... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
جمهورية السيدية

شي ماء الصقر

تاريخ النشر       03/03/2010 06:00 AM


رغم هبوط ذلك الكائن المفاجيء على أرض بغداد، فقد شاعت في الناس، إلى جانب الصدمة، طمأنينة مشروخة. وعندما صاحت الناس منه "الداد"(* ) وعجز الجميع عن قبوله قدّمت شركة تجارية حلّا يتلخّص بتلوينه.

تمكنّت الشركة من الحصول على دعم مالي. وحدد مجلس إدارتها بدقّة اتجاهات الإنفاق تفاديا لمأزق الفساد المالي:

مواد رسم "فرش، ألوان من مختلف الأنواع، سلالم". أجور عمل "30 دولار في اليوم لكل من يرسم"

وللدقّة أكثر حددّت خصائص الكائن: قطع اسمنت رمادية واقفة، ارتفاع الواحدة 7 أمتار، عرضها متر، وزنها 6 طن. المجموع الكليّ 340 كيلومتر.

ولكي لا تضيع شاردة أو واردة حدّد ديدلاين العمل: شهر واحد!

الـ 30 دولار دفعت 60 فنانا للوقوف في "المسطر" عند جدارية فائق حسن. ولم يفرّق المقاولون الثانويون بين العمال. جاؤوا بالـ "كيّات"(* ) وحملوا كل من صاح أنّه فنان؛ هواة ومحترفون، تجريديون وتشخيصيون، نحاتون ورسامون، خطاطون وخزّافون.. وبهذه الطريقة ظهر على جدران بغداد رلييف لمسلّة حمورابي هنا، وﮜرافيك جنائن معلّقة هناك.


على ذمّة العربة

السندباد يدبّج فلاحين تكاد أن تفلع الضحكات أفواههم، إلى جانب المسلّة. فلاحون تجرّهم عربات بدواب وغزلان ووعول وطواويس.

بمحاذاة الرسوم "أكو" رجل بغدادي حقيقي بسدارة فيصلية يقود عربة "أم چبك چبك"(* ). أنا هي العربة. يجرّني بغل وسط زحام سيارات وبعران وماطورسيكلات وخرفان وبشر. الكل يممّ وجهه نحو بوابة منطقة الحياد.

"أنا أفضل من سيارة تموت وهي تنتظر رحمة قباطنة محطات البنزين!" أفكر لكنّ الفكرة تطير حين "أتفلّش" فجأة وتضيع قدرتي على التمييز. هل الرجل البغدادي والبغل وأنا مرسومون، والوعول والغابة يمشون في الشارع، أم بالعكس؟

الرجل البغدادي، اسمه المهدي، لم يتمكّن من النظر إلى السندباد الذي تراكضت من فرشاته الوعول والغزلان والطواويس صوب أفق أزرق. ولم يسمع صوت صديقه السندباد قائلا: "إنّها شرٌ جميل!" لأنّنا تطايرنا بشكل سحري، ولأنّنا تجمّعنا أو تكوّمنا عند طوق كونكريتي يعلو نهر دجلة، ناحية الأعظمية. جداريات معمولة من صبغ سيارات أخضر وأزرق. قصب أخضر ماء أزرق. نسيت وأنا أئن رائحة دجلة وجثته الممرغة بالوحل، ونسيت أنّ القصب لا يستزرع في الإسمنت المسلّح.

ركبني المهدي من جديد وأنا نصف صريعة.

ساط البغل. مررت على جدران مخردقة تسوّر مدينة الثورة. ﮜرافيكي وضع فيها شخصيات شعبية أصرّت أن تبقى محفرّة. الڰرافيكي، اسمه أبا ذر، كان يوما صديقا للمهدي. على مسافة منه نحات مكلّف بنحت خيول خارج المقاسات ثمن الواحد منها 50 دولار. النحات "مخبوص" بتركيب ألوان وأطيان و"سكراب" سيارات متفجّرة، ولا يدري أنّ المقاول يستلم 160 دولار عن كل متر. أنتج النحات 9 جياد خلال أسبوع وانشغل برسم بحر أزرق، ثمّ حصانين طول الواحد 4 أمتار. فرس ملوّن وآخر تخطيط (اسكيتش). الجواد الزيتي يركض خلف الحصان التخطيط. قاعدة الأسوار الاسمنتية تبدو كإطار لجدارية الخيول.

وصلت جدار المقبرة الانجليزية.

بساط ريح يمتطيه رجل معمم يعزف آلة عود. تحت البساط نساء مبرقعات وبيوت تراثية. قطع فولاذية كالمقابض ينطّ أحدها من صدر امرأة ويستقر آخر على ساق خضراء. السماء زرقاء، الطيور وسخة البياض، الرجل أخضر(* ) وبساط الريح أرجواني. الرسم اللمّاع تفوح منه رائحة بوية مقاومة للحرارة. الشيء الحقيقي الوحيد، الإطار، هو الدكّة الخرسانية على الأرض والأسلاك الشائكة أعلى الجدار.

تضعف مقاومتي للحفر في الشارع.

في منطقة حديقة الأمة، على جدار يتيم لا يلتصق بجدار سواه، جنود أمريكان وراية باللغة الانجليزية. جندي في حالة انتصار. جندي يحمل جريحا. جندي يطلّ من همر أمريكي. رعاة بقر يلتقطون صورة تذكارية في وضعية من يتسلق جبلا. وعلى قفا جدارية جواد سليم لوحة زيتية لجندي أمريكي معبّأ بالسلاح في وضعية استراحة المحارب. فوق جدارية جواد سليم مكيّفة هواء قديمة وفي نهايتها ترى نخلة حقيقية. بعد 100 متر جدار أزرق كالبحر، ثمّ أكياس رمل قيل أنّها نصب من صنع تشكيلي عراقي، وقيل أنّها متراس نقطة تفتيش.


على لساني

اليوم ثلاثاء. بيتنا في جمهورية السيدية. السندباد، صديق المهدي الأعز، منقطع الأنفاس. يتهالك على كرسي في الصالون: "أفضل حل هو أن نحيط الحرس الوطني علما باختطاف المهدي."

أبي والسندباد وأنا أمام ضابط الحرس الوطني. السندباد يرطن مقطوع الأنفاس.


على ذمّة السندباد

بدأت القصة يوم الخميس. كنّا نحتسي البيـ.. البيبسي كولا. تشكى المهدي، زوج الأخت صابرين، من شحّة العمل وقال أنّه يفكّر ببيع البيت ومغادرة العراق. اقترحت عليه أن يترّوى ويجرّب البحث عن عمل خارج جمهورية السيدية. وأبديت استعدادي لمرافقته في الأيام الأولى.

فجر الثلاثاء.
المهدي وأنا في الإسطبل.
علف البغل.
شنّف المهدي منخريه.
دخان السيجارة.
لبس المهدي السدارة البغدادية، عدّل ساقه، ركب العربة، ركبت معه.

اتجهنا إلى سلطنة البياع. طابور عند الحدود. انتظرنا الوصول إلى نقطة التفتيش. الدخان من مناخيرنا. بال البغل. قال المهدي بأنّه سيستدعي حاسة الإستشعار عن بعد. قال المهدي إنّ موهبة سائق العربة لا تكمن في مناورات الطرق ولا تقنيات اصطياد الزبون. بل في حاسّة إستشعار الخطر. نظرنا إلى بساط ريح يحلّق عليه رجل، وإلى دكّة جدار فوقها نساء مرسومات بالفحم والبنتلايت. قال المهدي: "خرسانة على الارض وأسلاك شائكة في السماء. أفق أزرق، رجل أخضر، بساط ريح أرجواني!!" تحرّك الطابور بسرعة.

الثامنة صباح الثلاثاء.

"البغال لا تبول دما" قال المهدي وأشاح ببصره عن بقعة البول على الأرض. أثناء تفتيشنا فقدت امرأة الوعي وهي جالسة خلف مقود السيارة. أسرعت لنجدتها. غادرنا نقطة التفتيش. ربطت سيارتها إلى العربة وسحبناها إلى ﮜراج النهضة.

الحادية عشرة صباحا.

استغرقت اللحظة دهورا قبل أن يقول المهدي: "تدلّل!" فالاجابة هناك عن سؤال عادي "تاخذني للأعظمية؟" ليست عادية. الاتجاه هو الكارثة. الرجل الواقف عند ﮜراج النهضة يريد الذهاب إلى ولاية الفقيه المعظّم. والمهدي، وأنا، لم ندخل تلك المنطقة منذ أحداث سامراء.

حسنا..

لم يهزم تردد المهدي، سوى لون العملة الأخضر وطابور العربات المتأهب لاختطاف الزبون ما أن يرفض المهدي! حشد من بغال وجياد وسيارات وحمير وثيران وناقلات خضار، وغير ذلك.

ما أن غادرنا ﮜراج النهضة حتى ارتعد المهدي. تظاهر بالمرح وأطلق نكات انقطعت بفجوات صمت مكفهر. ساط البغل كأنّما يريد أن يقتله، انتبه إلى أنّ الزبون يرسل إشارات إلى شاحنة تجاوزتنا، غنّى المهدي بأنّه قادر على العلس(* ) والابتلاع والصك وحتى التبرز. تحسسّ الزبون شيئا تحت قميصه. ارتعدت فرائص المهدي وأمسكت يده بساقه. راحت العربة تبطيء حينا، وتتوقف حينا.

لا مناص.

كنّا دخلنا منطقة التماس والقناصة عند منطقة الكسرة. كلية التربية الرياضية، أقصد الجدار الذي كان يوما كليّة.

طابور قصير عند الثقب المؤدي إلى الأعظمية، أقصد "ولاية الفقيه المعظّم". انتظرنا عبور النقطة ساعات. همس المهدي: "أنظر وراءك. إعلانات حزب كردي، بيارق سوداء، صور زعماء."

نام البغل.

همس المهدي بأنّه لا يلوم أبدا حاسة الشم الأمنية. فموهبة السائق ليست المراوغة ولا تقنيات تسليم الزبون الى "القنفة" المكلّلة بمظلة شمسية وسط العربة. بل هي حاسّة إستشعار الخطر. استشعار تغيّرات الحدود المتحركة. معرفة اللا سبب واللا زمن اللازم لمعرفة أين ومتى وكيف سينعلس(* ) شخص ما. وقائد عربة الأجرة، أيّ كانت، أكثر العارفين بأنّه عين الغباء أن تستخدم عربة أجرة.

ظلّ المهدي يمسك طوال الوقت بساقه. الطابور الصغير لا يكاد أن يتحرك. الثانية بعد الظهر.

"البغال لا تبول دما إذا ما انتظرت تحت الشمس! البغال تنتحر." همس مرة أخرى. ثمّة من ترك العربات قبل نقطة التفتيش، عبر النقطة ودخل "ولاية الفقيه المعظّم" راجلا. آخرون تذمروا وابتكرت زوجة أحدهم "داوركيسه" فجلست خلف مقود السيارة و"ماعت روحها". أسرع رجال نقطة التفتيش لنجدتها، شفطوا فخذيها بأعينهم وقدموا السيارة للتفتيش المرير.

وصلنا النقطة أخيرا.

سحب المهدي الهوية السنيّة. المهدي شجاع. قبل مرحلة العربة والبغل كان سائق تاكسي يجوب بلدان بغداد كلها وهو جاهز لكل الإحتمالات: خمس هويات رسميّة. واحدة تحمل اسما شيعيا، وأخرى سنيا، وثالثة بين بين، وإثنتان فارغتان للطواريء. حتى لباسه مبتكر، يوحي بأنّه شيعي إذا علّق شريطا أخضر على الصدر، ويوحي بأنّه سنيّ إذا أخرج الدشداشة المحشوة في البطلون القصير.

حين مشينا قليلا خفنا لأنّ الناس نظرو لنا بريبة، وجفلنا حين صاح الزبون:

ـ عِندكْ! نازلْ! والله وبالله ما توقّعت أوصلْ أهلي أبدْ! ﮜلت انعلست واندفنت بالحايط!
ـ لك أخي أنا حسبالي أنت راح تعلّسنه بخبصتك واحداثياتك!!
ـ يعني شفتني أأشر يمينه ويسره؟ هاي من حلاة الروح أخي. عُبرتْ عليك لو لا؟

نظر المهدي إلى الرجل وانفجر بضحكة كادت أن تشقّ حلقه:

ـ شلون سالفه هاي! أنت علاس لو آني علاس؟!! أدليّك أخي على طريق رجعة أمين، ما بيه علاس ولا كنّاس. ولا دوريات.

أخذ المهدي بنصيحة الرجل وانطلق بأقصى سرعة صوب الناحية الشرقية من الجدار: ناحية إمارة الشعلة وجمهورية الصدر. ولم يتردد المهدي أن يعفط لزبون صاح "تاخذني للشعلة يرحم والديك؟" بل ولم يتردد من ضرب البغل ضربات وحشية ظننت أنّها ستدفعه للإنتحار.

توقفت اندفاعة العربة الهستيرية حين أطلّ الجدار.

أعلام لمرشحين، جياد عملاقة، تعاليم وشتائم وصور لزعامات حكمت على أسيجة بيوت وواجهات محلات. وصلنا نقطة التفتيش بسرعة غير متوقعة. اندلق جسد صبي من سيارة وهو يصيح: "كلينكس سوري بدولار يا ولد!" توهّج ضوء أحمر ثم ركام وغيمة في السماء! شعرت أن الأسوار ستنقضّ عليّ وأنّ الجياد العملاقة المرسومة تصدّها. ضرب المهدي على ساقه. سيارات تجاوزت عربات، ركاب تركوا العربات وركضوا صوب نقطة التفتيش. امرأة تقود سيارة، أغمي عليها فأسرع أحدهم لتقديمها على الآخرين.

"أف!!"

أخيراً تجاوزنا نقطة التفتيش بإعجوبة. غلّ المهدي السوط في بطن البغل "نحن خارج أسوار الطنطل" أشعل سيجارة "نحن في منطقة الحياد بين جدارين، جدار يحمي جدار" طبطب على ظهر البغل "لا تذهب للشوارع الجانبية في الدول الخطيرة. نصيحة من أخ!"

توقفنا عند الجدار. ساعات. وكأنّنا سلحفاة تزحف صوب نقطة التفتيش. أسوار تفيض منها رلييفات جياد من طين وبوية وسكراب.

الساعة الثامنة مساء.

ارتاب المهدي "أنت متأكّد أنّ هذه أسوار إمارة الشعلة؟" سألني. البغل لم ينم. قال المهدي أنّه لن يلوم حاسة الاستشعار عن بعد. فموهبة السائق تكمن في التفريق بين الحدود الحقيقية والملفّقة. غصّ قلبه وأمسك بلجام البغل. قفز فسقطت ساقه الصناعية  المحشوّة بالأسلحة. نعم ساق يلبسها عوضا عن الساق التي بُترت أيام الحرب مع إيران. مكان غير متوقع لإخفاء السلاح. لم تسعفه الساق المتبقية على الركض. تحرّك الطابور. أطلّت كوّة مظلمة في الجدار. البغل لا يبول في مثل هذه الساعة. تزاحموا حوله فابتلعه الجدار. شيء عصيّ على التشفير.


الجدار المقدس

"عمر المدينة أكثر من 1250 عاماً" هذا ما أخبر جدي أبي عن جدّه. "أطلقت عليها ألقاب وأسماء. أسوارها كانت دائرية على نحو مفرط الاتقان هدمها رجل يقال له هولاكو" وقال أبي أنّها أيام صدام حسين حملت اسم إمبراطورية الأبد. ولكي يتطابق اسمها مع الواقع باعد صدام فخذيها بسيفين و"على عناد هولاكو" أحاطها بسورين:

سور مبسوط على الأرض ملغّم ومشجّر. وآخر غائر إلى باطن الأرض بارتفاع (عمق) 10 أمتار وسمك 3. لم أكن أعرف أنّ هناك جدران تنخفض ولا ترتفع. حين "تمرغلت" صريعة على يد الأمريكان كشف سروالها الداخلي أخاديد "مجلفطة" وبئر عاقر وانزاح سوتيانها عن ضرع جاف وقلب حنون خرف.

أحد الأسباب التي أضفت على الكونكريت المسلّح حضورا مهيبا، هو التجاوز! فإذا أردت تجاوز الأسوار صوب الأعظمية، مثلا، عليك أن تبرز بطاقة هوية. فإذا كانت الهوية شيعية وجب عليك التماس حق الدخول. ولتنظيم هذه الإلتماسات ولدت طقوس. المقاهي المرتجلة عند بوابات الجدار صارت شرطة حدود وعصابات تهريب. مكاتب السفريات في الصالحية والنهضة صارت ممثليات وسفارات، امتدّت لتتموضع في المنطقة الخضراء.

وتفاديا للفوضى، وحربا على الفساد بأنواعه، تبلورت الطقوس في المنطقة الخضراء بعد محادثات برلمانية وحرسوطنيّة، فاستحدثت "مكاتب التنظيم" بهدف منح موافقات الترحل بين الأحياء. من هناك ولدت مصطلحات "جمهورية الكذا، إمارة الـ..، مملكة، ولاية، دوقيّة، سلطنة.." ومن هناك حضت أسوار بغداد على اسم "الجدار المقدس"، رغم أنّ ذلك الكالح الرمادي ليس حائط مبكى ولا سور صين أو سد مأرب أو طاق كسرى.

ذلك الكالح الرمادي نفخ الأحياء حين حاصرها فطارت في زي جمهورية، أو مملكة أو امبراطورية. وظلّت الأحياء المنتفخة الطائرة تدين بالطاعة للجدار المقدس. فاستحدثت عاصمة، انقسمت إلى ممالك تتوسطها عواصم تنشطر إلى بلدان فيها عواصم وبلدان فعواصم فبلدان فعواصم فبلدان.

والسور المقدّس هو الذي أوحى لهذه البلدان أن تعتمد الضواحي متنا والعاصمة هامشا. فالعاصمة، حسب فلسفة الجدار، مركز خطر والضاحية مصدر أمان. قنابر الهاون مثلا لا تمس الضواحي المسوّرة، بسبب مسار خط التقوس للقنبلة، والمفخخات قابلة للكشف عند الجدار المحاط بحراسات مكثفة.

أمر مثير للانتباه، دفع العواصم أن تتفسخ ما أن تولد، لتتشبّه بالضواحي.

للعواصم معمار آلياته تخضع لمفاهيم الهجوم والدفاع حفاظا على أموال وأمن الأثرياء. عاصمة دوقية حي العامل تأثرت بمعمار المدن الرومانية، السوق مركز الحياة فيها وهو مدوّر مسيّج بجامع وفندق ومبنى حكومي ومركز انترنت. تشقّ الساحة سبع طرق تتجّه للمحيط. الطرق تعامدها طرق وتوازيها طرق. الطرق المنشقّة عن السوق تشغل ركناً من التقاطع كما تمتاز بمواقع مفتوحة مفضية إلى المبنى الحكومي أو الجامع التي تفضي بدورها إلى أزقة خفيّة. الشوارع تفكّك عاصمة الدوقية إلى مجاورات وأحياء لكل منها مركز وسوق. اعتماد الزي الموحّد لشبكة الشوارع يلغي التمايزات، ما عدا بعض التفاصيل: شوارع ذات بواكي، شوارع ذات شناشيل، شوارع ذات أعمدة كهرباء، شوارع متقوسة محيطية.(* )

عاصمة سلطنة البياع تشبه مسجدا مركزه "يتكتّر" جنوبا أسفل المؤذن في أعلى المنارة، وتختلف عاصمة جمهورية السيدية، عن عاصمة ولاية البتاويين. الأولى مزدوجة الأعراق والثانية مختلطة بطوائف لا تعد ولا تحصى، تعلّم حدودها أسلاك شائكة بدل الكونكريت الفاخر. وتنوّع ولاية البتاويين، متطرّف جدا: مطابع بعثية وبائعي خمور وعربات مزّة ورسامين تجريديين وأتاوات ميليشيات وغضون عواهر متقاعدات. جمهورية شارع حيفا تفتقد التنويع. فالبعث نقي هناك، وتتهدّم الدنيا ولا يتهدّم!


ميّت يحكي

قبل موتي، انتزعت من حنجرتي التي شقّقها النزع الأخير كلمات أو أصوات تشبه الكلمات. شرود ابنتي، صابرين، الذي حلّ بديلا عن النواح كان دليلا على أنّ رسالتي وصلت.

ـ افتحي ملف زوجك الأول، المهدي. فلدى السندباد قرائن تقول أنّه ما زال حيّا.

هل كنت أشعر بالعار، في تلك اللحظة القاتمة، لتكتمّي كل ذلك الزمن؟ كيف لي أن أعرف أنّ زوجها الثاني، السندباد، وئد شهواتها وتسبّب في انعقاد الرحم؟ أنّى لي أن أعرف مصدر شجاراتهما الطويلة؟ من أين أعرف أنّ السندباد مخصي، أنا الذي رأيته يستمني في الحديقة، ممسكا بصورة رقيّتين ملتصقتين؟ وحتى حين قالت صابرين ذات ليلة أنّها تشعر وكأن المهدي، زوجها الأول، ما زال حيا، عزفت عنها وقلت أنا لا أتدخل بينك وبين الماضي.


على لساني

أنا ساهمة. أبي يحتضر. "يتمرغل" من رعب بين طيّات الشرشف. السندباد "يشبّ وينطفي" راثيا أبي الذي ما زال حيا. الجيران يؤبّنون أبي وهو يبحلق بهم. رعب أبي يعجّل بخطواته صوب الموت.

هرعت خارج الصالون عندما تأكدت أنّني فهمت ما قاله أبي. التحق السندباد بي:

ـ أريد الاعتراف.
قال.

ـ نعم. عندي بعض المعلومات عن المهدي، رؤوس أقلام عن الجهة التي ما زالت تحتفظ به.

هرعت خارج نفسي:

ـ ما زالت تحتفظ به؟
ـ الحقيقة أنّني لم أهرب يوم الاختطاف. والمهدي لم يبتلعه جدار. موجز القصة أنّنا أردنا الذهاب مع بعض الأصدقاء إلى اتحاد الأدباء. عند جسر الطابقين أوقفتنا دوريّة وهمية. حشرتنا في طوربيد هبط تحت الماء وطفى على سطح دجلة في سلطنة التاجي. عن طريق مكتب في شارع السعدون تعرفنا على العلاسة. دفعنا الفدية. الفدية وصلت والمهدي لم يظهر، لا في المشرحة ولا في المزابل ولا المستشفيات. أبوه باع البيوت والأراضي لتسليم الفدية تلو الأخرى. وبعد أن نفذت النقود وظلّ العلاسين يلحّون على الدفع أيقن أبوه أنّه ميت فأقيم الحداد. وما دفن في التابوت الذي منعه الأب من الفتح كان مجرد أدعية وخضر الياس.

لذلك ظلّ أبوه يقود بحوثا شعارها أنّ المهدي "ما زال معلوسا"، طالما غابت أدلة موته. عام 2027، أكّد لنا أخو المهدي أنّه معتقل، وقررّ أن يجوب مراكز المخابرات. فقد تعيّن برتبة مدير عام في المخابرات واعتمد على تصريح ضابط، يريد التقرّب للمدير العام، قال أنّه شاهد اسم المهدي محفورا على حائط أحد سجون الكرادة.

ـ كل هذا وأنا لا أعرف اي شيء؟!!
ـ هذه مواقف للرجال!

طردت السندباد بصيحة.

سيظهر المهدي إذن! ربما سيتسلل عبر الاسطبل إلى غرفة النوم فيفاجئ بالسندباد في الفراش. سيقسم السندباد أنّه لم يلمسني أبدا.

صمت طويل.

نحيبي بين الصديق الذي يعرف أنّ صديقه ما زال حيا والحبيب الذي يجب أن يشكر صديقه لائتمانه فرج زوجته.

سيشرع المهدي عورات الماضي، يوم هادن السندباد صدام، وسيعلّق على ذلك المشجب الخيانات وسيصيح إنّي لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون! أيخون إنسان صديقه؟( ) سيصرخ السندباد أن ليس في الأمر خيانة، وينسى أن يقول بأنّه أخفى الحقيقة عني.

سيتنازل السندباد عني وسيلفظني المهدي. سيبحث الصديقان من جديد عن طريقة للتعايش. لكنّ وجودي سيقف في وجه صداقتهما. أنا لست سوى زوجة رجلين في آن واحد. والحل المثالي للبراء من هذه الخطيئة هو اختفائي.

منتصف الليل.
القمر.

البغل ينام في هذه الساعة. سيحرن البغل، وسيتوسل المهدي به كأنّه يستجدي امرأة! سيقول المهدي أنّه سيستدعي حاسة الإستشعار عن بعد. الموهبة تكمن في الوصول المباشر للهدف. وقت السحر سيئداني. فالرجلان مثقفان لا يحبّان مرأى الدم.


عند مدخل المدينة

العام 2030
عائد إلى جمهورية السيدية حقا أم أنا أحلم؟

تبدو لي الجدران من هذا الارتفاع الشاهق كأسوار مدينة غربية. قلاع زجاجية وشوارع بعرض الأنهار. يهبط بي بساط الريح قريبا من الأرض. أعزف العود. ترقص نساء في بنطلونات جينس. يطير البساط في الشوارع. لا فوضى، ولا قوى يُطلقها أمريكان من معاقلها وتحوّل العاصمة إلى ساحة للفظاعات.

يضبّب رأسي دخان.

يتوقف بساط الريح. إشارة مرور حمراء! اشارات مرور تنظّم كل شيء، حتى بساط الريح وأصحاب العوينات الطبية. وإلا ماذا تعني تلك الإشارة المكّونة من دائرتين مربوطتين بخط من الأعلى؟

محطة قطار مزججّة ارتفاعها أكثر من 50 متر. بالقرب منها ستائر مياه ملوّنة ومظلات عملاقة تمنع الشمس، سوق المدينة الدائري قبّة زجاجية كقمر هبط للتو على الأرض، ناطحات سحاب زجاجية تحيط بالقمر. نطير بمحاذاة سلم كهربائي. ثمّة برج طيران، مسارح دائرية مفتوحة ومغلقة.

المدينة مزوّدة بكل شيء. لا يشذّ عن القاعدة سوى برج المراقبة القديم المتهالك. البرج يبدو وكأنه في حالة هدنة أكثر من حالة بقايا حرب.

هل أتجّه إلى البيت؟


على لساني

بعد موت أبي، وبعد اعترافه لاحظت أنّ السندباد تنفّس الصعداء. ثمّة شيء غامض!! فمنذ أن تزوجّت منه لم ينتصب له شيء بدعوى أنّه يشعر وكأنّه يخون صديقه الحميم.

حفرت في الحديقة فجوة عمقها مترين جهّزتها بتابوت وموبايل. سكر السندباد. خلع بنطاله فرأيت قضيبه منتصبا لأول مرّة منذ 20 سنة. أمسكت به من هناك فتعثّر وسقط في الفجوة. ثبّت "صوندة" في "قبغ" التابوت ورميت القبغ في الفجوة(* ).

تراب، تراب، تراب.

تلفنت له صباح اليوم التالي:

ـ أين المهدي؟

لم يستوعب أنّه مدفون. ظنّ أنّه في بطن حوت. أغلقت الموبايل. مساء اتصلت به مجددا.

ـ أين المهدي؟

خيالاته جنحت إلى معجزة ستحدث، كما كانت تحدث في القصص. أغلقت الموبايل. في اليوم الثالث قاربت بطارية الموبايل أن تنتهي، اتصلت ونصحته بالاعتراف لأنّ نهاية بطارية الموبايل تعني نهاية بطاريته أيضا.

ـ أين المهدي؟
ـ أنا علسته! أخذته إلى معبر سلطنة التاجي بدلا من معبر إمارة الشعلة، وسلّمته إلى صكاك مقابل 15% من السعر الكلي.
ـ هل هو حي؟
ـ نعم!
ـ أين؟
ـ في فجوة محفورة في حائط. 
ـ كيف يأكل؟
ـ تصله وجبة طعام كل منتصف ليل.
ـ 20 سنة تطعم زوجي وتنام في فراشه؟
ـ لا. الزوار يدفعون أجور الطعام. السادن يقبض 90% من النذور والباقي طعام للمهدي.
ـ أين ذلك الحائط؟
ـ في المدائن.
ـ حائط أبو علـﮓ الذي يقال أنّه يئن ونشرت صوره في اليوتيوب؟
ـ نعـ....

وانتهى شحن البطارية.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  شي ماء الصقر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni