... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  منتخبات

   
الليالي السومرية للطفية الدليمي : تفكيك الحضور النسوي في ملحمة جلجامش

عواد علي

تاريخ النشر       11/02/2010 06:00 AM


مسرحية "الليالي السومرية" واحدة من ثلاث مسرحيات (الأخريان هما: "قمر أور"، و"شبح جلجامش") استلهمتها لطفية الدليمي من الموروث الأسطوري السومري والبابلي، تصدر قريباً عن "دار فضاءات للنشر" في عمّان.
يعود شغف الكاتبة بهذا التراث إلى ثلاثة عقود خلت، في سياق اهتمامها العميق بحضارات العراق القديمة. ولا تزال قصتها "هو الذي أتى..." المنشورة ضمن مجموعتها القصصية "عالم النساء الوحيدات" (1986) واحدةً من أفضل القصص، في تاريخ القصة العراقية، التي وظفت ذلك التراث في بنية سردية حديثة، كما يُعدّ كتابها "المرأة المبدعة في حضارات العراق القديمة" قراءةً ثقافيةً فريدةً كشفت عن منجز حضاري للمرأة في بلاد الرافدين لا مثيل له في كل حضارات العالم القديمة.                                     
تتابع الكاتبة في هذا النص، الحضور النمطي والمحدد للشخصيات النسوية في "ملحمة جلجامش"، فتعمل على ابتداع شخصيات ثانوية لتثري الصراع التراجيدي، مع مفهوم البطولة الذي تقدّمه الملحمة بمساره الكلاسيكي، فيكون الجميع أبطالاً، في هذا المعنى أو ذاك، بحسب تأثيرهم في تنامي الصراع الأساسي بين الإنسان والموت، وبين الفرد والسلطة، وبين مفهوم القوة الجسدية ومواجهتها للعقل منتج المعرفة.
ثمة شخصيتان أساسيتان تحركان الصراع في النص: جلجامش بطغيانه ودمويته، وأنكيدو الكائن البري، الذي تخلقه الإلهة أورور لمواجهة جلجامش، وثنيه عن فظاعاته التي يقترفها ضد شعب أوروك، لإيجاد قدر من التوازن في النظام المديني السومري بين الطبيعة البكر المنفلتة، وبيروقراطية الحكم المديني، أي بين مبدأي الطبيعة والثقافة من جانب، والأنوثة والذكورة، والموت والحياة، واجتراح مفهومات مغايرة لهاجس الخلود الذي سكن جلجامش بعد موت الصديق، ومجابهة الموت بوصفه حقيقةً يوميةً لا منجى منها.
تركز لطفية الدليمي في هذه المسرحية على موضوعتي الاستبداد، والشراكة بين الرجال والنساء في صيرورة العالم القديم؛ فجلجامش الباهر المتجبر يتخذ دور الطبيعة البيولوجية المتفوقة بنسبه الملكي ونصفه الإلهي، ويمثّل أنكيدو رجل البراري، شبيه الوحش، دور الطبيعة البدائية المنفلتة التي لم تُدجَّن أو تُروَّض. يبذل الكهنة والحاكم الجهود لترويضه وجلبه إلى المدينة من طريق الحب والتقنية، تقنية صناعة الخبز والخمر ونسج الثياب، وهو الذي يشارك الضواري عشبها وفرائسها. تغيّر مصيرَه شمخت، الغانية التي أُرسلت لترويض الوحش، فتغويه لممارسة الحب معها، وتقدم اليه الخبز والشراب، وتضع عليه رداءً منسوجاً، هو جزء من ثوبها، ليتحول إنساناً يسهل قياده، ثم تصطحبه إلى المدينة ليصارع جلجامش، كما في نص الملحمة الأصلية.
يقوم التناقض والصراع هنا بين نمطين للحياة، نمط الرعي وجمع القوت، ونمط الزراعة والتمدن والخدع التي تتحكم بسياسة المدن. ويستخدم المهيمنون على السلطة الجنس والخدع الأخرى لترويض القوى المضادة لهم.
في الملحمة الأصلية شخصيتان نسويتان تحركان الأحداث وتؤثران فيها: شخصية الغانية شمخت، وشخصية سيدوري الساقية في حانة الآلهة، وكلا الشخصيتين تمثل الموقف الأبيقوري من اللذة، وتبشر بالمتع، مع إغفال دور المعرفة. فهما لا وظيفة لهما غير المتع وإشباع الرغبات. لكن لطفية الدليمي تتوصل إلى أن ثمة إغفالاً كبيراً لأدوار النساء الأخريات في حياة جلجامش، وفي سياقات العيش في حاضرة عظيمة كمدينة أوروك، التي تمتلئ معابدها بالناسخات والشاعرات والعرّافات، حيث كانت مهنة النسخ والكتابة مهنة خاصة بالنساء. ولذا تعمد في "الليالي السومرية" إلى تفكيك الحضور النسوي، فمن غير المنطقي أن يتحدد هذا الحضور بنمط الغانية، وصاحبة الحان فقط في ذلك المجتمع المديني، منتج المعرفة والنصوص الباهرة، المجتمع الذي اخترع الكتابة والعجلة، وبنى أولى المدن، وأقام المعابد، وأنشأ "الايدوبا" (المدارس بشكلها الذي نعرفه اليوم)، فأوجدت شخصية نيسابا سيدة المعرفة، وشخصية المرأة العرّافة، التي تظهر كصوت خفي لامرأة رائية تُنذر، وتوجه الأحداث، وشخصية أورورا الخالقة، التي تتبادل أدوارها مع عشتار وشمخت الغانية أداة الملك لترويض الضد؛ كلهن كن يحركن المصائر ويدفعن بمغامرة البحث عن لغز الموت والخلود إلى أقصاها لتصل إلى نقطة التفجر النهائية. بمعنى أن المؤلفة قدّمت رؤيةً مغايرة لوضع المرأة المنمّط في الملحمة، فالشخصيات ليست ناجزة ولا نهائية، لتلعب النساء أدواراً تقوم على الصراع في ما بينهن من خلال تقاطع أدوارهن وتباينها، وتأثير مواقفهن في صيرورة جلجامش، وتحولاته المتتالية عبر التجارب والغوايات التي تعرّض لها معهن، حتى ينتهي به الأمر إلى التراجع عن فكرة الرحلة المزمعة إلى مياه بحر الموت للحصول على  نبتة الخلود، والعودة إلى أوروك، صحبة امرأة، ليعيد النظر في موقفه من الموت والحب والحياة، ويعمّر أوروك ومعابدها كي تحقق له شهوة الخلود كاسمٍ تاريخي بديل من الخلود الجسدي الذي تراجع عنه.
وخلال الرحلة المحبطة يتناول نص لطفية الدليمي مفهوم الزمن لدى العراقيين الأوائل عبر شجرة الخالوب، التي رافقت جلجامش منذ ولادته. فمن خشبها صُنع مهدُه، وألعابُ صباه، وسريرُ متعته، وكرسيُّ عرشه، وما تبقّى منها ينتظر لصناعة نعشه. شجرةُ الخالوب هي الزمان الذي يتبدل معه الاستخدام المكاني الخاص بصيرورة بشرية، إذ كان مفهوم الزمان ومفهوم المكان متداخلين في الفكر العراقي القديم، فيوصف الماضي بأنه الزمان الذي يقع أمام عيني المرء، أما المستقبل فهو الزمان الذي يقع وراء ظهر المرء لمجهوليته، والمهد واللعبة والسرير والعرش والنعش أمكنة تختزل المسافة بين الحياة والموت الذي لا مفر منه، وكانت العرافة تردد على مسمع جلجامش بصوت الشجرة هذه الحقيقة في مراحل رحلته الغامضة إلى مياه بحر الموت.
يُذكَر أن لطفية الدليمي روائية وقاصة وكاتبة مسرحية وباحثة ومترجمة عراقية. تُرجمت قصصها إلى الإنكليزية والبولونية والرومانية والإسبانية والصينية، وقُدّمت رسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه عن قصصها ورواياتها في عدد من الجامعات العراقية. أصدرت أول مجموعة قصصية بعنوان "ممر إلى أحزان الرجال" في بغداد عام 1970، تلتها سبع مجموعات منها: "البشارة"، 1975، "التمثال"، 1977، "إذا كنت تحب" 1980، "عالم النساء الوحيدات"، 1986، و"برتقال سمية"، 2002. في مجال الرواية صدر لها: "بذور النار"، بغداد 1988، "من يرث الفردوس"، القاهرة 1989، "خسوف برهان الكتبي" (ط1 اسبانيا 2000، ط2 رام الله 2001)، "ضحكة اليورانيوم"، بغداد 2001، و"حديقة حياة" (ط1 بغداد 2004، ط2 دمشق 2005). في الدراسات صدر لها: "العودة إلى الطبيعة: دراسة في نمط العيش على وفق الفلسفات الشرقية الآسيوية"، "المرأة المبدعة في حضارات العراق القديمة"، "جدل الأنوثة في الأسطورة: نفي الأنثى من الذاكرة"، "كتابة المرأة والحرية"، "اللغة متن السجال العنيف بين النساء والرجال"، "لغة النساء في سومر القديمة"، و"صورة المرأة العربية في الإعلام المعاصر". وفي الترجمة صدر لها: "بلاد الثلوج"، رواية لياسونارى كواباتا، 1985، "ضوء نهار مشرق"، رواية لأنيتا ديساي، 1989، "من يوميات أناييس نن"، 1999، و"شجرة الكاميليا: قصص عالمية، 2002". كتبت خمسة نصوص مسرحية هي: "الليالي السومرية"، "الشبيه الأخير"، "الكرة الحمراء"، "قمر أور"، و"شبح جلجامش". وصدر لها في أدب الرحلات كتاب "يوميات المدن" عن "دار فضاءات .


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عواد علي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni