... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
متر من الحياة

فاروق يوسف

تاريخ النشر       20/02/2010 06:00 AM


كنت ذاهبا إلى طبيب الإسنان فائق سعيد البندر حين التقيت بها. في الطريق إلى الوجع وقعت عيناي عليها. كان الطبيب وهو يهوى النحت، قد حدّثني عن شغفه برأس الأنثى. كان ينهي كلامه بجملة واحدة "أحب الباجة"، وهو يقصد رأس الخروف. كانت المرأة تقف أمام واجهة زجاجية لمحل صياغة في "راس الحواش" بالاعظمية. كان الذهب يلمع في عينيها فلم تنتبه إليَّ وأنا أنظر إليها مأخوذا برقتها. فتنها الذهب وأسال زئبقها في مرآتي. انفتحت حقيبة ماكياجها في رأسي. غالبا ما تنظر المرأة في اتجاهين. هذا ما تعلّمه بيكاسو جيدا وأفصح عنه من خلال عيون نسائه القابضة على الاتجاهات كلها.
"رأس الأنثى ليس له حدود واضحة، لذلك فإنه لا يصلح للنحت. إنه يمتزج بالفضاء من حوله"، كان البندر يقول ويضيف: "ولكنني أحتال عليه حين أفرّ من الشبه. أقصد حين لا أجعله رأسا لامرأة في عينها. كل امرأة ستقول: هي ذي أنا. من غير أن تكون هي تماما".
ألاحظ أن تنورتها الحمراء تكشف عن ركبتيها. أدركت أن اللمعان يأتي من هناك. تنعكس الشمس على لوح الفضة فتنشر لمعانها خفيفا مثل خيوط بيت العنكبوت. "أقطف لك زهرة للذكريات يا دكتور"، سأقول له وهو ينظر إليَّ بعتب، قبل أن يقول لي: "لقد تأخرتَ". هو يعرف أن الزمن قد توقف بي عند نظرة مبهمة ألقت بي في عتمة منجم، لا رمل في ساعته. صورتها منعكسة في الزجاج تجمع أجراس تلفتي في بقعة واحدة يغلفها الضوء بصمته. لو التفتت، فلن تجد على شفتيَّ اليابستين كلمة واحدة. سرقها الذهب فيما كنت أحاول أن استردّ يقظتي. هوذا شعرها يسترسل في الهبوب فتجمعه يدها وترخيه على كتفها. بلوزتها البيضاء بوردة بنفسجية صغيرة تكاد لا ترى، تكشف عن ذراعين ورديتين. حين جمعت شعرها ضربني جزء من رقبتها ببرقه. سأقول له: "الفكرة أصعب من الشكل. هي تقيم في الصلصال من غير أن تغادره إلى المنحوتة". سيضحك ويقول: "الباجة هي الحل. أفتح فمك".
كان البندر قد رآني قبل أيام في قاعة الأورفلي بصحبة فتاة، تخيلت أنه لم يرها من قبل. رفع حاجبيه تعبيرا عن اعجابه بالفتاة. كان المكان يغص بالناس، لذلك لم تتح له فرصة الانفراد بي. حدث ذلك عام 1986، وكنت أحاول أن ألفت نظره إلى ساقَي الفتاة المذهلتين غير أنه كما توقعت لم ير منها سوى رأسها. بعد أيام أخبرني أن لتلك الفتاة أختا تحضر مساء كل خميس إلى نادي العلوية برفقة شاب يعمل عازف غيتار في فرقة النادي. "هي الأخرى معجزة": نقلت تلك الجملة إلى فتاتي غير أنها لم تعلّق في شيء. عيبها أنها تعرف الكثير عن نفسها لذلك تمشي بخيلاء. كنت أشعر بسببها كما لو أني أمشي وراء ملكة، مثل أحد أتباعها. ذلك الشعور المزعج، هو ما وضع حدا لعلاقتي بتلك الفتاة.
"كنت أتوقع ذلك"، قال لي البندر وهو يزرق لثّتي بالمخدر. "الملكات لا يصلحن للحب. الحياة معهن قصيرة. تعلّم الدرس من النحل". كنت مأخوذا بشفافية ساقيها، فلم أر إلا متأخرا أثراً من جرح كان يزيّن الجانب الخلفي من ركبتها اليمنى. أثر صغير من غصن زهرة كان يملأ الفضاء من حوله نورا. ذلك الأثر نقلني من حافات تنورتها إلى مؤخرتها. ما الذي عطّل عينها الثالثة عن العمل؟ هناك واحد من احتمالين: استغرقت تلك الفتاة بكل ما تملك من خيال في التقاط شيء من قوة الذهب، أو أنها اغمضت عينها تلك من أجل أن تهبني وقتا أطول للإنصات الى إيقاع جسدها. ما الذي يحدث لي لو التفتت؟ كنتُ سارقاً. كنتُ مسروقاً. السارق والمسروق وما بينهما. تلك اللحظة كنت الإثنين، النقيضين المشتبكين بارتباك لا يصلح لكي يكون نهاية مناسبة.
كانت "راس الحواش" تعج بالمشاة وبأبواق السيارات ودخان السجائر والكلام الذي لا يقول شيئا لأنه مزيج من القهقهات والتنهدات والصرخات. في المتر الذي يفصلني عنها، مرّت قبائل من أصوات وروائح وعطور وحشرات وذكريات. أحيانا كانت تختفي كليا. تظهر أجزاء منها فأحاول أن أستعيد توازن الصورة.
"كنت أنظر إليك من شرفة العيادة وأشفق عليك". في ما بعد، قال لي البندر. فتاة نادي العلوية هربت مع مصري. لم أقل له إن ذلك المصري كان قد دعاني ذات جمعة وشربنا النبيذ معا وهو يبثّني لوعته. لم أخبر أختها بما جرى بيني وبين المصري حين روت لي بطريقة ملغزة أن أختها تزوجت وغادرت البلاد. يومذاك سألتني بغنج ساحق: "هل ستأخذني معك إلى روما؟".
"من أين عرفت؟"، لم أسألها بسبب ضجيج الجرس الذي صار يرن في رأسي. "فتاة صعبة"، قلت للبندر، فأظهر خيط ابتسامة وهزّ رأسه: "جمجمة رأسها توحي بأكثر من ذلك". فجأةً شعرتُ بمن يمسك بكتفي من الخلف بقوة: "الوجوديون كلهم هنا اليوم. ليسقط ماركس". لم يكن في إمكاني الالتفات، كنت في حال لا تسمح بالاستدارة.
"رأيتك واقفا فقلت لنفسي هو ذا المنقذ. دينار واحد يكفي لحل المشكلة الوجودية هذه الليلة". نسيت اسمه لحظتذاك. كان واحدا من عشرات الصعاليك المشردين الذين يتنقلون بين المقاهي والنوادي في صفتهم أدباء مؤجلين. وقف مبعوث اللعنة بيني وبينها، فيما كان هنالك حشد من الكائنات يمرّ، فحلّت العتمة. وضعتُ في يده ما سحبته من المال من جيبي، فقال بصوت عال: "أول نخب سيكون في صحتك". انسحب فلم ار سوى واجهة الذهب. كانت صورتها لا تزال تسكن الزجاج غير أنها اختفت. لم استطع حراكا. تلفّتُ يمينا ويسارا. توقف الضجيج. اختفت الاصوات والروائح والعطور والذكريات. كان العالم قد استعاد فجر طفولته. نبوءة البياض التي لم يكن احد يجرؤ على المساس بها. الصخرة التي لا يقوى أحد على حملها. كنت وحيدا.
"أنا كنت في الشرفة أنظر اليك وأبكي"، يقول لي البندر. ركضتُ. مشيت بأقدام ليست لي. حين وصلتُ إلى جامع أبي حنيفة النعمان وقفتُ لاهثا. لو كانت اختارت الذهاب في اتجاه ساعة عنتر لما استطعتُ اللحاق بها الآن. كل مسافة ممكنة ليست لي. لو أني اخترتُ الجهة المعاكسة ولم أجدها لظننتُها اجتازت أبي حنيفة.
"لم تمش في رأس الحواش بل نزلت في اتجاه شارع عشرين كما أتوقع. قلت لك إن أسنانك الطبيعية مهددة بالزوال". أكرهه حين يحدّثني باعتباره طبيبا. "افعل ما تراه مناسبا". كان يأسي اكبر من أن يكون موضع نقاش. فتاة 1986 اختفت من غير أن تسمح لي بالاعتذار. كنت قد ذهبتُ إلى روما ومن هناك إلى بولونيا في الشمال الإيطالي، وحين عدت إلى بغداد لم احاول الاتصال بها لأني لم أكن املك سوى شغفي بها، وكنت أعرف أن ذلك الشغف لن يعفيني من الكذب. كنت مجرد احتمال كذبة. ولم أشأ في الظهور على حقيقتي.
"كنتَ ضعيفا"، يقول لي. اقول له: "كنتُ متزوجا"، فيضحك بعمق. كنا نجلس في حديقة بيته. وكان يسمّي الزهور بأسمائها. "المياه العراقية العذبة تهبها نوعا من النضارة، هو الآخر معجزة مثل تلك الفتاة التي فقدتُ أثرها. أنت محظوظ لأنك لم تر وجهها وإلا لكنتَ مجنونا الآن في أقل تقدير. كانت خلاصة لجمال اغريقي لم ينتبه إليه فيدياس".
يومذاك كنتُ في سنّ تسمح لي بالقول إن المغامرة لا تزال ممكنة. وإن الوقت لم يفت. الآن صرت افهم كسل نظرته. "يوما ستندم". لم يقلها. أسمعها الآن بصوته، بصوتي، بصوتها الذي لم أتعرف اليه. في ذلك اليوم الخريفي عرفت قدماي معنى أن تلقيا خطوات خالصة من كل معنى مباشر. خطوات لاهثة من اجلها. كان صديقي الرسام فاضل العكرفي يأخذني إلى "رأس الحواش" لنأكل "زنود الست" وهي حلوى عراقية اشتهر المعاظمة (سكان الاعظمية) في صنعها. وكان يقصد الذهاب في نزهة آسرة نرمي أثناءها مئات الوجوه الأنثوية في خزانة شهواتنا.
"يوم من غير زنود الست هو يوم ذكوري تعيس"، كان العكرفي يقول لي. تلك المرأة بتنورتها الحمراء أبقت في خزانة عاطفتي جرحاً. ذلك الجرح الشفاف الذي كان يقيم على الجزء الخلفي من ركبتها. ربما لن يتاح لي مرة أخرى أن أمشي في "راس الحواش". قد أذهب إليها ولا أجدها، غير أنني احتفظ منها بذكرى ذلك الجرح، أو صورته. كان هناك متر هو المسافة التي تفصل بيني وبينه. بيني وبين جرح لم أجد معنى للحياة إلا وكان ذلك الجرح هو فكرته ومصدر تجليه.
ذات يوم كنا جالسين انا والعكرفي في مقهى يقع قريبا من كاتدرائية نوتردام بباريس، فأخبرته بقصة ذلك المتر. نظر إليَّ وقال: "بعد عشرين سنة من الزواج اكتشفنا أنا وزوجتي أن هناك بيننا مترا لا يزال  صامتا. وهو ما يجعلنا الآن ننفصل يا صديقي.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni