه الثقافي، لأصبح في هذه الحالة الدولةَ الأكثر فساداً في العالم برمته. وهذا المرتبة الفاسدة التي احتلها العراق بقيت ثابتة على ما كانت عليه في تقرير الشفافية لعاميّ 2007 و 2008، إذ احتل العراق هنا أيضاً المرتبة نفسها من جملة 180 دولةً. وأشار تقرير الشفافية الأخير إلى أن 44 في المئة من العراقيين الذين استطلعت أراؤهم، والبالغ عددهم 800 شخص، أفادوا بأنهم قدموا رشاوى إلى مسؤولين عراقيين لغرض تسهيل معاملاتهم الرسمية.
ويخيّل إليّ بأنّ الشيء الوحيد الشفّاف في العراق هو القتل المجاني والذبح على الهوية، في حين يحيط الغموض في الوقت نفسه بكلّ شيء، أي بمستقبل البلد واقتصاده وثقافته وجيشه وشرطته وقوات أمنه وتعامله مع الدين والطوائف. وبما أنّ الوضع في العراق ينضح بالسخرية السوداء المؤلمة، فإنّ كلّ ما له صلة بهذا البلد يمكن أن يتحوّل إلى دليل عينيّ آخر على الفساد المطلق الذي نخر روح البلد وجسده.
فقد ورد في وثيقة الإقامة المترجمة إلى العربية ما يلي: «بعد تحريات واسعة النطاق في مستندات سجل الإقامة المتوفرة لدي (أي الإدارة الرسمية) أستطيع أن أؤكد لكم عناوين إقامتكم التالية مع ذكر تواريخ التسجيل».
وعلى الرغم من كراهيتي الشديدة لمحتوى مفردة «التحريات»، إلا أنني توصلت بعد تحرياتي الخاصة إلى أن ممثل العراق في هذا البلد كان من المهجرين الذين أسقط عنهم نظام البعث السابق الجنسية العراقية، وأجبرهم على مغادرة البلد إلى إيران. لكن الحكومة الحالية أعادت الاعتبار إلى المقربين منها خاصةً ومن بينهم هذا السفير، ومنحت البعض منهم تعويضاً لما لحق به من حيف.
لكن هل فكّرت الحكومة العراقية يوماً بإعادة الاعتبار إلى المنفيين العراقيين والكتّاب والفنانين منهم بصورة خاصة، الذين قدموا فعلاً، ومازالوا يقدمون، تضحيات يومية جسيمة من أجل العراق ومستقبله؟ وهل رُدّ الاعتبار مثلاً، وإن بصورة معنوية، إلى من غادر هذه الحياة منفياً، مثل أحمد أمير وشريف الربيعي وكمال سبتي وسركون بولص وتحرير السماوي؟

هل أنت أعمى
في غضون ذلك وقع لي شخصياّ حادث غريب، بل حادث قدريّ، جعلني أمعن التفكير في المأزق الخطير الذي أوصلنا إليه الساسة العراقيون والذي يؤكد بشكل يصعب دحضه وهو أن الظاهرة الميكيافيللية في الحكم قد غلبت تماماً على ما يسمى بالظاهرة العلويّة، أي أنّ ميكيافيللي كسب المعركة ضد عليّ وعمر معاً، على الأقل فيما يتعلق بحكم العراق الآن: كنت جالساً في دائرة كبيرة أتصفح الجريدة وأقرأ أخبار العراق الجديدة التي يشيب لها شعر الوليد، وأنتظر إنجاز معاملة وأتطلع بين الحين والآخر إلى اللوائح الإلكترونية التي تعلن فيها أرقام المراجعين، إذ أنّ الانتظار كان حسب تسلسل الأرقام مثلما هو معمول به هنا. ولأنني كنت شارد الذهن فقد قفزت عندما ومض رقمي على اللائحة الإلكترونية. بيد أنني لم أكن أعرف المدخل الصحيح للغرفة، إذ كان هناك ممران، فسألت الموظفة التي ارتدت بدلة رسمية زرقاء لعلّها ترشدني إلى الغرفة التي سأنجز فيها معاملتي؛ فقالت إنها هي نفسها لا تعلم. فاستدرت بعجلة، وخطوت في اتجاه ما، وفي هذه اللحظة بالذات اصطدمت برجل تقوده امرأة، فكاد الرجال يسقط، إلا أنّه أمسك بذراعي في اللحظة الأخيرة، وأيّ مسكة! لقد كان الرجل الألماني أعمى، فتعثرت أنا بعصاته الطويلة الرفيعة، فأمسك بي وصرخ صرخة لم أسمع مثلها من قبل، فالتفت الناس كلّهم إلينا: «أنا رجل أعمى، فماذا أصابك؟ وهل أنت أعمى مثلي؟!».
فكدت أقول له، كلا، بل عراقيّ، وأوشكت أن أضحك، لكنني تمالكت نفسي واعتذرت له، حتى أرخى قبضته المتينة عن ساعدي. فهل أصابني العمى إلى هذا الحدّ؟ أم أنّ الرؤية لم تعد تنفع أبداً في حالتي هذه؟!
ولابأس أن نختم وجعنا هنا بعزاء من نيتشه الذي قال ذات مرّة بأن حبّ الوطن يتضاءل كلما بدا الوطن سعيداً، فالوطن هو إذاً كالطفل المريض، فيا إلهي، يا إلهي، متى يتعافى هذا الطفل؟!

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  حسين الموزاني


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni