... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
البحث الخادع عن السعادة في الأدب الغريب وثقافة الآخر

سلام عبود

تاريخ النشر       20/02/2010 06:00 AM


وقع بعض دارسي الاستشراق في إشكالين بحثيين، هما: حصر ظاهرة الاستشراق في الاستشراق نفسه، بتجريدها مما يصاحبها من مؤثرات ثقافية تسبقها أو تتزامن معها؛ أو بالعكس، تعميم الظاهرة وجعل الاستشراق وعاء شاملا يبتلع الظواهر الثقافية المصاحبة لها. النظرتان تلحقان أذى بسبل رصد حدود الظواهر وتطورها. ولكن، عند كسر القوقعة الاستشراقية الصلدة، تسيل محتوياتها الى غير اتجاه، وتبرز أمامنا ظواهر ثقافية أعمّ وأشمل، منها "ثقافة الآخر" و"الأدب الغريب"، وما يمكن أن نسميه بـ"الاستكشافات الفكرية"، كعملية عقلية موازية ومتمّمة للاستكشاف الجغرافية.
 ترتبط  ظاهرة البحث عن المشهد الغريب بأدب الرحلات. الميل الى الرحلة في الثقافة الأوروبية، ولا سيما الإنكليزية، نزوع معروف. فالسفر "يحقق المتعة والتجديد"، كما يقول فولتير في "كانديد".

استكشافات جغرافية وأخرى ثقافية
كانت الرحلة الى جنوب أوروبا تجديدا اجتماعيا ونفسيا وروحيا للكثيرين، عدا ما تحمله من مضامين ثقافية وعقلية. لكن البحث عن الغريب تجاوز حدود التنقل بين أجزاء أوروبا الشمالية والجنوبية. وتجاوز في أهدافه التغيير البيئي والنفسي، الى الغايات العلمية والثقافية، ومن دون شك، الى الأغراض التي اقتضتها سعة المصالح الدولية وتضاربها وتنوعها أيضا. عدّ النقاد مشاهد بروسبير ميريميه (1870-1803)
المتوسطية (اسبانيا، كورسيكا) أدبا غريبا ودخيلا، واعتبرت مشاهد فيكتور هوغو الاسكندينافية، في أولى رواياته والأسوأ بينها، "هو من إيسلندا" (1823)، ضربا من الأدب الغريب أيضا. فالغريب قد يعني عبور الحاجز المحلي، أو القومي، أو  حتى العرقي، كما هي الحال في "الأدب الغريب" الأميركي المبكر. وقد يمتد الشرق و"الأدب الغريب" الى ما وراء البحار. أمّا حدود الشرق فلم تسلم من تغيير مواقعها الثابتة. فتارة تمتد حتّى جنوب أوروبا ومنطقة البحر المتوسط: تركيا والبلقان؛ وقد تعني الدولة العثمانية وما جاورها. في "كانديد" التي تعجّ بالمحمولات التاريخية: بابل، اليهود، الأندلس، كان الضغط قادما من "العرب والبلغار"، ولم نر عربا في الرواية، لكننا أحسسنا بثقل الأتراك. وقد يعني الشرق الهند وشرق آسيا، وقد يضيق فينحصر في جنوب البحر المتوسط وشرقه والعراق وفارس.
عند البحث عن جذور "الأدب الغريب" أو ثقافة "الآخر" يستطيع الباحث الذهاب الى ما هو أبعد من راسين (1639- 1699)، كنقطة بداية تقليدية، فنجده لدى أشهر كتاب المسرح وليم شكسبير (1564-1616)، ومسرحية "عطيل" (1603-1604) خير مثال على ذلك.
ربما لم تكن محض مصادفة أن يظهر أدب شكسبير في الفترة التي ظهر فيها أول مستشرق أوروبي، القس الانكليزي وليم بدول (1632-1561)، وهي فترة ظهور منافس بدول في الأسبقية الاستشراقية الهولندي توماس إربنيوس (1624-1584)،
الذي تلقّى بعض دروس العربية في باريس، على يد موفد رسمي مغربي من أصل أندلسي.
يرى انتوني هولدن، كاتب سيرة شكسبير، أن هذا الأخير استلهم شخصية عطيل من سفير مورسكي، أمّ بلاط الملكة اليزابيث (1600- 1601). وتمّ تعزيز فكرة هولدن بصورة لعربيّ بعمامة وسيف طويل، وصف بأنه "غريب وبربريّ" ونعتت المسرحية بـ"السوداء"!  وعلى الرغم من غرابة هذه المصادفة إلا أنّها تؤكد فكرة "ثقافة الآخر"، التي نستطيع العثور عليها في نص أقدم  هو "تاجر البندقية" (1596)، الذي لا تخرج فكرته الجوهرية عن مرامي الشخصية الأدبية الغريبة والمختلفة. وإذا كان يهودي شكسبير من البندقية فإن يهودي معاصره كريستوفر مارلو (1593-1564) كان من مالطا (1633)؛ وفي المسرحيات السالفة نعثر على تمايز إجتماعي ثقافي، يصاحبه منظور أخلاقي وعاطفي وعرقي وديني تمّ رسمه من خلال الآخر، المغاير: الأفريقي (المغربي) واليهودي. في تلك المسرحيات كان "المشهد الغريب" هو الوسيلة الفنية، وهو الوعاء الحكائي لرصد تناقضات الشخصية وتقلباتها الروحية والعاطفية. ولم يكن العنصر الغريب طارئا في أعمال شكسبير، فـ "هاملت" جرت في بيئة دانماركية، و"العاصفة" تصوير للصراع بين ملوك وأمراء متنافسين على الحكم ينتمون الى جنوب القارة الأوروبية (نابولي وميلانو). أما موقف راسين فكان ردا مزدوجا، دينيا وسياسيا، على مشاريع الدولة العثمانية، التي أخذت جرعة قوية على يد السلطان العثماني "الصاعقة". ويُعتقد أن لنشأة راسين الدينية بعض الأثر في اختيار مشهد من عهد السلطان بايزيد الأوّل (1403-1347)، الذي وقع بين قوتين حربيتين معاديتين سياسيا ودينيا وعسكريا، التتر وأوروبا، يلخّص في شخصه تلخيصا نموذجيا لحظة ولادة الدولة العثمانية، كفكرة سياسية عقائدية. لذلك لم تكن عودة راسين اليه محض مصادفة، بل كانت اختيارا يحمل قدرا كبيرا من الدلالات التاريخية المحفورة في الوجدان الشعبي الأوروبي.        
فليس سحر الشرق وحده، هو الذي جذب الرومنطيقيين الى بلاد الأساطير، وليس الميل الدعائي الاستعماري وحده، أو البعد الإنساني الذي مثّله عدد غير قليل من دعاة الإصلاح الاجتماعي والفنيّ، ممن لم يرتبطوا إيديولوجيا بالظاهرة الاستعمارية ارتباطا مباشرا،  ولا البعد التاريخي الديني وحده، المرتبط بمشاعر نشأت إبان الحروب الصليبية (ارتبطت بها بدايات الاستشراق، لكن بعض آثارها كان ايجابيا، مثل رواية "الطلسم" لوالتر سكوت)، أو ارتبطت بتقاليد مقاومة الوجود الإسلامي في الأندلس. كان للفضول الإنساني أيضا، ولأزمة الذات، وتناقضات عملية التطور الاجتماعي الأوروبية الداخلية، وللمهارات البشرية في إمرار القضايا الاجتماعية والعاطفية الإشكاليّة، وكذلك لمقتضيات الترفيه أو الإمتاع الخالص والشوق المعرفي والرغبة في الاكتشاف، أثر في تقوية الميل الى المشهد الغريب والبحث عن المنابع الصافية. ويضيف فرويد الى ذلك كلّه سببا آخر، نفسيا، هو الإحساس البشري التاريخي الخادع، القاضي بالبحث عن السعادة: "ننزع على الدوام الى أن ننتقل بالفكر، مع حفاظنا على مطالبنا وسياستنا الخاصة، الى شروط الثقافات القديمة لنتساءل عندئذ عن فرص السعادة أو التعاسة التي كانت تتاح لنا في ظلها" (قلق في الحضارة، ص 40). كان الاستكشاف الثقافي جزءا من هذا السعي، وملمحا من ملامح البحث عن الآخر، المغاير، الغريب والمثير.
بيد أن هذا الفضول لم يكن رغبة فردية، ولم يكن نزوة ذاتية. كان نزوعا تاريخيا أملته عوامل مختلفة، دفعت المعارف كلّها، من دون استثناء، الى البحث عن جذور أولى للمقارنة. ولم يكن الأدب سوى حلقة من حلقات البحث عن تلك الجذور، وإن يكن أوسعها مدى وأوضحها قصدا وأكثرها إثارة. فرحيل تشارلز داروين بحثا عن أصل الأنواع كان حلقة أساسية من حلقات البحث العلمي الطبيعي عن المنابع. ولم يتوقف الأمر على علم الطبيعة والآثار واللغات، فحتى العلوم الحديثة المعقدة، خضعت الى حلقات من البحث عن المنابع. فأحد أعمدة علم النفس، كارل غوستاف يونغ (1961-1875)، ارتحل الى الهند وشمال إفريقيا والى قبائل الهنود الحمر بغية الاقتراب من المصادر النقية للنفس البشرية؛ أمّا فرويد، الذي لم يرتحل مكانيا، فقد ارتحل زمانيا الى سوفوكليس ليستلف منه عقدة أوديب، التي بنى عليها أسس نظرية التحليل النفسي، واستكمل أفكاره عن المحرّم والطوطم والدين من طريق الاستناد الى رحلات داروين واتخاذ  ج. غ. فريزر و"كنز وقائعه وآرائه النفيسة" مصدرا أساسيا في اكتشافاته المتعلقة بالبحث عن منابع العمليات النفسية ومنابع تكوين الشخصية البشرية. ورحل مؤسس علم الإناسة كلود ليفي شتراوس الى أميركا الجنوبية بحثا عن التكوينات الإجتماعية الأولى.
التشكيليون مرّوا بالطرق ذاتها. فقد ترك لنا دو لاكروا أطيافا فطرية من نساء الجزائر وسحر المغرب.
حتى اللغة أنجبت مخلوقاتها الفطرية الاستشراقية. ففي الهند المستعمرة اكتشف القاضي البريطاني وليم جونز (1786) ما يُعرَف باللغات الهندو أوروبية، طفل الأدغال اللغويّ، كثمرة من ثمار التلاقح بين العلم واللغة والمنابع الثقافية المحروسة بالجيوش الغازية. ومسحت الحملة الفرنسية على مصر من على وجه اللغة الهيروغليفية رمالَ النسيان.
أمّا الرحلات النقلية، التي قادت الى ترجمة أشهر قصص الشرق، "ألف ليلة وليلة"، على يد أقدم مترجميها وأشهرهم، الفرنسي انطوان غالان، فلم تخف رغبتها في ترجمة القصص كخامات ثقافية مبكرة، بل تعدّت ذلك الى "تحسينها" بالإضافة والتعديل، ومساعدتها فنيّا "كمن يعلّم طفلا على المشي"، لكي تكون قريبة من الذوق الأوروبي، "الأكثر نضجا!"، والأكثر بعدا عن المنابع الثقافية الفطرية الصافية.
كانت الرحلة شاملة الى العالم القديم، والى الجذور البشرية الأولى، والى أصل الأنواع الثقافية والاجتماعية والعلمية، بالضبط كما كانت عقدة أوديب ذات طبيعة تعميمية، شاملة. كانت الاكتشافات الفردية تساند بعضها بعضا، وكان الفردي منها يعزز شمولية الظاهرة، وما هو شامل منها يمنح الفردي ألوانه المميزة، المغايرة. كانت جميعها تهدف الى تحقيق أمر واحد: الاستيلاء على ما تبقّى من بقاع مجهولة وضم ملكيتها الى الأنا المكتشِفة، سواء في صورة مستعمرات، أو في صورة اكتشافات علمية وأخيلة أدبية وفنية.
ربما لا يُخفى على أحد أن صلة البحث الاستشراقي الغربي الأكاديمي بالثقافة العربية، انحصرت، في الأعمّ، في الجذور: الساميات، الأدب الجاهلي، الأساطير والعبادات، القرآن والحديث والفرق الاسلامية (غولد تسيهر، نولكه، مارغيليوث، لوبون). أما الواقع المعاصر فقد تُركت مهمة رصده الى السياسيين والصحافيين ومبادرات الأدباء الفردية. وليس مجهولا أيضا اختلاط الاستشراق بأعمال المخابرات والتجسس. في شخصية الفرنسي لويس ماسينيون تلتقي خيوط تلك الوحدة الغريبة: العمل في شؤون المستعمرات والدعوة الى التصوف واللاعنف. أما هاملتون جيب فربط الموضوع الاستشراقي التراثي بالحاضر، وخطا به تلميذه برنارد لويس خطوة أبعد، حين ربطه ربطا مباشرا بالسياسة الإجرائية والايديولوجيا الرسمية.

تحوّلات في مجرى العقل
حين ننظر الى لوحة التبادل الثقافي من منظور شامل، هو منظور النظر الى الآخر، نعثر على تمايزات لونية عديدة تصبغ ظاهرة الاستكشافات الثقافية وتربط بعضها ببعض بروابط خفية أو علنية، لكنها في النهاية تشكل الهوية العامة للظاهرة، باعتبارها شكلا من أشكال الاستحواذ الثقافي، ووسيلة من وسائل الهيمنة العقلية على الواقع، بصرف النظر عن غاياتها المباشرة أو غير المباشرة، وبصرف النظر عن أهداف المنتفعين بها.
ففي حقب عديدة من التاريخ الأوروبي الحديث ظهر أدب اتخذ الآخر، المغاير، سواء أكان مجتمعا أم فكرا أم بيئة جغرافية، وسيلة فنية مجردة ظاهريا من الإيديولوجيا والبعد السياسي المباشر. نستطيع أن نعثر على هذا الضرب في رحلات الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون وقصصه
(1894-1850)، ومنها قصة المغامرات الشهيرة، "جزيرة الكنز"، التي تقوم على عناصر التشويق والإثارة، ونعثر عليها في "موبي ديك". وقد يجدها المرء في أمثلة أقلّ براءة ايديولوجياً، كما في بعض أعمال دانيال ديفو (1739-1660). فقصة "روبنسون كروزو" تقوم على فكرة مقاومة الحياة البدائية والانتصار عليها، وأساسها فكرة البطل الفرد قاهر التحديات الخارجية؛ ولم تكن رواية جان جاك روسو التربوية "إميل" (1762) سوى إعادة معمّقة لـ"روبنسون كروزو". وقد استخدم فولتير (1778-1694) الرحلة في قصة "كانديد" (1759) كوسيلة للتجوال في بقاع متناقضة، أهمها الوصول الى البقعة الخيالية "الدورادو"، التي تختفي من أعين "الغزاة الطامعين الأوروبيين... الذين لا يتوانون عن إبادة السكان إذا دعت الحاجة" (كانديد ، ص 65)، هناك عاش الناس سعداء من دون كنائس وقسس أو محاكم وجيوش، وعبدوا إلها واحدا لا يفرض عليهم صلاة أو طقوسا سوى أناشيد الشكر الطوعية، أما الذهب فهو مادة تساوي الحصى في القيمة. وإذا كان "إميل" روسو يذهب بصحبة معلمه، الذي هو روسو نفسه، في نزهات تربوية للبحث عن معنى الفعل الإنساني منذ الولادة حتى سن الزواج، فإن "كانديد" يرتحل بعيدا برفقة معلّمه أيضا، للبحث عن مصادر للاستكشاف الثقافي. لقد ارتبطت الرحلة، أسطوريا وواقعيا، بالبحث عن النقاء المعرفي ولحظة الصدق الخالصة، واستُخدمت معيارا تقويميا للمقايسة والمحاججة والاستنتاج. ربما يكون فولتير أوضح من أراد إفهامنا هذا الأمر حين سمّى بطله "كانديد"، أي النظيف أو النقيّ.
حين يستبعد المرء الغلاف الأوروبي لقصة "كانديد"، يجد أن مشكلة البحث عن عالم أفضل، واصطدامها ببشاعة الواقع، هي جوهر رحلة سيدا هارتا الهندية أيضا. فكلاهما خرج من وهم القصور الى بشاعة الواقع وتناقضه، وكلاهما قرّر أن يذهب الى حديقة العالم الواسعة بحثا عن حديقته الخاصة، الصغيرة.
من المفيد هنا أن نشير الى أن "الاستشراق" الأميركي الأوّل توجه نحو الداخل المحلي، الغريب: الهنود الحمر. فذلك الجيل من الأميركان كان يبحث عن اللحظة الفطرية المثيرة في أرض يحيط بها الغموض التاريخي، ولم تُكشف أسرارها كافة. وقد شق الأميركي جيمس فنيمور كوبر (1851-1789) طريقا واسعة لرصد تاريخيّ يصوّر الزحف الأبيض للاستيلاء على القارة "العذراء"! نجد مثل هذا الميل، ولكن مفرّغاً من محتواه العرقي، ممزوجا بالموقف الإجتماعي والعلمي، لدى آخرين مثل جاك لندن، الذي جذبته البراري وانقلاب الحياة الفطرية في القارة الجديدة.
إن نظرة فاحصة الى المناخ العقلي الذي خرجت منه تلك الرحلات، تقودنا الى معرفة الأسباب الجوهرية التي أنتجتها ورسمت طبيعتها الغائيّة وسبل تنوعها، وارتباط هذه الظاهرة بموضوع التحوّلات الفلسفية الكبرى في التاريخ.
كان القرن السابع عشر بداية الانقلاب السياسي والفلسفي والعلمي الكبير في تاريخ البشرية. ويمكننا أن نعتبره مفتاح التعديل الأشمل والأكبر في مجرى التاريخ البشري التالي لمرحلة العصور الوسطى.
أولى بوادر التغيير الفكري كانت تعديل القاعدة العقلية للنظر الى القضايا الفلسفية الكبرى. فعلى انقاض الثنوية القديمة: ماديّة- مثاليّة (أرسطو وإفلاطون)، ولدت ثنوية فلسفية جديدة، وإن لم تفلح في إلغاء الثنوية الأولى. كان القرن السابع عشر هو قرن ولادة المنظورين الفلسفيين الجديدين، العقلانية والتجريبية، اللذين أحدثا انعطافة جديدة في سبل النظر الى الطبيعة والفكر والمجتمع.
كانت البيئة السياسية والاجتماعية الانكليزية مؤهلة تأهيلا تاما لإنتاج أفكار التيّار التجريبي وحملها، الذي شرع فيه كثيرون، منهم جون لوك (1704-1632)،
صاحب الفضل الرئيسي في إنضاج حزمة مترابطة من التجديدات العقلية والسياسية والاجتماعية، ووضعها موضع التطبيق العملي. كانت فكرة الدولة، ككيان أعلى يتولى مهمة حماية الثروة (الملكية) والحرية (الفردية والعامة)، التي تنتهي حالما تبدأ حرية الآخر، وارتباطها بالمسؤولية الاجتماعية، أحد أعمدة فكر لوك، التي أسست لظهور الليبيرالية الغربية. في الجانب الفلسفي قاد لوك التيار الرامي الى إعادة النظر في الأولويات الفلسفية. فإذا كانت الفلسفات السابقة تضع مبحث الوجود في المرتبة الأولى، فإن لوك دعا الى أن تحتل نظرية المعرفة المقام الأوّل؛ فمن العبث الوصول الى حلول مقبولة تتعلق بقضايا الوجود والأخلاق من دون حل مشكلة الوعي أوّلا. أما التغيير الثالث فهو تأكيد التجربة طريقا للمعرفة، ورفض الفكرة الديكارتية عن سيادة العقل، أو النظريات القائلة بوجود مشاعر فطرية، على الرغم من أن فكر لوك لم يخل تماما من العقلانية. رأى لوك أن الإنسان يُخلَق مثل صفحة بيضاء. ووجدت أفكاره صدى عميقا مباشرا في الفكر التنويري الفرنسي خاصة، والأوروبي عامة، وغدت مصدرا أساسيّا من مصادر الفكر السياسي والتربوي والفلسفي للمجتمع الأميركي لاحقا.
عام 1759 كتب فولتير قصته التربوية الساخرة "كانديد"، التي اتخذت شكل الرحلة للبحث عن الخبرات المعرفية، عاد منها "كانديد" يحمل "حكمة" أو "تقنية" واحدة: "يجب أن نزرع حديقتنا"، التي أشار اليها فرويد في كتابه "قلق في الحضارة" غير مرة على أنها جزء من ألهيات (من اللهو) تقبّل الوجود واحتماله، وعدّها استخداما حكيما لـ"اقتصاد الليبيدو"، ووسيلة متينة لتوجيه السلوك الحيوي توجيها يهدف الى ربط الفرد بالواقع (ص21و28)، وعدّها آخرون ضربا من العبث، بينما عدّها دبليو هملين، في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" وسيلة للسخرية من أفكار ليبنيتز، أحد أعمدة العقلانية، حول ما عُرف بمبادئ الأفضل، المتعلقة بالخلق. وكثيرا ما كان فولتير يسخر من فكرة أن العالم والحروب خُلقت من أجل البشر.
رحلة "كانديد" سبقتها مغامرة استكشافية لا تقلّ إثارة، هي قصة "زاديغ" أو "القدر" (1747)، التي ارتحل فيها فولتير الى الشرق، بدءا ببابل وانتهاء فيها، باحثا من خلال "زاديغ" (ربما تعني الصادق  الجميل والمستقيم والعارف والخيّر)، عن أسرار الصراع الأبدي بين الإرادة والقدر (كانت مأساة أوديب أوّل آثاره الأدبية). قاد "زاديغ" حملة استكشاف عقلية، اقتفت، سلميا، أثر حملة الإسكندر الأكبر الحربية.
كانت الرحلة أداة للتجريب والاكتشاف، وطريقة حسية للمقارنة بين ثقافات وأفكار مختلفة، وصولا الى لحظة التنوير المنشودة. وهي تجوال إرغاميّ يشبه رحلة سيدنا آدم، الذي طُرد من جنته لكي يبني ثقافة التجربة. وهي رحلة مماثلة تماما لرحلة سيداهارتا في مغزاها الاختباريّ. ولم تكن هذه الرحلة، سواء في شكلها، كبحث تجريبي عن المعرفة باعتبارها وسيلة، أو في تبشيراتها الفكرية باعتبارها مضمونا، بعيدة عن منظومة أفكار لوك حول الدولة والحرية والمسؤوليّة التي تعرف اليها فولتير حين أُبعد قسرا الى لندن بأمر حكومي، وراح يروّج لها.

لا تنوير بلا تحريض
بعد مرور ثلاث سنوات على ظهور "كانديد"، كتب السويسري روسو "إميل" أو "عن التربية". وهي رسالة تربوية طويلة، تخللت بعض فصولها مشاهد ذات نكهة قصصية، وحوت أفكارا كبيرة وصغيرة لا تخلو من الوهن والإسفاف، لكنها كانت، في مغزاها العام وفي طابعها التحريضي، مواجهة صدامية مع واقع التربية السائدة، ونداء جادا الى العناية بالتربية ووضعها، كعلم، في موضعها الصحيح من عملية التغيير الاجتماعي والثقافي.
ما يميز "إميل" عن "كانديد" أن روسو توقف عند النقطة التي بدأ منها فولتير، كما لو أنه أراد أن يقول لنا: قبل البحث عن العقل، يجب العودة الى الجذور؛ وهي فكرة تطابق جوهريا، فكرة جون لوك حول أولوية نظرية المعرفة على مبحث الوجود. النزعة التجريبية في البحث عن المعرفة نقطة تماثل أخرى مع فكر لوك، أما نفي وجود بنى قبلية في التربية، سابقة لعملية التنشئة التربوية، وأن الذات صفحة بيضاء، يتم رسم معالمها اللاحقة بالتربية الطبيعية، من طريق التدرج الحسي في التعليم، فتعدّ تطابقا ثالثا مع فكر لوك. وعلى رغم هذا التماثل إلا أن روسو لم يخف، في غير موضع من الرواية، نقده لبعض أفكار لوك التربوية، مؤكدا أن العودة الى الطبيعة أقدر في اتخاذ الأحكام من الركون الى التوجيه النظري: "إن مجادلة الأطفال هي مبدأ لوك الأساسي. وهو المبدأ الشائع في هذه الأيام. ولكن رواجه لا يبدو لي حافزا على الثقة به ولم أر في حياتي شخصيا أسخف من الأطفال الذين أكثروا من الجدل معهم" ("إميل"، ص 93). أما فولتير فسخر سخرية لاذعة من أفكار روسو، وعدّها "لا تستحق سوى النسيان" ولم يستحسن من "إميل" سوى الفصل الخاص بلقاء الكاهن سافوا والمجاهرة بالايمان؛ وهو بحق أكثر مواطن الكتاب عمقا، فقد خُصّص لمناقشة قضية الوجود فلسفيا ومسألة الإيمان والتسامح الديني. في نهاية القصة يقرر روسو قطع رحلته التنظيريّة ويأخذ معه "إميل" في رحلة عملية الى أوروبا لمدة سنتين، لكي يكمل خبراته التربوية من طريق مقارنتها بثقافات أخرى، مغايرة. ربما لهذا السبب وافق روسو على أن يقرأ "إميل" قصة "روبنسون كروزو"، بعدما رفض بشكل حاسم أن يقرأ أو يتعلم "إميل" القراءة قبل سن الفتوة، لما في القراءة من ضرر عقلي كبير على صدق التجربة الطبيعية! هنا نرى أن حلقات الارتباط في شبكة البحث عن المنابع متصلة اتصالا عقليا وثيقا: من سيداهارتا الى دانيال ديفو الى فولتير ثمّ الى روسو، وهي متصلة سببيا: من رحابة البحث عن شروط القدر القاسية عند سوفوكليس، وصراع الإرادة والقدر عند فولتير، الى أغوار النفس لدى فرويد.
في فصل الرحلة الى أوروبا يتولى روسو مهمة شرح فوائد السفر، كوسيلة للمقارنة المعرفية، هدفها الإطلاع على ثقافات مغايرة، وهو عين ما فعله "كانديد". أما اللقاء بحبيبته صوفي فتم من طريق الذهاب في رحلة ثقافية مموهة تاريخيا، هدفها خداع التاريخ الراهن للأخلاق العامة، من طريق الذهاب الى الريف، لكي يتمكن "إميل" من امتحان قدراته وملكاته التربوية المتحققة بحرية تامة، بعيدا من تشويهات المدينة: "في فسحة الريف النظيف سنبحث عن الحب والسعادة والطهر" (ص 231). هنا يظهر شكل جديد من أشكال العودة الى الأصل، الى المنابع "النظيفة". مثل هذه الرحلة قام بها عدد من أبرز وجوه الأدب الأوروبي. ففي "آلام فرتر" أخذ غوته بطله الى الريف لكي يمتحن مقدراته الأخلاقية والسلوكية، ويختبر صحة معاييره النفسية والعقلية. وقام الروسي ميخائيل أرشباشيف (1927-1878) بفعل مماثل حينما أخذ "سانين" الى الريف الروسيّ، لكي يكشف عن غرائزه في بيئة نموذجية في صفائها الأخلاقي. تلك العودات الى الريف أو الطبيعة رحلات للبحث عن النقاء، وعن المنبع الأول، ربّما تكون أقصر عمرا ومسافة من الرحلة الى الشرق أو الى أعالي البحار والمحيطات، لكنها، على الرغم من ذلك، جزء من تأثيرات المناخ العقلي السائد آنذاك في الفكر الأوروبي: البحث عن أصل الأشياء، والبحث عن اللحظة الحسية الصافية، الشفافة، التي تصلح معيارا للتجريب ولاختبار صحة المفاهيم والأفكار والمعتقدات. في "موبي ديك" ذهب هرمان ملفيل (1891-1819) لاصطياد أكثر المواجهات فطرية: مواجهة الطبيعة والقدر والخير والشر، في هيئة صراع بين آخاب والحوت في عالم البحار الغريبة؛ وذهب كونراد في "قلب الظلام" في رحلته النهرية الأفريقية لتعقّب الشر حتى منابعه الأولى، وفعل ذلك في "نوسترومو" متعقبا انقلاب الحياة الفطرية في أعالي البحار. وحينما أنهى الأسوجي هاري مارتينسون رحلاته البحرية عاد في "الشوك يزهر" الى البقعة الأكثر فطرية في ذاته: طفولته.
وإذا كان الجو الغريب والدخيل، كبيئة جغرافية وبشرية، هو ما يلوّن محتوى الأعمال السابقة، فإن "الأدب الغريب" في شكله النموذجي، وفق المقاييس الأدبية الأوروبية، ظهر في بيئة أوروبا وعن أوروبا نفسها، وليس خارجها، في القرن التاسع عشر تحديدا. ويعتبر ميريميه أحد أبرز ممثليه، بقصته الشهيرة "كارمن"، التي وضع أساسها الموسيقي، كأوبرا، المؤلف الموسيقي بيزيه.
كان لقاء نص ميريميه بموسيقى بيزيه من علامات الاتحاد الفني للمنهج الواحد. فقد كان، كلاهما، من مؤصلي الاتجاه الفني الذي سمّيناه "الغريب"، هذا في القصة وذاك في الموسيقى.
أولع ميريميه بأجواء ما يعرف بحياة البحر الأبيض المتوسط. ففي "كارمن"، نجد مروقات أخلاقية استطاع ميريميه أن يُمرّها على المجتمع المسيحي من خلال شخصية "غريبة" في أجواء "دخيلة وشاذة"، لا تنطبق عليها قوانين الأخلاق السائدة. فكارمن، ابنة بيئة اشبيلية، غجرية، أو يهودية، أو ربما عربية الأصل. لهذا أدخلها الأوروبيون ضمن ما عرف بـ"الأدب الغريب"، ليس لغرابة أجوائها فحسب، وإنما لغرابة عناصرها الاجتماعية وما يرافقها من سلوك ومواقف أخلاقية تتعارض مع مفاهيم المؤسسة الاخلاقية الرسمية. فهي جزء من ثقافة الآخر. لهذا السبب لم يجد ميريميه ممانعة قوية، كالتي واجهها فلوبير في "مدام بوفاري" ود. ه. لورنس في "عشيق الليدي تشاترلي" أو أبسن في "بيت الدمية". لكن إعداد "كارمن" مسرحيا كأوبرا أرغم معدّيها على تخفيف بعض جوانبها المارقة، بالتقليل من حدة مروق ما هو دخيل فيها من طريق الحذف والإضافة، لكي لا تكون متعارضة مع قوانين الأخلاق السائدة، أي لكي تكون منسجمة مع ثقافة المجتمع وعناصره الأصيلة، "غير الدخيلة". وفي ظنّي لا تحمل كلمة "اكزوتيك" في اللغات الأوروبية المدلول عينه الذي تحمله كلمات غريب وشاذ ودخيل العربية. لأنّها تتضمن قدرا من الغرابة المصحوبة بالإثارة أيضا. وأحسب أن أدب أميركا الجنوبية قام بتلقيح الغريب، الذي هو أجنبي في الأصل، مع الواقع المحلي، فأنتج الهجين الروائي الذي سمِّي الواقعية السحرية أو الغرائبية.

رحلة على الأرض وأخرى في الخيال

لقد جذب الشرق أنظار الرومنطيقيين والحالمين الغربيين. ولم يكتف بعضهم بتأمل الشرق، كما فعل غوته وفولتير، بل يمموا شطر الشرق حقاً في رحلات هدفها الوصول الى موقع الآخر والنظر اليه من قرب. جذب الشرق، لدوافع مختلفة فلوبير وجيرار دو نرفال (1855-1808)، والى هناك ذهب‏ لامارتين (‏‏1869-1790)، الذي زار لبنان وسوريا وفلسطين. وارتحل شاتوبريان (1848-1768) الى الشرق أيضا، ومن خلال أسماء المدن التي قصدها وذكرها في رحلته نتعرف الى الخيال الذي دفعه الى السفر: أثينا، اسبرطة، القدس، الاسكندريّة، قرطاج، وقصر الحمراء في الأندلس، أمّا رحلته الى أميركا كثوريّ ومكتشف، فلم تكن سوى بحث عن "عفوية الحياة"، لدى الآخر، الهندي الأحمر، الذي كان في طور الانقراض على يد الرجل الأبيض المتحضر. ولم تكن رحلة رامبو (1891-1854) التجارية الى الحبشة وعدن سوى بحث مماثل عن وهم الآخر. وفي قصص الفرنسي الفونس دوديه الساخرة "تارتارين من تاراسكون"، نعثر على صور شرقية من الجزائر وعلى خيالات تعود الى الحقبة العثمانية، تصوّر رحلة الأوروبي للبحث عن اللقاء الفطري بالشرق. وفي الرحلة نفسها نعثر على خطوات تاريخية أبعد حين يتتبع دوديه جذور أحد مؤسسي الرواية الأوروبية ثرفانتس، راويا قصة أسره في الجزائر واستعباده.
وإذا كان الشرق جذب بعض الأدباء حسيّا داعياً إيّاهم الى السفر، فإن أدباء ومفكرين كدانتي وشوبنهاور وشليغل ونوفاليس وفولتير وغوته، استجابوا نداء الشرق من خلال الفكر، في رحلات عقلية هدفها إلقاء الضوء على الآخر، المختلف، كمنظومة من القيم الدينية والأخلاقية والسياسية.
لقد ذهب الرومنطيقيون الألمان الأوائل، وفي صدارتهم نوفاليس وشليغل، الذين ولدوا تحت تأثير شعارات الثورة الفرنسية نحو الرومنطيقية، نتيجة لضعف إيمانهم بإمكان تحقق نتائج الثورة على الأرض، وكضرب من المواجهة مع العودة الكلاسيكية الى المثال اليوناني. كان تمردهم على الواقع الاجتماعي عقليا وفنيا، وكانت الرحلة نحو الشرق فكريا، جزءا من هذا التمرد.
أظهر الشاعر الرومنطيقي الألماني هاينريش هاينه (1856-1797) اهتماما ملحوظا بأدب الشرق من طريق اطلاعه على بعض ترجمات الشعر العربي القديم وإعجابه بـ"ألف ليلة وليلة"، ولم يخف تعاطفه مع الحضارة العربية في الأندلس في بواكير تأليفه المسرحي. وقد داعبت فكرة الترحال من أجل إقتناص اللحظة الفطرية خيال هاينه الشاب.
من هنا نرى أن التمدّد الجغرافي وما رافقه من رحلات ثقافية واقعية وخيالية، التي خلقت فضاء عالميا للتلاقح الروحي والفكري، لم يكن تمددا في اتجاه واحد، بل كان رحلات متشعبة متنوعة الأغراض والطرق والمقاصد. ولم يكن بحثا عن مثال فكري واحد أيضا؛ فإذا كان دانتي وفولتير ينتقصان من قيمة النبي محمّد فإن لامارتين يفعل العكس. وفي رحلة فولتير العقلية نحو الشرق نجد تحوّلا جذريّا في المفاهيم يستوجب التأمل. فقد هاجم فولتير الثائر الإسلام بعنف، من خلال النبي محمّد، في مسرحيته "التعصب أو النبي محمّد" (1741). لكنّه عدل عن ذلك في سنوات عمره الأخيرة، سنوات الهدوء، فأعاد تقويم النبيّ محمّد ايجابيا. ولا يمكن تفسير هذا الانقلاب من دون الرجوع الى فكرة الآخر أو الغريب. ففولتير الثائر لم يهاجم القرآن تحديدا والنبيّ محمّدا بالاسم إلا تحت تأثير هجومه العام على المسيحية الكاثوليكية حصرا، التي اتخذها هدفا لسهام نقده. لكنه أخذ جرعة من الحسية في تصويب السهام نحو الدين الإسلامي، من طريق التعامل مع دين غريب ونبيّ غريب، فأكسب مناخُ الصراع ضد الآخر نقدَه جرعة من الجرأة المضاعفة، جعلته يسمّي منتقده بالاسم، لأنه يدرك أنه يتعامل مع اسم ينتسب الى العالم المختلف (الغريب)، الذي لا يثير تعاطفا خاصا في مجتمعه (على الرغم من ذلك منعت الكنيسة المسرحية بعد عام على تأليفها). أما هجمته الشعرية المبكرة على المسلمين واقترانها بنبرة الحرب، في نص يعود الى عام 1716، حينما كان في العشرين من عمره، فحدثت لسبب مماثل، هو شدة نقده للحرب عامة، وسخطه على الصراع السياسي والعسكري مع الدولة العثمانية، حاملة لواء الإسلام حينذاك. وإذا كان هيغل ينظر باستصغار الى الفكر الشرقي، فهو في نظره غريب ومتدنٍّ قياسا بالفكر الغربي، فإن فريدريك شليغل (1829-1772) وشوبنهاور (1788-1860) يعليان من شأن الفكر الشرقي، ممثَّلاً في ثقافة الهند عند شليغل، وفي البوذية لدى شوبنهاور. وإذا كان كيبلينغ ينخرط في الدعاية الاستعمارية، فإن أورويل ودوريل ومالرو يفعلون العكس، وإذا كان ستيفنسون وديفو وملفيل ومارتينسون وشاتوبريان عبروا البحار نحو جزر بعيدة، بحثا عن عالم فطري أو آخر في طور الولادة، فإن فلوبير ولامارتين وشاتوبريان أيضا يمموا شطر العالم القديم، بحثا عن "نضارة" الشرق  الروحية. وتلك الرحلات كافـة تشير الى أمر واحد: البحث عن أمر مفتقد، عن الآخر، المختلف، سواء أكان في هيئة مثال للتطابق أم مثال للاختلاف. وهذا يثبت أن الثقافة سلاح للاستحواذ على العالم، ولكن بطرق فنية.
لم تكن الرحلة الى الشرق حكرا على الأمم الكبيرة، فكتّاب الأمم الصغيرة ساهموا تحت مناخ التمدد الثقافي نفسه في مدّ الرحلة الى الشرق بمذاق جديد، مختلف، له نكهته الخاصة، المميّزة. قام بذلك كتّاب أوروبيون من بقاع شتى، ومن أمم لا تخضع للثقافة الانغلوسكسونية أو الفرنسية، لكنها لا تعمل بمعزل عنها.
ففي أعمال الأسوجيين هيدنستام ولاغرلوف، اللذين نظرا باحترام بالغ الى أصالة القيم الشرقية والى الإسلام كمعتقد، نعثر على أفكار خفيّة، غير مقصودة، تشي بالمسعى التنويري للغربي، الذي يلعب دور المنقذ. فهناك دائما عقل آخر يتولى مهمّة النظر والتدقيق والتمحيص، أي يتولى مهمّة فحص العالم المحيط به بعين المهيمن على مجريات الأحداث، حتى الأخلاقية منها. فخلف البناء السردي المفرّغ من العداء نعثر دائما على آثار أقدام فرايدي البدائي وهو يسير خلف روبنسون كروزو المتحضّر.  هذا النمط من التفكير انعكاس دقيق لواقع الحال. فالشرق- العالم غير الأوروبي- كان ولا يزال موضوعا، أكثر مما هو ذات فاعلة، مؤثّرة. إن أقصى حدود الإيجابية التي مُنحت للشرق، في رحلة البحث عن المنابع، لم تزد على اعتباره متحفا للنضارة الروحية الآفلة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلام عبود


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni