... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
قراءة لوليتا في طهران كتاب مفتوح في مجتمع مغلق

د. عبد الله ابراهيم

تاريخ النشر       25/03/2010 06:00 AM


بَنَت الكاتبة الإيرانية «آذر نفيسي» المسار العلمي لحياتها في سويسرا وبريطانيا وأميركا على خلفية ليبرالية ذات ميول يسارية، متأثرة بالحركات الطلابية الإيرانية خلال سبعينيات القرن العشرين، وتزامنت عودتها إلى بلادها مع التحولات السياسية التي عرفتها إيران في عام ١٩٧٩م وتغيير نظام الحكم من سلطة امبراطورية مستبدة إلى ثيولوجية شمولية، فانهارت القيم الليبرالية، ونشأت أخلاقيات مغايرة امتدت إلى مناحي الحياة كافة، ثم أعقب ذلك تحول كبير، إذ أعيد انتاج الهوية الإيرانية من مفهومها الفارسي القديم إلى مفهوم إسلامي، وأفضت التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية إلى تفريغ الدولة من محتواها الايدلوجي القومي وتعبئتها بمفهوم ديني، وجرى اجتثاث التركة الامبراطورية، واقتضى ذلك استبعاد النخبة القديمة وثقافتها، وابتكار نخبة أخرى عهد إليها تطوير الأخلاقيات الجديدة، وتكريسها، والحفاظ عليها بكل الوسائل المتاحة.
لم تجد «آذر نفيسي» لها مكاناً في المشهد الجديد، فرؤيتها للعالم تشكلّت في اطار مختلف، وتكوّن وعيها الأنثوي في سياق ثقافة مدنية، وكانت تنتمي لأسرة لها صلة بالنظام القديم، لكنها فقدت حظوتها لديه قبل الثورة، فنظر إليها باعتبارها جزءاً من العهد الامبراطوري، وحاملة للمفاهيم الغربية في الحياة الاجتماعية، فكان أن قوبلت بالازدراء في جامعة طهران حينما التحقت استاذة للأدب الانجليزي، حيث دُفعت إلى خوض سجالات في قلب الجامعة انتهت بهزيمتها أمام تيار جارف من الولاءات التي جعلها النظام الجديد علامة على الوفاء للعهد الجديد، فطردت من جامعة طهران.
ولم يمض وقت طويل إلا وأقنعها أصدقاء لها الالتحاق بجامعة «العلامة الطباطبائي» باعتبارها أكثر استنارة من الأولى، فإذا بالمراقبة تلاحقها في الحرم الجامعي الجديد، وتشتد في رصد ميولها الفكرية، وإدانة سلوكها الشخصي الذي قبل على مضض ارتداء الحجاب، والامتثال للأنظمة الاكاديمية التي كانت خليطاً من التحيزات الدينية للسيطرة على المجال العام، والرغبة المعلنة في محو التنوعات الثقافية، ووضع الجميع تحت طائلة المساءلة الفكرية، ثم التحذير من أي سلوك فردي لا يقبل الامتثال للمعايير الأخلاقية التي سنَّتها الثورة، فانتهت «آذر نفيسي» إلى أن حصرت اهتماماتها في المنطقة الأدبية المحضة، وجعلت منها عالمها الافتراضي الذي تفكر وتعيش في داخله، فلم يرق للمؤسسة الدينية، وحينما يئست من قبول الجو المشحون بالولاء، و،الخوف، وتحويل التعليم إلى نوع من الإرشاد والوعظ، قررت أن تنهي علاقاتها بالجامعة، وانصرفت إلى ضرب خاص من الحياة الثقافية بعيداً عن المؤسسة الأكاديمية، فانشأت ورشة دراسية حرة في بيتها لسبع من طالباتها المميزات، فمضين بحرية كاملة يدرسن السرد الأدبي بوصفه عالماً موازياً لعالم الواقع، فانفتح حوار مفتوح في وسط عالم مغلق حول رواية «لوليتا» لكن الأصداء الخارجية سرعان ما تسللت إلى تلك الحلقة الضيقة، وكل تأويل لعمل أدبي إنما يأخذ معناه من السياق الثقافي الحاضن له، أكثر مما كان يأخذ معناه من السياق الحاضن لتأليفه، فصارت كل التلميحات المضمرة في تضاعيف تلك الرواية كناية عن تأملات وأفكار متصلة بالواقع الإيراني.

جرى التأكيد على اختيار كتاب «لوليتا» للكاتب الروسي «فلاديمير نابوكوف» بقصدية واضحة، فالكاتبة الإيرانية تريد أن تتماهى مع تجربة الكاتب الروسي أيام الثورة الروسية، فحكايته تمثيل استعاري لحكايتها، وقاعدة الحكايتين هي المماثلة، فقد كان في التاسعة عشرة من عمره حينما قامت الثورة الروسية، لكنه لم يسمح لنفسه بأن يتأثر بأصوات الرصاص، وأعمال القتل، فواصل كتابة قصائده الصوفية بينما كانت أصوات البنادق تتناءى لمسامعه، وتراءى له المحاربون الدمويون عبر الشباك، فلا غرابة أن تقول لطالباتها «دعونا نجرّب بعد سبعين عاماً من ذلك الحدث، ما إذا كان إيماننا الحقيقي بالأدب جديراً بأن يجعلنا نعيد صياغة هذا الواقع المظلم الذي خلفته لنا ثورة أخرى».
لا ينتهي التماثل بين نابوكوف وآذر نفيسي عند نقطة العزوف عن المشاركة بفعل دموي اتخذ اسم ثورة، وابتكار موقف شخصي مختلف، إنما تعداه إلى ما هو أهم، فالكاتب الروسي، لا يطلق العنان لقوى الشر، لكنه يفضح ضعفها، فتكون مثار سخرية، لأن عنفها يمارس ضد ضحايا عزل، تجد في قوى الشر ممارسة غير معقولة، فلا يكون أمامها «سوى الانسحاب إلى داخل نفسها من أجل البقاء على قيد الحياة» فقد صور طبيعة الحياة في مجتمع شمولي «حيث يحيا المرء وحيداً بشكل كامل في عالم خداع تملؤه الوعود الكاذبة، وحيث يصبح من المستحيل عليه التفريق ما بين المخلص والجلاد». وفي حال آذر نفيسي، فينبغي إذن أن يدس المزاح في قلب المأساة، وتعلن السخرية من تعاسة المصير من أجل البقاء على قيد الحياة.

لم يكن اختيار رواية «لوليتا» عشوائياً ففيها العرة الموازية ويمكن استعارتها وسيلة للحديث عن الذات الايرانية حيث استعبد الشيخ «هومبرت» جسد فتاة في الثانية عشرة من عمرها، ثم قام بتزييف تاريخها الشخصي مختلقاً لها آخر من توهماته، فعلى غرار ذلك فقد انتهكت تلك الذات بعنف، وزُيف لها تاريخ لا أساس له من الصحة، فاتضحت وظيفة المماثلة بإسقاط الواقعة السردية على الواقعة التاريخية، فاكتسبت الاستعارة معناها في سياق التاريخ الإيراني.
والحال هذه، فنابوكوف عرض لمشكلة معقدة تتصل بالعلاقة بين الدناءة والبراءة، فقد وقع العجوز «همبرت» في هوس الاشتياق الجنسي الدائم، فلازمته مراهقة متأخرة، دفعت به إلى السقوط في الإثم، بعد أن تلاشت إرادته الإنسانية، وانحسرت صلابته، وأصبح مصدراً للأذى، فانتهز حاجة «لوليتا» إلى حام إثر وفاة أمها، فسعى للاستئثار بها، وعبّر بذلك عن نقص فادح في حياته العاطفية ظل مصراً على إشباعه دون مراعاة شروط عمره، فأصبحت البراءة لوحة بيضاء تنطبع عليها رذائله، وبإزاء عجوز تمادى في رغباته المتأخرة، بدا وكأن وجود لوليتا فرضه تخيل جامح استعاده رجل عاجز ليجعل منه معادلاً موضوعياً لأزمته العاطفية المشوهة، فلوليتا ارتقت إلى رتبة الملاك الجميل الذي يستحيل تجسيد صورته، فكأنها نموذج متخيل لظمأ ذكوري يتعذر وجوده في العالم. وترى «آذر نفيسي» بأنه يمكن تعميم هذه الحال على واقع بلادها، حينما خطفت من طرف يماثل في حقيقته التصوير المجازي في الرواية.
كشف كتاب «أن تقرأ لوليتا في طهران» ل«آذر نفيسي» عن تلك التجربة التي استمرت نحو عقدين من الزمان، وهي تجربة ممانعة غايتها رفض تجريد الإنسان من هويته الشخصية، ورؤيته لنفسه ولعالمه، ومقاومة نزعه من سياق فكري متنوع وإدراجه في مماثلة تقوم على الإذلال.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. عبد الله ابراهيم


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni