... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
مشى الشاب سعيداً بزرقته الى الموت:في الطريق إلى البحر الميت

فاروق يوسف

تاريخ النشر       01/02/2010 06:00 AM


الذهاب الى البحر الميت هو نوع ناقص من الحج. هناك يرى المرء الأماكن المقدسة من غير أن تتاح له فرصة الذهاب إليها. تجربة قاسية عشتها واقعياً، كما أعانني خيالي على الانفعال بخيالها والاشتباك بالمصائر التي يقترحها ذلك الخيال. كنت أبحث عن أثر يبارك خطوتي وينقّي إحساسي من الشرور المحيطة بي. كانت فلسطين قريبة فيما كنت أرى اشباحا تعيدني إلى زمنها، وطناً للأنبياء ومجالاً كونياً لهذياناتهم المقدسة. هنالك خطوة لم يلقها أحد لا تزال عالقة في الفضاء، هي التي ستفتح الطريق يوماً ما في اتجاه الحقيقة.
1
"الملك له. الملك كله". ما من أحد هناك لينصت. ما من أحد هناك ليرى. فمن يرث أحلام الأقدام الهاذية؟ كنت أنظر إلى الوادي. هناك حيث تقاطعت واشتبكت خطوات الأنبياء والقديسين يوماً ما. مَن هبط من السماء، ومَن أتى محمّلاً مراثي أور، ومَن صنع معجزته في المهد، ومَن هزمت رائحة قميصه العمى، ومَن كلّمه الله ووهب عصاه مخيّلة الأفعى. كانوا مأخوذين بفكرة غامضة وقعت على رؤوسهم مثلما تقع الفأس على جذع شجرة. فجأةً انبثق الالهام من جهة مجهولة في الجسد الجريح. ألا يزال في إمكانهم أن يحملوا عنا خطايانا منذورين للأسى والإبهام؟ كنت أفكر في التعاسة التي انتهينا إليها وأنا أكوّر يدي على هيئة قبضة لتكون في حجم القدس التي استيقظت لتوّها على الشاطئ الآخر. النوم يهب المدن دراية مختلفة بنفسها، كما يهب القادمين إلى تلك المدن رغبة عارمة في التمهل حذراً. اهبط مثل خطواتي على الدرب الصحراوي تحوطني أشجار الأثل. يباس يشي بندى الكلام المنبعث من ينابيع مموّهة بالرمل. يؤخر المرء خطوته كما لو أنه لا يرغب في الوصول إلى اللحظة التي لا عودة منها. اللحظة التي يكون فيها كائناً آخر. الخريطة لا تكفي. الأسماء تكذب. الأشباح وحدها تقول الحقيقة. ولكن بأيّ لغة؟ كانت للقديسين دائماً لغة أخرى، غير تلك اللغات التي تحيط بهم. تكلموا ولم يسمعهم أحد. أنصتوا الى ما لم يقله أحد من حولهم. بقيت كلماتهم محفورة في الهواء. الخزانة التي تلهم الحواس كلها خيال الألم. "مر الأنبياء كلهم من هنا"، قلت بصوت عال، فيما كان الدليل السياحي يشير إلى بقايا الكنائس الثلاث التي تجاور المغطس. "هنا عُمّد المسيح"، قال من غير أن يضيف كلمة "افتراضياً". لا يجرؤ المعلّم على الاشارة إلى براءة قدميه من الغبار الذي جلّلهما. فوجئتُ أن هناك مياهاً في نهر الأردن. ذريعة للتعميد، تلك الساقية التي تتلوى. لم تكن المياه تثرثر يوماً ما. ذلك النهر كان دائماً يجري صامتاً. الفكرة تسبق. فكرته سبقته، بل لحقت به أيضا. ما من نهر في الحقيقة. خيط من المياه يفصل بين عالمين هلعين. قُدِّر لذلك الخيط أن يكون موقعاً لكلمة السلام، وهي كلمته، ليظل في ما بعد موضعاً للنزاع الأبدي. "الأرض كلها هناك مزروعة بالألغام"، قال الدليل باستسلام، وهو يشير الى الجهة الأخرى من النهر. خُيِّل إليَّ أني أرى مزارع الزيتون قريبة من اليد، وسال طعم الزيت على لساني. على الجانب الآخر، كان هناك مبنى أبيض. مبنى يكشف عن سذاجة سياحية، هي في الوقت نفسه تعبير عن روح مقامرة. لم يُثر ذلك المنظر اهتمام أحد. لم يكن في إمكان العيون أن تفارق ضفة النهر الضيق. الجمال الحيي، يقابله القبح الفج. كل الحكاية هنا وليست هناك ولا في أي مكان آخر. حكايتنا أم حكايته أم الحكايتان معا وقد تناغمتا؟ بيت لحم، حيث وُلد الطفل الذي أصابنا بعدوى المحبة، ليست بعيدة من هنا، لكنها صارت بعيدة عن السماء. قاومتُ الدمع. فكرته تخونني حين تسعى إلى أن تتسلى بشقائي. سيقال إن أحدا منا قد رأى المخلّص وهو ينازع. سيقال بل شُبِّه لهم. سيقال إني أكتب من أجل أن لا أخطئ طريقي إليه. تلك الدرب الغامضة التي صرت أتعثر بما تركته الأشباح عليها من لقى، لا تُرى بالعين المباشرة. الكنوز هائمة مثل أصحابها. يقبّل الهولندي صديقته وهما يقفان عند السياج الخشبي. ظهرُه إلى النهر، فيما وجهها غارق في وجهه. لقطة لا تُنسى من أجل المخلّص. خلاصة يأسنا واضطرابنا. النظرة الأخيرة التي يلقيها الطفل الهاذي بكلمات قيلت من أجله.
2
كان طقساً حزيناً. لا أجراس. الكنيسة الوحيدة في المكان الملغّز بُنيت منذ سنوات قليلة. كانت نوعاً من الزينة الدينية. يتلفت الزوار بحثاً عن أثر للمخلّص، ولو سعفة، ولو كسرة خبز، ولو يد ممدودة بكأس خمر. فيما الملائكة تضحك. ألا تباً للتأريخ ومخلوقاته التي تهوى الذهاب إلى صنميتها. من الحكمة أن ينسى المرء التاريخ ويصبر على الحكايات. هل كان يوحنا في حاجة الى التعميد ليبلغ اسطورته؟ يكفيه أنه بشارة زكريا. كنا نحتفي به وندور بين حارات بغداد القديمة حاملين الشموع وأغصان الآس، يرتفع بنا النشيد عن الأرض بلازمته المتوترة: "يا زكريا". نعرفه باعتباره يحيى. الحزن في تلك اللحظة كان الأشد شفافية مما هو عليه في باقي أنحاء الأرض. ألأن الشر قريب؟ أفكر في أن الاستيلاء على ذلك الطفل الالهي في قبضة ماء، هو نوع من الحيلة. حيلة تهدف إلى التخلص من تبعات الواقعة التاريخية. طفلٌ هو الكلمة، وكلمةٌ هي الخلاص، فيما النهايات التي كان عليها أن تتكرر كلما وصلنا إلى مفترق طرق، تدفع بنا إلى النسيان وتقول ما تريد. خُيِّل إليَّ أني أرى الحواريين وقد التفّوا حول المائدة التي هبطت من السماء لتشفّ عن معجزة. أحاول أن أقلل من التوقعات فلا أمنّي النفس بلقاء أحدهم. كانوا شباباً متمردين، ظنوا أن الدرب لن تذهب بهم بعيدا عن الخط الذي يصل السماء بالأرض. لا أعثر على زرقة المياه في ذلك المجرى الضيق. ربما كانت الاسواق التي شهدت هذيانات الأنبياء المشّائين قريبة من هذه الدرب. "أين الينابيع"، سألتُ، فالتفت إليَّ الدليل بعينين حائرتين: ربما في الجهة الأخرى. أيّ جهة تلك التي لا تُسمّى. مرّت أمم وجيوش وقبائل، ومرّ رعاة وبشر فرادى ضائعون، هائمون، وفلاسفة من غير كتب، وجميلات عبقت الفيافي بتلفّت شهواتهن، ورهبان غادروا خلسةً أديرتهم في أثر نداء مبهم. تلك البلاد يمكنها أن تكون موجودة، لكن في كل لحظة خطف، وهي اللحظة التي تكون فيها النبوة ممكنة. تسبق خطواتي ظلي إليها. مسحوراً بإيقاع خطوات نبيّ هارب بإبنتيه، إلا أمرأته كانت من الغابرين، كنت أنبش بقدمي كل سنتيمتر من الدرب، لربما أعثر على كسرة من مرآة، كانت امرأة لوط ترى فيها ضحكتها المضادة للتاريخ. استخرجت سدوم وعمورة من خزانة الابدية وتخيّلت يحيى وهو يرشّ الماء المكتظ بعطر يديه من اجل أن يمحو آثار الأقدام التي ذهبت إلى فنائها معتزةً بالإثم. بين الشجيرات كنت أرهف السمع. شيء ما لم تبلعه الأرض بعد. شيء يبصرني من عتمته فيما الشمس تعميني. شيء يشبه ما أنا فيه من شعور بالندم. "لقد تأخرتُ"، قلت لنفسي وأنا افكر في القيامة. عاشت البشرية قيامات عديدة ولم تتعلم شيئا. اليوم الأخير هل هو اليوم الآخر؟ لقد حلّت الساعة بأقوام كثيرة عمرت هذا المكان بأخيلتها المفاجئة والمتفجرة فسقاً ونقاء، صدقاً ورياء، محبةً وكراهية. أقوام تركت كل شيء وراءها لتتفرغ لمواجهة يومها العظيم، الذي لا يوم من بعده، وقد يكون نهارها الأبدي قد حلّ من غير أن تدري. من المؤكد أن المسيح قد وجد خلاصه في بشرية يفتديها، غير أن يوحنا الذي لخّصته لحظة التعميد هو انسان سُدّت أمامه الطرق. فعله القيامي جعله أقرب إلى معنى التأريخ منه إلى عبث العيش المباشر. بعد فعلته، صار ماضياً. بلاغة لغته لا تورّث. قال الجملة التي لن تكون أخرى. في كل اللغات ظل يوحنا الذي نسمّيه يحيى، مقيما في جملته المقتضبة. هو الحي الميت الذي تُعدي قيامته كل من يقف على نهر الاردن. كان في إمكاني أن أكونه في الوقت الذي لن يجرؤ أحد على التفكير في أن يكون مسيحاً.

3
أقرأ على لافتة في الطريق، "جسر وادي العسل"، وابتسم مندحراً. كل شيء هنا ينتحل صورته الخيالية. قرأت نصيحة سياحية تقول: "يفضَّل أن تسبح على الظهر في البحر الميت". يمكنك في حالة من هذا النوع أن ترى الفضاء من فوقك. لست سوى كائن أنجبه هذا البحر في لحظة خواء. ولأني لم أكن سائحا، فقد قررت أن أرى البحر كله، لذلك ذهبت الى الجبل. من فوق لا يرى المرء البحر وحده، بل كل المدن التي تحاذيه في تلك البلاد. حينها، وبسبب الجمال، يكون المرء فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين. في الأزمنة التي كان فيها البشر يمشون على الماء، لم تكن الكراهية في الحجم الذي هي عليه اليوم. يكفيك أن تغمض عينيك لينشقّ البحر أو يحملك الرخّ، فتجد نفسك في نهار مختلف. صرت كلما قال أحدهم "زيت زيتون"، أفكر في رام الله، لا لشيء إلا لأن التارا من ذلك الزيت تسللت إلى جسدي خلال رحلتي هذه. من "حمامات معين" تمتزج الضفتان. الصخرة التي أقف عندها تشعرني بالحنين إلى نصفها الناقص. لقد انشقّ الجبل فولدت البحيرة التي تقع في سرّة الأرض المنخفضة. وعي ايروتيكي يمزج نظرتي إلى البحر بأسئلة عن المصير الإنساني. القيامة التي هي في حقيقتها قيامات منفصلة، تواجهني مرةً أخرى. "هل خُلقتُ من أجل هذه اللحظة الأخيرة؟"، قلت لنفسي وأنا أفكر في الموت السعيد الذي انتهى إليه الأنبياء، وجلّهم من الهاربين. سيكون علينا أن نستدعي فكرة الجمال المتشنج، وهي فكرة يصنعها توتر لا إرادي ينبعث من مخيّلة مطلقة، هي مزيج من الإله ومعبوداته. لقد جلستُ على تلك الصخور نهاراً بأكمله، ليلاً بأكمله، من غير أن أشعر بالحاجة إلى العودة "إلى أين؟". ما من مكان آخر. مؤمنا أن الأبدية تبدأ من هنا، جلستُ في انتظار قيامة ما. ربما كنت أنتظر ان تحلّق بي الصخرة لتلتحق بنصفها الناقص. ربما شعرتُ أن الجبل الذي انشقّ عن بحيرة، يشعر مثلي بالندم فيعود إلى سيرته الأولى. زرقته لا تشي بموته، ذلك البحر، غير أن تلك الزرقة لا تخفي آثار أقدام الماشين عليه. حملتهم المياه وكانوا خفيفين بأفكارهم التي كانت تتماهى مع الهواء. مملكته في مكان آخر. عينا الشاب المتمرد خارقتان. إنهما تريان المعبد وما خلفه. لا بأس بالعذاب وقد صار نزوعاً جماليا. جاء ليكمل الناموس، غير أنه مشى على الشوك بقدمين حافيتين. من أعلى الجبل رأيتُ جمالا يستحق أن يموت المرء من أجله. كانت الأرض فكرة ولم تكن واقعاً. ولم يكن الموت يومها عقاباً. مشى الشاب المتمرد إلى سعادته، مثلما صرت أتخيّل نفسي .


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni