... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
معسكرات اعتقال متنقلة

حمزة الحسن

تاريخ النشر       29/01/2010 06:00 AM


(صورة من الوطن : الطريق الى المدرسة!)
من طول التعايش مع القمع، وبتعبير الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي" من كثرة معاشرة الوحش، رائحته تلتصق، الآن، بجلدك". حُبس العراقيون في أنفاق داخلية سرية داخل أجسادهم وتحولوا الى سجناء رغما عنهم، وتحولت البيوت الى زنازين والمدن الى معسكرات اعتقال واللغة الى أسلاك شائكة: صارت اللغة ليست أداة تواصل بل أداة نفي، لا تقرّب بل تبعد، لا تكشف ولكن تخفي.

لم تعد المهارة في الكلام ولا في التعبير ولا في البوح، بل صارت المهارة في المراوغة والحجب والرطانة، ولم يعد العراقي يتكلم بل صار يرطن، وتعطلت لغة الكلام لكي تفسح المجال أم الألغاز والأحجية والرموز، والتعبير الشائع عن" صاحب اللسان الطويل" ليس بريئا، ومعروف أن عقاب اللسان الطويل هو القص سواء القص المادي أو القص الرمزي عبر القانون والأخير هو أخطر المقصات لأنه يتموه بالأخلاقي وبالمقدس والعرف والتقليد: في أزمنة من هذا النوع، أزمنة المخلوقات الميتة في الحياة، تصبح الشوارع الضاجة خاوية، والمصابيح المضاءة مطفأة من البهجة، وتتشابه الأيام، وتلغى الذاكرة الفردية لصالح الذاكرة العامة ـ ذاكرة السلطة: هي وحدها تحدد ما هو حقيقي وما هو غيره، الفرح والعيد والمسرة والاحتفال وعكسه، الموت وشكل الموت، الماضي والقادم، العدو والعلم والضحك والصورة والجدار.

وقد يشعر العراقي بحرية الخروج من المنزل أو التجوال هنا أو هناك ولكنه وهم الحرية، لأن الخروج بذات ممزقة ومتشظية الى شوارع ومخلوقات ممزقة ومتشظية هي الأخرى هو خروج الهياكل والأشباح وليس خروج الكائنات التي تتمتع بحق الاختيار والحرية والمسؤولية، وفي غياب هذه الشروط تصبح نزهة العراقي خارج الدار كنزهة السجين خارج الزنزانة، بل وضع العراقي المعتقل داخل جلده أسوأ بكثير لأن الزنزانة في هذه الحالة متجولة وغير مرئية وتعتقل البنية الشخصية بالكامل وهو أمر لا يتوفر في السجون التقليدية حيث يستطيع السجين التقليدي ممارسة حرية التخيل وحرية اختيار اللغة.

العراقي لا يتكلم عبر عصور الخوف ولكنه يرطن والرطانة غير الكلام المفهوم، لأن الرطانة هي نفي الكلام، نفي اللغة، نفي الكائن، بعد أن عرف عاقبة الكلام الواضح، لذلك نفي الى أعماقه القصية العميقة وصار سجنا ومنفى لنفسه: اي حفر في داخل جسده قبراً ومخبأً وقبواً واختفى فيه.

 لكن اختفى من أي شيء؟ من السلطة صاحبة الحق في الكلام، وتبرع بلسانه لها لأن اللسان كما يعرف علماء اللغة مؤسسة اجتماعية ووظيفة عامة وخزان الخطاب العام المتكون عبر أزمنة، وأما اللغة الفردية فهي لغة تطلّع وأشواق وأحلام وهواجس ورغبات وكل هذه تتقاطع مع السلطة القهرية، لذلك يجب على اللغة الانسانية أن تتلاشى في المخبأ، الوكر، القبو، السجن، أن تنزل الى القاع السفلي في الانسان وترقد هناك متفسخة بهدوء وصمت محولة الكائن الى مخلوق متفسخ هو الآخر على نار هادئة وهو في تمام أناقته الخارجية.

الاناقة الخارجية هي أناقة الجثة الماشية، لأن تفسخ الدوافع الانسانية المشروعة والرغبات السوية والأحلام العادلة في أعماق الانسان، تحوله الى جيفة متنقلة. الأناقة الخارجية للخائف والمهان والمعوز هي أناقة التابوت ولا تخفي رعشة الأعماق وخواء الداخل وتشظي اللغة وانشطار الكائن.

العراقي عبر أزمنة القمع دُرِّب على أن يتكلم مع نفسه بلغة ومع الأسرة بلغة ومع المحيط الخارجي بلغة مختلفة تماما، وحتى هذا المحيط الخارجي ينشطر هو الآخر الى اقسام وأصناف ونماذج وحسب الموقع من السلطة، بل في مراحل معروفة من تاريخ العراق يضطر العراقي الى أن يتحدث مع كل فرد يلاقيه في الشارع أو السوق أو السفر أو العمل بلغة تختلف حسب الأفراد والأوضاع والمواقف.
 
اذا عرفنا ان هؤلاء جميعا يعيشون حالته، سنعلم ان الحوار بينهم هو حوار الانكسار والانشطار والمراوغة والحجب: أي أنه كل شيء الا أن يكون حواراً. مع ذلك حين يضع رأسه على الوسادة لا يعرف رأس من هذا الملتصق به؟ وهذه الكوابيس المهاجمة والوحوش والأشباح والرموز الليلية من أين تأتي؟ تأتي من هذا التوزع، التشظي، الانقسام، الانفصام، المنافي اليومية المتعددة، في الدفع القاسي للكائن عن العالم وعن نفسه وهو أسوأ المنافي.

ومع ذلك يقال له " توازن" كما لو أن التوازن نصيحة أو رغبة أو ميزة أخلاقية، وعدم التوازن خلل وضعف وهشاشة مع ان الخلل والضعف والهشاشة في البناء السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي المنتج لهذه المخلوقات المحطمة والتي تتحطم وتذبل علنا كموت وذبول الأزهار تحت الجدران أو في البراري أو أواني الزهور المرمية.

العراقي لا يتكلم لكي يتفاهم ويتواصل بل لكي ينجو بالمعنى الحرفي للنجاة، لكي يهرب، لكي ينسحب الى الأنفاق السرية، الى الدغل العميق واللغة الملغية المشفرة، وفي مرحلة من تاريخ العراق القريب صارت السلطة تطارده حتى على( النوايا) و( الأحلام) فكيف استطاع هذا المخلوق الفرار من خطاب السلطة الى لغة الأعماق؟ كيف هرب من أحلام السلطة  وصار يحلم لحسابه الخاص؟ كيف هرب من الكتلة الى التفرد؟ من الشعار العلني الى الأشواق؟ من حياة الملكية العامة الى حياة الملكية الخاصة؟

هذه هي اللحظة الاستثنائية في تاريخ العراقي التي جهزته لقدوم البرابرة، كل أنواع البرابرة من الخارج ومن الداخل: السقوط الحقيقي للوطن العراقي حدث قبل التاريخ المعلن والمعروف للاحتلال، قبل هذا التاريخ بكثير، وعبر عملية انهاك طويلة، وسحق مستمر، وتمزيق وحشي، وتحطيم متواصل لأنبل ما في الانسان من قيم وأحلام وأشواق وغرائز وعواطف.

السقوط الحقيقي للوطن العراقي حدث من اللحظة التي أُفرغ فيها الآدمي من آدميته وملئ بالذعر والمذلة والدونية والتشظي، في الانهاك الطويل، وصار جاهزا، كشجرة خاوية، للسقوط، بل كان العراقي على مر الأزمنة يتداعى من دون غزو لأنه هو نفسه صار سجنا متجولا، ونفقا متنقلا، وصارت حياته عذاباً ـ صار ثكنة  مهجورة تنتظر الغزاة.

على مدى سنوات الاحتلال صرنا نقرأ خطابات ندامة وتوبة وخيبة بمشروع" الاحتلال" وتصاعدت هذه الخطابات في الشهور الأخيرة بل أخذ بعضها شكل نبوءة للمستقبل تقول" إن الدولة العراقية وضعت على أسس خاطئة". يأتي هذا الكلام بعد كل هذه السنوات من الدم والسبي ومن قبل كتاب وروائيين حتى صار خطاب الندامة والخيبة يتقدم المشهد كإعترافات القديسين لكن هذا النوع من النبوءات يشبه نبوءة طبيب يقول إن هذه الجثة اذا لم تدفن بعد ساعات في هذا القيظ الساخن، فستتفسخ، لكن السؤال هو:كيف تأخر خطاب الكشف والاستشراف والتجاوز ومغامرة الوعي والاستباق كل هذه السنوات؟

لا نكون دقيقين ومنصفين وأذكياء اذا تصورنا ان مشروع الاحتلال وحده هو الذي تداعى، بل هناك أكثر من مشروع تداعى معه ولكننا، مع عميق الأسف، لا نرى التداعي الا بعد أن نسمع الارتطام المدوي، كجزء من ثقافة مشهدية تحتفل بالخارجي والمشهدي والشعاراتي ولا ترى المذبحة الا حين يصبح الدم بحيرات، في حين أن كتاب وأدباء العالم توقعوا سقوط وانهيار امبراطوريات من تفاصيل دقيقة وكانت تلوح، في الظاهر، قوية ومتماسكة.

مع تداعي مشروع الاحتلال، تداعى مشروع أو أمل العراقي في نخب تقرأ الطريق في الظلام، ترى القادم عبر الحيطان، وهي ليست مهمة عرّافين، بل دور ووظيفة وشرف الكتّاب عبر التاريخ في الكشف والرؤيا والتوقع والاستشراف وقراءة الآتي: والآتي ليس غيبا. الآتي هو الآن، فيما تحجبه السلطة، ويحجبه الواقع نفسه الذي يقدم نفسه دائما في غير صورته الحقيقية، لأن الواقع ماكر، مراوغ، ويحتجب عبر خطابات ورموز وشبكات غش.

لكن كيف يستطيع المنفي داخل جلده ـ داخل ثقافته ـ داخل مكانه في الخارج أو سريره القديم ـ داخل لغته ـ المحتجب هو الآخر في قبو نفسي، قبو عقلي، وكر لغوي، الهارب من الشوارع والأكواخ والمؤسسات والخطابات الى الأنفاق السرية العميقة، الناجي من معتقلات الواقع الى معتقلات الذات، القافز عبر الحدود الخارجية أو الحدود الداخلية والعالق في وحول ذات منقسمة، الناجي من حروب السلطة والعالق في حروب الجسد المقصي والمهان والمحذوف، كيف يستطيع قراءة الآتي اذا كان هو نفسه قد صار سجناً متنقلاً؟ كيف يمكن لمعسكر اعتقال أن يقرأ عنوانه؟


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  حمزة الحسن


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni